المنشورات
أحكام المجتهدين في الأصول والفروع:
ثم اختلف أهل الأصول في تصويب المجتهدين في الأصول والفروع.
فعامة أهل الأصول على أن الناظر في المسائل الأصولية، والأحكام العقلية اليقينية القطعية: يجب أن يكون متعين الإصابة؛ فالمصيب فيها واحد بعينه. ولا يجوز أن يختلف المختلفان في حكم عقلي حقيقة الإختلاف: بالنفي والإثبات، على شرط التقابل المذكور؛ بحيث ينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه، من الوجه الذي يثبته، في الوقت الذي يثبته إلا وأن يقتسما: الصدق والكذب، والحق والباطل؛ سواء كان الاختلاف: بين أهل الأصول في الإسلام، أو بين أهل الإسلام وبين أهل الملل والنحل الخارجة عن الإسلام؛ فإن المختلف فيه لا يحتمل توارد الصدق والكذب، والصواب والخطإ عليه في حالة واحدة. وهو مثل قول أحد المخبرين: زيد في هذه الدار في هذه الساعة؛ وقول الثاني: ليس زيد في هذه ال الدار في هذه الدار في هذه الساعة. فإنا نعلم قطعاً أن أحد المخبرين صادق، والآخر كاذب؛ لأن المخبر عنه لا يحتمل اجتماع الحالتين فيه معاً؛ فيكون زيد في الدار، ولا يكون في الدار.
لعمري! قد يختلف المختلفان في حكم عقلي في مسألة، ويكون محل الاختلاف مشتركاً، وشرط القضيتين نافذاً؛ فحينئذ يمكن أن يصوب المتنازعان؛ ويرتفع النزاع بينهما برفع الاشتراك، أو يعود النزاع إلى أحد الطرفين.
مثال ذلك: المختلفان في مسالة الكلام؛ ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فإن الذي قال: هو مخلوق، أراد به: أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان، والرقوم والكلمات في الكتابة؛ قال: وهذا مخلوق. والذي قال: ليس بمخلوق، لم يرد به الحروف والرقوم، وإنما أراد به معنى آخر؛ فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد.
وكذلك في مسألة الرؤية فإن النافي قال: الرؤية إنما هي: اتصال شعاع بالمرئي، وهو لا يجوز في حق الباري تعالى. فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد؛ ألا إذا رجع الكلام إلى إثبات حقيقة الرؤية فيتفقان أولاً على أنها ما هي؟ ثم يتكلمان: نفياً وإثباتاً.
وكذلك في مسألة الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام، ثم يتكلمان نفياً، وإثباتا؛ وإلا فيمكن أن تصدق القضيتان.
وقد صار أبو الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب؛ لأنه أدى ما كلف به من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه، وإن كان متعيناً: نفياً، وإثباتاً؛ إلا أنه أصاب من وجه. وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرق, وأما الخارجون عن الملة فقد تقررت النصوص والغجماع على كفرهم، وخطئهم. وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل مجتهد على الإطلاق. إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر، وتصديق كل قائل.
وللأصوليين خلاف في تكفير أهل الأهواء، مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه؛ لأن التفكير: حكم شرعي، والتصويب: حكم عقلي؛ فمن مبالغ متعصب لمذهبه: كفر وضلل مخالفه، ومن متسائل متألف: لم يكفر.
ومن كفر: قرن كل مذهب ومقالة واحد من أهل الأهواء والملل؛ كتقرين القدرية بالمجوس، وتقرين المشبهة باليهود، وتقرين الرافضة بالنصارى؛ وأجرى حكم هؤلاء فيهم من المناكحة وأكل الذبيحة.
ومن تساهل ولم يكفر: قضى بالتضليل، وحكم بأنهم هلكى في الآخرة.
واختلفوا في اللعن على حسب اختلافهم في التكفير والتضليل.
وكذلك من خرج على الإمام الحق بغياً وعدواناً؛ فإن كان صدر خروجه: عن تأول وإجتهاد، سمي باغياً مخطئاً. ثم البغي: هل يوجب اللعن؟
فعند أهل السنة: إذا لم يخرج بالبغي عن الإيمان؛ لم يستوجب اللعن.
وعند المعتزلة: يستحق اللعن بحكم فسقه؛ والفاسق خارج عن الإيمان. وإن كان صدر خروجه عن البغي، والحسد، والمروق عن الدين فإجماع المسلمين؛ استحق: اللعن باللسان، والقتل بالسيف والسنان.
وأما المجتهدون في الفروع؛ فاختلفوا في الأحكام الشرعية: من الحلال والحرام؛ ومواقع الاختلاف مظان غلبات الظنون؛ بحيث يمكن تصويب كل مجتهد فيها. وإنما يبتني ذلك على أصل؛ وهو أنا نبحث: هل لله تعالى حكم في كل حادثة أم لا؟
فمن الأصوليين من صار إلى أن لا حكم لله تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكماً بعينه قبل الإجتهاد: من جواز، وحظر، وحلال، وحرام؛ وإنما حكمه تعالى: ما أدى إليه اجتهاد المجتهد؛ وأن هذا الحكم منوط بهذا السبب، فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم، خصوصاً على مذهب من قال: إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات؛ وإنما هي راجعة إلى أقوال الشارع: افعل، لا تفعل. وعلى هذا المذهب كل مجتهد مصيب في الحكم.
ومن الأصوليين من صار إلى أن لله تعالى في كل حادثة حكماً بعينه؛ قبل الاجتهاد: من جواز وحظر؛ بل وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف من تحليل وتحريم؛ وإنما يرتاده1 المجتهد بالطلب والاجتهاد؛ إذ الطلب لا بد له من مطلوب، والاجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى شيء، فالطلب المرسل لا يعقل. ولهذا يتردد المجتهد بين النصوص والظاوهر والعمومات، وبين المسائل المجمع عليها؛ فيطلب الرابطة المعنوية، أو التقريب من حيث الأحكام والصور؛ حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلقيه في المتفق عليه. ولو لم يكن له مطلوب معين: كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه؟ فعلى هذا المذهب: المصيب واحد من المجتهدين في الحكم المطلوب؛ وإن كان الثاني معذوراً نوع عذر؛ إذ لم يقصر في الاجتهاد.
ثم: هل يتعين المصيب، أم لا؟ فأكثرهم على أنه لا يتعين؛ فالمصيب واحد لا بعينه.
ومن الأصوليين من فصل الأمر فيه؛ فقال: ينظر في المجتهد فيه، فإن كانت مخالفة النص ظاهرة في واحد من المجتهدين، فهو المخطئ بعينه، خطأ لا يبلغ تضليلا، والمتمسك بالخبر الصحيح والنص الظاهر مصيب بعينه. وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة: فلم يكن مخطئا بعينه؛ بل كل واحد منهما مصيب في اجتهاده، وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه.
هذه جملة كافية في أحكام المجتهدين في نوعي: الأصول، والفروع. والمسألة مشكلة، والقضية معضلة.
مصادر و المراجع :
١- الملل والنحل
المؤلف: أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)
الناشر: مؤسسة
الحلبي
15 يوليو 2024
تعليقات (0)