المنشورات

أصحاب الروحانيات

وفي العبارة لغتان:
روحاني، بالضم؛ من الروح، وروحاني، بالفتح؛ من الروح.
والروح والروح متقاربان1، فكأن الروح جوهر، والروح: حالته الخاصة به.
1- مذهب أصحاب الروحانيات:
ومذهب هؤلاء: أن للعالم صانعا، فاطرا، حكيما، مقدسا عن سمات الحدثان. والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون, المطهرون، المقدسون جوهرا، وفعلا، وحالةً.
أما الجوهر:
فهم المقدسون عن المواد الجسمانية، المبرءون عن القوى الجسدانية، المنزهون عن الحركات المكانية, والتغيرات الزمانية. قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2. وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول عاذيمون وهرمس. فنحن نتقرب إليهم، ونتوكل عليهم، وهم أربابنا وآلهتنا، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب، وإله الآلهة رب كل شيء، ومليكه.
فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، حتى تحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات، فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيات الشهوات، باستمداد من جهة الروحانيات. والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم، فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، بل يكون حكمنا وحكم من يدعي الوحي على وتيرة واحدة.
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وأشكالنا في الصورة, يشاركوننا في المادة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا في الصورة. أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم؟ وبأية مزية لهم لزمت متابعته؟ {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 1. مقالتهم.
وأما الفعل:
فقالوا: الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع، والإيجاد، وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال يستمدون القوة من الحضرة القديسة، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية.
فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها، فلكل روحاني هيكل، ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به، نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه ومدبره ومديره. وكانوا يسمون الهياكل: أربابا، وربما يسمونها: آباء، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص، ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات، فيتبعها قوى جسمانية، وتركب عليها نفوس روحانية، مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي، فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك.
ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو.
مما يصعد من الأرض فينزل، مثل الأمطار، والثلوج، والبرد، والرياح.
ومما ينزل من السماء، مثل: الصواعق، والشهب.
ومما يحدث في الجو: من الرعد، والبرق، والسحاب، والضباب، وقوس قزح، وذوات الأذناب، والهالة، والمجرة.
ومما يحدث في الأرض، مثل: الزلازل، والمياه، والأبخرة, إلى غير ذلك.
ومنها متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات، حتى لا نرى موجودا ما خاليا عن قوة وهداية إذا كان قابلا لهما.
قالوا:
وأما الحالة:
فأحوال الروحانيات، من الروح، والريحان، والنعمة، واللذة، والراحة، والبهجة، والسرور في جوار رب الأرباب: كيف يخفي؟
ثم طعامهم وشرابهم: التسبيح، والتقديس، والتهليل، والتمجيد، والتحميد وأنسبهم بذكر الله تعالى وطاعته. فمن قائم، ومن راكع، ومن ساجد، ومن قاعد لا يريد تبديل حالته، لما هو فيه من البهجة واللذة، ومن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرك، ومن متحرك لا يسكن، ومن كروبي1 في عالم القبض، ومن روحاني في عالم البسط: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید