المنشورات

مناظرات بين الصابئة, والحنفاء:

وقد جري مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض وبين البشرية النبوية.
ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب, وفيها فوائد لا تحصى:
قالت الصابئة:
الروحانيات أبدعت إبداعا، لا من شيء لا مادة، ولا هيولى، وهي كلها جوهر واحد، على سنخ1 واحد وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها، وهي من شدة ضيائها لا يدركها الحس، ولا ينالها البصر، ومن غاية لطافتها يحار فيها العقل، ولا يجول فيها الخيال.
ونوع الإنسان مركب من العناصر الأربعة، مؤلف من مادة وصورة، والعناصر متضادة ومزدوجة بطباعها. اثنان منها مزدوجان، واثنان منها متضادان, ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج. فما هو مبدع لا من شيء، لا يكون كمخترع من شيء.
والمادة والهيولى سنخ الشر، ومنبع الفساد، فالمركب منها ومن الصورة: كيف يكون كمحض الصورة؟، والظلام كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج، والمطر في هوة الاختلاف كيف يرقي إلى درجة المستغني عنهما؟
أجابت الحنفاء:
بأن قالت: بم عرفتم معاشرة الصابئة وجود هذه الروحانيات؟ والحس ما دلكم عليه، والدليل ما أرشدكم إليه؟. قالوا: عرفنا وجودها، وتعرفنا أحوالها من عاذيمون، وهرمس: شيث، وإدريس عليهما السلام.
قالت الحنفاء: لقد ناقضتم وضع مذهبكم. فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني: نفي متوسط البشري، فصار نفيكم إثباتا. وعاد إنكاركم إقرارا.
ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء أشرف من المخترع من شيء؟ بل وجانب الروحاني أمر واحد. وجانب الجسماني أمران:
أحدهما: نفسه وروحه.
والثاني: حسه وجسده، فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى, ومن حيث الجسد مخترع بخلقه، ففيه أثران: أمري وخلقي: قولي, وفعلي فساوى الروحاني بجهة، وفضله بجهة، خصوصا إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى, بل كملت وطهرت.
وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين:
أحدهما: أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد والجسماني المجرد، فحكمتم بأن الفضل للروحاني، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد. والجسماني والروحاني المجتمع، ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد فإنه بطرف ساواه، وبطرف سبقه، والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها، ولم تؤثر فيه أحكام التضاد والازدواج، بل كان مستخدما لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله حصل التركيب، وعطلت الوحدة والبساطة، وذلك تخليص النفوس التي تدنست بالمادة ولوازمها، وصارت العلائق عوائق.
وليت شعري: ماذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟ وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
هذا كمن خاير بين اللفظ المجرد والمعنى المجرد: اختار المعنى، قيل له: لا، بل خاير بين المعنى المجرد والعبارة والمعنى، حتى لا يشكل، إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة، أشرف من المعنى المجرد.
والوجه الثاني: أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالا وتماما فحسب، ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمل غيره، ففاضلتم بين كمالين مطلقان, وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني! ونحن نقول: ما قولكم في كمالين: أحدهما كامل، والثاني كامل ومكمل عالما, أيهما أفضل؟
قالت الصابئة:
نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب، وهما ينزعان إلى البهيمية والسبعية، وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها، فيثور من الشهوية: الحرص والأمل، ومن الغضبية: الكبر والحسد, إلى غيرهما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما: صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها، لم يحملهم الغضب على حب الجاه، ولا حملتهم الشهوة على حب الماء. بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة، وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد؟!
أجابت الحنفاء:
بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل. فإن في طرف البشرية نفسين نفس حيوانية لها قوتان: قوة الغضب، وقوة الشهوة، ونفس إنسانية لها قوتان: قوة علمية، وقوة عملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال، ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له من العقائد: الحق دون الباطل، ومن الأقوال: الصدق دون الكذب، ومن الأفعال: الخير دون الشر، ويختار بقوته العملية من لوازم القوى الغضبية: الشدة، الشجاعة، والحمية، دون الذلة، والجبن، والنذالة، ويختار بها أيضا من لوازم القوة الشهوية التآلف، والتودد، والبذاذة، دون الشره، والمهانة، والخساسة فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليه وصديقه. وإذا بلغ هذا الكمال، فقد استخدم القوتين واستعملهما في جانب الخير، ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب، وإبلاغها إلى حد الكمال.
ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها، لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها، وحكم العنين العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة، لا يكون كحكم المتصون الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر مع القدرة عليه، فإن الأول: مضطر عاجز. والثاني: مختار، قادر، حسن الاختيار. جميل التصرف. وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين، وإنما الكمال كله في استخدام القوتين.
فنفس النبي عليه السلام كنفوس الروحانيين: فطرة، ووضعا، وبذلك الوجه وقعت الشركة. وفضلها وتقدمها باستخدام القوتين التي دونها، فلم تستخدم. واستعمالهما في جانب الخير والنظام، فلم تستعمله، وهو الكمال.
قالت الصابئة:
الروحانيات صور مجردة عن المواد, وإن قدر لها أشخاص تتعلق بها تصرفا، وتدبيرا، لا ممازجة ولا مخالطة، فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا والفرض أنها إذا كانت صورا مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة: كاملة لا ناقصة، والمتوسط يجب أن يكون كاملا حتى يكمل غيره. وأما الموجودات البشرية فصور في مواد، وإن قدر لها نفوس، فنفوسها إما مزاجية، وإما خارجة عن المزاج. والفرض أنها إذا كانت صورا في مواد، كانت موجودات بالقوة لا بالفعل، ناقصة لا كاملة، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمرا بالفعل، ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج، فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل، بل بغيره. والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل، والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج؟
أجابت الحنفاء:
هذا الحكم الذي ذكرتموه، وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل, غير مسلم على الإطلاق، لأن من الروحانيات ما يكون وجوده بالقوة، أو ما هو فيه وجود بالقوة، ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل، حتى يخرجه من القوة إلى الفعل. فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم، والعقل له إعداد لكل شيء، وفيض على كل شيء، وأحدهما بالقوة والآخر بالفعل، وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية. فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمشى له قاعدة أصلا، وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب، فليس كل روحاني كاملا من كل وجه، ولا كل جسماني ناقصا من كل وجه. فمن الجسمانيات أيضا ما وجوده كامل بالفعل، وسائر النفوس أيضا محتاجة إليه، وذلك أيضا لضرورة الترتب في الموجودات السفلية, وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلا، وإذا ثبت الترتب، فقد ثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب، فليس كل جسماني ناقصا من كل وجه.
قالت: وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحانين وإنما يختلفان من حيث أن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم، والعالمان متقابلان كالشخص والظل، وإذا أثبتم في ذلك العالم موجودا ما بالفعل كاملا تاما، حتى تصدر عنه سائر الموجودات: وجودا، ووصولا إلى الكمال فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضا موجودا ما بالفعل كاملا تاما، حتى تصدر عنه صائر الموجودات: تعلما، ووصولا إلى الكمال.
قالوا: وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية، طريقكم في إثبات الأرباب عندكم, وهي الروحانيات السماوية، وذلك احتياج كل مربوب1 إلى رب يدبره، ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب.
ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة، وإنما الفاعل الكامل واحد، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث، وقد اخبر التنزيل عنهم بذلك {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 2.
وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحدا، فما سواه قابل محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل فكذلك نقول في الموجودات السفلية: النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل، فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل، والمخرج هو النبي والرسول. وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمرا بالقوة، محتاجا، فإن ما لم يتحقق بالفعل وجودا, لا يخرج غيره من القول إلى الفعل، فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير، بل الطير يخرج البيض.
وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه, وفيه فائدة أخرى من وجه آخر, وهي: أن عند الحنفاء المعقول لا يكون معقولا حتى يثبت له مثال في المحسوس، وإلا كان متخيلا موهوما، والمحسوس لا يكون محسوسا حتى يثبت له مثال في المعقول، وإلا كان سرابا معدوما. وإذا ثبتت هذه القاعدة، فمن أثبت عالما روحانيا، وأثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه وجوده بالفعل، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق، فيلزمه ضرورة أن يثبت عالما جسمانيا،ويثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه: وجوده بالفعل، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق. ويسمى المدبر في ذلك العالم "الروح الأول" على مذهب الصابئة. والمدبر في هذا العالم "الرسول" على مذهب الحنفاء, ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة، وملاقاة عقلية، فيكون الروح الأول مصدرا، والرسول مظهرا. ويكون بين الرسول وسائر الشر مناسبة وملاقاة حسية، فيكون الرسول مؤديا، والبشر قابلا.
قال الصابئة:
الجسمانيات مركبة من مادة، وصورة، والمادة لها طبيعة عدمية، وإذا بحثنا عن أسباب الشر، والفساد، والسفه والجهل لم نجد لها سببا سوى المادة والعدم، وهما منبعا الشر.
والروحانيات غير مركبة من المادة والصورة، بل هي صور مجردة، والصورة لها طبيعة وجودية. وإذا بحثنا عن أسباب الخير، والصلاح، والحكمة، والعلم لم نجد لها سببا سوى الصورة، وهي منبع الخير. فنقول: ما فيه أصل الخير, أو ما هو أصل الخير كيف يماثل ما فيه أصل الشر؟!
أجابت الحنفاء:
بأن ما ذكرتم في المادة أنها سبب الشر فغير مسلم: فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم، وذلك هو الهيولى1 الأولى, والعنصر الأول. حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها قبل وجود العقل. ثم إن سلم، في المركب من المادة والصورة كالمركب من الوجوب والجواز عندكم، فإن الجواز له طبيعة عدمية، وما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده جائز بذاته واجب بغيره، فيجب أن يلازمه أصل الشر.
قالوا: وإن سلم لكم أيضا تلك المقدمة، فعندنا صور النفوس البشرية, وخصوصا صور النفوس النبوية كانت موجودة قبل وجود المواد، وهي المبادئ الأولى حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس سرمديين1، وهي الصور المجردة التي كانت موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} 2، وكانت هي أصل الخير ومبدأ الوجود. ولكن لما ألبست الصور البشرية لباس المادة؛ تشبثت بالطبيعة، وصارت المادة شبكة لها، فساح عليها الواهب الأول فبعث إليها واحدا من عالمه، وألبسه لباس المادة، ليخلص الصور عن الشبكة، لا ليكون هو المتشبث بها، المنغمس فيها، المتوسخ بأوضارها3، المتدنس بآثارها. وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزا بالحمامة المطوقة، والحمامات الواقعة في الشبكة.
ثم قالوا: معاشر الصابئة! أبدا تشنعون علينا بالمادة ولوازمها، وما لم نفصل القول فيها لم ننج من تشنيعكم.
فنقول: النفوس البشرية وخصوصا النبوية من حيث أنها نفوس، فهي مفارقة للمادة، مشاركة لتلك النفوس الروحانية: إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية، وأما مشاركة في الجنس، بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة. والجسد لم ينتقص منها، بل كملت هي لوازم الجسد، وكملت بها، حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم من العوم الجزئية، والأعمال الخلقية. والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران، فكان الاقتران خيرا لا شر فيه، وصلاحا لا فساد معه، ونظاما لا فسخ له فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟
قالت الصابئة:
الروحانيات: نورانية، علوية، لطيفة1، والجسمانيات: ظلمانية، سفلية، كثيفة، فكيف يتساويان والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء، وصفاتها، ومراكزها، ومحالها؟. فعالم الروحانيات: العلو لغاية النور واللطافة، وعالم الجسمانيات: السفل لغاية الكثافة والظلمة. العالمان متقابلان، والكمال للعلوي لا للسفلي. والصفتان متقابلتان، والفضيلة للنور لا للظلمة.
أجابت الحنفاء:
قالوا: لسنا نوافقكم أولا على أن الروحانيات كلها نورانية، ولا نساعدكم ثانيا أن الشرف للعلو، ولا نساهلكم أصلا أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.
وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث، فإن فيها فوائد كثيرة.
أما الأولى؛ فقالوا: حكمتم على الروحانيات حكم التساوي، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب. وإذا كانت الموجودات كلها, روحانيها وجسمانيها, على قضية التضاد والترتب، فلما أغفلتم الحكمين ههنا؟! وذلك أن من قال: الروحاني هو ما ليس بجسماني، فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة2 في جملة الروحانيات، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية. ثم من الجن من هو مسلم, ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحا، فمن الأرواح ما هو خير، ومنها ما هو شرير. والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة، فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين، وتنافر بين الطرفين. فلم نسلم دعواكم أنها كلها نورانية.
بلى: وعندنا, معاشر الحنفاء, الروح هو الحاصل بأمر الباري تعالى, الباقي على مقتضى أمره فمن كان لأمره تعالى أطوع، وبرسالات رسله أصدق كانت الروحانية فيه أكثر، والروح عليه أغلب، ومن كان لأمره تعالى أنكر، وبشرائعه أكذب: كانت الشيطنة عليه أغلب.
هذه قاعدتنا في الروحانيات، فلا روحاني أبلغ في الروحانية، من ذوات الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وأما قولكم: إن الشرف للعلو, إن عنيتم به علو الجهة فلا شرف فيه، فكم من عال جهة: سافل رتبة، وعلما، وذاتا، وطبيعة، وكم من سافل: جهة عال على الأشياء كلها رتبة، وفضيلة، وذاتا، وطبيعة.
وأما قولكم: إن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء، وصفاتها، ومحالها، ومراكزها، فليس بحق، وهو مذهب اللعين الأول حيث نظر إلى ذاته، وذات آدم عليه السلام، ففضل ذاته، إذ هي مخلوقة من النار، وهي علوية نورانية، على ذات آدم وهو مخلوق من الطين، وهو سفلي ظلماني.
بل عندنا الاعتبار في الشرف بالأمر وقبوله. فمن كان أقبل لأمره، وأطوع لحكمه، وأرضى بقدره فهو أشرف، ومن كان على خلاف ذلك فهو أبعد، وأخس، وأخبث. فأمر الباري تعالى هو الذي يعطي الروح {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 1، وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقية، وبالحياة يستعد للعقل الغريزي، وبالعقل يكتسب الفضائل ويجتنب الرذائل. ومن لم يقبل أمر الباري تعالى فلا روح له، ولا حياة له، ولا عقل له، ولا فضيلة له، ولا شرف عنده.
قالت الصابئة:
الروحانيات فضلت الجسمانيات بقوتي العلم، والعمل.
أما العلم فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا، وإطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية علينا، ولأن علومها كلية، وعلوم الجسمانيات جزئية، وعلومهم فعلية، وعلوم الجسمانيات انفعالية. وعلومهم فطرية، وعلوم الجسمانيات كسبية فمن هذه الوجوه تحقق لها الشرف على الجسمانيات.
وأما العمل فلا ينكر أيضا عكوفهم على العبادة، ودوامهم على الطاعة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 1 لا يلحقهم كلال ولا سآمة، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة. فتحقق لها الشرف أيضا بهذا الطرف، وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.
أجابت الحنفاء عن هذا بجوابين:
أحدهما: التسوية بين الطرفين، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهم السلام. والثاني: بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.
أما الأول: فإنهم قالوا: علوم الأنبياء عليهم السلام كلية وجزئية، وفعلية وانفعالية، وفطرية وكسبية. فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب -منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية فطرة ودفعة واحدة، ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية اكتسابا بالحواس على ترتيب وتدريج، فكما أن للإنسان علوما نظرية هي المعقولات، وعلوما حاصلة بالحواس عن المحسوسات، فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس، فنظرياتنا فطرية لهم، ونظرياتهم لا نصل إليها قط، بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم، ولنا بكواسب الجوارح: جوارح الحواس. فأمزجه الأنبياء عليهم السلام أمزجة نفسانية، ونفوسهم نفوس عقلية، وعقولهم عقول أمرية. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا، كي تزكي هذه العقول وتصفي هذه الأذهان والنفوس، وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر.
وأما الثاني: فإنهم قالوا: من العجب أنهم لا يعجبون بهذه العلوم، بل ويؤثرون التسليم على البصيرة، والعجز على القدرة، والتبرؤ من الحول والقوة على الاستقلال، والفطرة على الاكتساب {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2على {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 3.
ويعلمون أن الملائكة والروحانيات بأسرها وإن علمت إلى غاية قوة نظرها وإدراكها ما أحاطت بما أحاط به علم الباري تعالى، بل لكل منهم مطرح نظر، ومسرح فكر، ومجال العقل، ومنتهى أمل، ومطار وهم وخيال وإنهم إلى الحد الذي انتهى نظرهم إليه مستبصرون، ومن ذلك الحد إلى ما وراءه ما لا يتناهى مسلمون مصدقون، وإنما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون، والتصديق لما يجهلون، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 1 ليس كمال حالهم، بل {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 2 هو الكمال.
فمن أين لكم معاشر الصابئة أن الكمال والشرف في العلم والعمل لا في التسليم والتوكل؟
وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة، فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين بداية أقدام السالين من الأنبياء والمرسلين {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 3، فعالم الروحانيات بالنسبة إليهم شهادة، وبالنسبة إلينا غيب، وعالم البشر الجسمانيات بالنسبة إلينا شهادة، وبالنسبة إليهم غيب. والله تعالى هو الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 4.
قالت الحنفاء:
من علم أنه لا يعلم، فقد أحاط بكل العلم، ومن اعترف بالعجز عن أداء الشكر، فقد أدى كل الشكر.
قالت الصابئة:
الروحانيات لهم قوة تصريف الأجسام، وتقليب الأجرام. والقوة التي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب5 فتنحسر، ولكن القوى الروحانية بالخواص الجسمانية أشبه، وإنك لترى الخامة اللطيفة من النبات في بدء نموها تفتق الحجر، وتشق الصخر، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من القوة السماوية، ولو كانت هي قوى مزاجية لما بلغت إلى هذا المنتهى. فالروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام تقليبا وتصريفا, لا يثقلهم حمل الثقيل، ولا يستخفهم تحريك الخفيف. فالرياح تهب بتحريكها، والسحاب يعرض ويزول بتصريفها. وكذلك الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها. وكل هذه, وإن استندت إلى أسباب جزئية, فإنها تستند في الآخرة إلى أسباب من جهتها.
ومثل هذه القوة عديم الوجود في الجسمانيات.
أجابت الحنفاء:
وقالوا: منا يقتبس تفصيل القوى، وتجنيسها.
فإن القوى تنقسم إلى: قوى معدنية، وقوى نباتية، وقوى حيوانية، وقوى إنسانية، وقوى ملكية، وقوى روحانية، وقوى نبوية ربانية. والإنسان مجمع القوى بجملتها، والإنسانية النبوية تفضلها بقوى ربانية ومعان إلهية.
فنذكر أولا: وجه تركيب الإنسان ووجه ترتيب القوى فيه. ثم نذكر تركيب البشرية النبوية، وترتيب القوى فيها، ثم نخاير بين الوضعين: الروحاني منهما، والجسماني، وإليك الاختيار.
أما شخص الإنسان فمركب من الأركان الأربعة: التراب، والماء، والهواء، والنار، التي لها الطبائع الأربعة: اليبوسة، والرطوبة، والحرارة، والبرودة، ثم مركب فيه نفوس ثلاثة إحداها: نفس نباتية تنمو، وتتغذى، وتولد المثل، والثانية نفس حيوانية تحس، وتتحرك بالإرادة، والثالثة نفس إنسانية بها يميز، ويفكر، ويعبر عما يفكر.
ووجود النفس الأولى من الأركان وطباعها، وبقاءها بها، واستمدادها منها، ووجود النفس الثانية من الأفلاك وحركاتها، وبقاؤها بها، واستمدادها منها، ووجود النفس الثالثة من العقول البحتة والروحانيات الصرفة، وبقاؤها بها، واستمدادها منها. 
ثم إن النباتية تطلب الغذاء طبعا، والحيوانية تطلب الغذاء حسا، والإنسانية تطلب الغذاء اختيارا وعقلا. ولكل نفس منها محل. فمحل النباتية الكبد، ومنه مبدأ النمو والنشوء، وعن هذا جعل فيه عروق دقاق ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف. ومحل الحيوانية: القلب، ومنه مبدأ تدبير الحس والحركة، وعن هذا فتح منه عروق إلى الدماغ، فيصعد إلى الدماغ. من حرارته ما يعدل تلك البرودة وينزل منه من آثاره ما يدبر به الحركة. ومحل الإنسانية تصريفا وتدبيرا الدماغ، ومنه مبدأ الفكر، والتعبير عن الفكر، وعن هذا فتحت إليه أبواب الحواس مما يلي هذا العالم، وفتحت إليه أبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم. وههنا ثلاثة أعضاء ممدات لا بد منها: المعدة التي تمد الكبد بالغذاء، والرئة التي تمد القلب بترويح الهواء، والعروق التي تمد الدماغ بالحرارة.
فإن التركيب الإنساني أشرف التراكيب، فإن فيه جميع آثار العالم الجسماني والروحاني. وترتيب القوى فيه أكل التراتيب. فهو مجمع آثار الكونين والعالمين، فكل ما هو في العالم منتشر ففيه مجتمع، وكل ما هو فيه من خواص الاجتماع فليس للعالم البتة، لأن للاجتماع والتركيب خاصية لا توجد في حال الافتراق والانحلال. واعتبر فيه حالة السكر والخل، وحال السكنجبين1، وكذلك الحكم في كل مزاج.
هذا وجه تركيب البدن، وترتيب القوى الخاصة به.
وأما وجه اتصال النفس به، وترتيب القوى الخاصة بها مما يلي هذا العالم، ومما يلي ذلك العالم، فاعلم أن النفس الإنسانية جوهر هو أصل القوى المحركة، والمدركة، والحافظة للمزاج: تحرك الشخص بالإرادة، لا في جهات ميله الطبيعي، وتتصرف في أجزائه، ثم في جملته، وتحفظ مزاجه عن الانحلال، وتدرك بالمشاعر المركوزة فيه وهي الحواس الخمسة، فبالقوة الباصرة تدرك الألوان والأشكال، وبالقوة السامعة تدرك الأصوات والكلمات، وبالقوة الشامة تدرك الروائح، وبالقوة الذائقة تدرك المطعومات، وبالقوة اللامسة تدرك الملموسات. وله فروع من قوى منبثة في أعضاء البدن، حتى إذا أحس بشيء من أعضائه، أو تخيل، أو توهم، أو اشتهى، أو غضب ألفى العلاقة التي بينه وبين تلك الفروع هيئة فيه، حتى يفعل، وله إدراك وقوة تحريك.
أما الإدراك فهو أن يكون مثال حقيقة المدرك: متمثلا مرتسما في ذات المدرك، غير مباين له. ثم المثال قد يكون مثال صورة الشيء، وقد يرتسم في القوة الباصرة وقد غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته، مثل أين، وكيف، ووضع، وكم معينة، لو توهم بدلها غيرها لم يؤثر في ماهية ذلك المدرك، والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته.
ثم الخيال الباطن يتخيله مع تلك العوارض التي لا يقدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العوائق الوضعية التي تعلق بها الحس، فهو يتمثل صورة مع غيبوبة حاملها، وعنده مثال العوارض، لا نفس العوارض، ثم الفكر العقلي يجرده عن تلك العوارض، فيعرض ماهيته وحقيقته على العقل، فيرتسم فيه مثال حقيقته، حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا. وأما ما هو بريء في ذاته عن الشوائب المادية منزه عن العوارض الغريبة، فهو معقول لذاته، ليس يحتاج إلى عمل يعمل فيه، فيعقله ما من شأنه أن يعقله، فلا مثال له يتمثل في العقل، ولا ماهية له فيجرد له، ولا وصول إليه بالإحاطة والفطرة، إلا أن البرهان يدلنا عليه ويرشدنا إليه.
وكثيرا ما يلاحظ العقل الإنساني عالم العقل الفعال فيرتسم فيه من الصور المجردة المعقولة ارتساما بريئا عن العوائق المادية والعوارض الغريبة، فيبتدر الخيال إلى تمثله، فيمثله في صورة خيالية مما يناسب عالم الحس، فينحدر إلى الحس المشترك ذلك المثال، فيبصره كأنه يراه معاينا مشاهدا يناجيه ويشاهده، حتى كأن العقل عمل بالمعقول عملا جعله محسوسا، وذلك إنما يكون عند اشتغال الحواس كلها عن أشغالها، وسكون المشار عن حركاتها في النوم لجماعة. وفي اليقظة للأبرار.
يا عجبا كل العجب من تركيب على هذا النمط!! ومن أين لغيره مثله؟؟
ونعود إلى ترتيب القوى وتعيين محالها.
أما القوى المتعلقة بالبدن التي ذكرناها آلات ومشاعر للجوهر الإنساني.
فالأولى منها: الحس المشترك المعروف "ببنطاسيا" الذي هو مجمع الحواس، ومورد المحسوسات، وآلتها الروح المصبوب في مبادئ عصب الحس، لا سيما في مقدم الدماغ.
والثانية: الخيال والمصورة. وآلتها الروح المصبوب في البطن والمقدم من الدماغ، لا سيما في الجانب الأخير.
والثالثة: الوهم الذي هو لكثير من الحيوان، وهو ما به تدرك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه، وبه تدرك معنى في النوع فتنفر إليه وتزدوج به، وآلته الدماغ كله، لكن الأخص منه به هو التجويف الأوسط.
والرابعة: المفكرة, وهي قوة لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني الوهمية المدركة بالوهم، فتارة تجمع، وتارة تفصل، وتارة تلاحظ العقل فتعرض عليه، وتارة تلاحظ الحس فتأخذ منه، وسلطانها في الجزء الأول من وسط الدماغ، وكأنها قوة ما للوهم، وتتوسط بين الوهم والعقل.
والخامسة: القوة الحافظة, وهي التي كالخزانة لهذه المدركات الحسية، والوهمية، والخيالية دون العقلية الصرفة، فإن المعقول البحت لا يرتسم في جسم ولا في قوة في جسم، والحافظة قوة في جسم، وآلتها الروح المصبوب في أول البطن المؤخر من الدماغ.
والسادسة: القوة الذاكرة، وهي التي تستعرض ما في الخزانة على جانب العقل أو على الخيال والوهم، وآلتها الروح المصبوب في آخر البطن المؤخر من الدماغ.
وأما المعقول الصرف المبرأ عن الشوائب المادية، فلا يحل في قوة جسمانية وآلة جسدانية، حتى يقال ينقسم بانقسامها، ويتحقق لها وضع ومثال، ولهذا لم تكن القوة الحافظة، خزانة لها، بل المصدر الأول الذي أفاض عليها تلك الصورة صار خازنا لها.
فحيثما طالعته النفس الإنسانية بقوتها العقلية المناسبة لواهب الصور نوعا من المناسبة، فاضت منه عليها تلك الصور المستحفظة له، حتى كأنه ذكرها بعد ما نسيت، ووجدها بعدما ضلت عنه.
وغريزة النفس الصافية تنزع إلى جانب القدس في تذكار الأمور الغائبة عن حضرة العقل نزاعا طبيعيا، فتستحضر ما غاب عنها، ولهذا السر أخبر الكتاب الإلهي: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} 1.حتى صار كثير من الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكار، وذلك أن النفوس كانت في البدء الأول في عالم الذكار ثم هبطت إلى عالم النسيان فاحتاجت إلى مذكرات لما قد نسيت، معيدات إلى ما كانت قد ابتدأت: {وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 - {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه} 3.
ثم للنفس الإنسانية قوى عقلية، لا جسمانية، وكمالات نفسانية روحانية، لا جسدانية فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي، وذلك أن تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل ولا يفعل, ومن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل، وإنما يخرج من القوة إلى الفعل بمخرج غير ذاتها لا محالة، فيجب أن يكون لها قوة استعدادية تسمى عقلا هيولانيا4، حتى يقبل من غيرها ما به يخرجها من الاستعداد إلى الكمال. فأول خروج لها إلى الفعل حصول قوة أخرى من واهب الصور يحصل لها عند استحضار المعقولات الأول، فيتهيأ بها لاكتساب الثواني: إما بالفكر, وإما بالحدس، فيتدرج قليلا قليلا إلى أن يحصل لها ما قدر لها من المعقولات، ولكل نفس استعداد إلى حد ما لا يتعداه، ولكل عقل حد ما لا يتخطاه، فيبلغ إلى كماله المقدر له، ويقتصر على قوته المركوزة فيه ولا يتبين ههنا وجود التضاد بين النفوس والعقول، ووجوب الترتب فيها.
وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها روحانياتها وجسمانياتها، معقولاتها ومحسوساتها، كلياتها وجزئياتها، علوياتها وسفلياتها فعرفوا مقاديرها وعينوا موازينها ومعاييرها.
وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم، مركبة فيهم، منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس، مستديمة الشروق بنور الحق فيها، حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني موكل بحفظ ما وجه إليه، واستتمام ما رشح له. بل ومجموع جسده ونفسه مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات، وزيادة أمرين أحدهما ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب كما بينا من مثال السكر والخل. والثاني ما أشرق عليه من الأنوار القدسية وحيان وإهاما، ومناجاة، وإكراما.
فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والكمال الموجود؟
بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به؟
وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام، وتصريف الأجرام1، فليس يقتضي شرفا، فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفا. ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك، وليس ذلك مما يوجب شرفا وكمالا. وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له، وأمرت به، وقدرت عليه.
قالت الصابئة:
الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر. متوجهة إلى الخير، مقصورة على نظام العالم، وقوام الكل. لا يشوبها البتة شائبة الشر، وشائبة الفساد، بخلاف اختيار البشر، فإنه متردد بين طرفي الخير والشر لولا رحمة الله في حق البعض، وإلا فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد، إذا كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما. وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى، وطلب رضاه، وامتثال أمره، فلا جرم! كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره، فكما أراد، واختار وجد المراد، وحصل المختار.
وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره، فلا يوجد المراد، ولا يحصل المختار.
أجابت الحنفاء بجوابين:
أحدهما: نيابة عن جنس البشر، والثاني: نيابة عن الأنبياء عليهم السلام.
أما الأول فنقول: اختيار الروحانيات إذا كان مقصورا على أحد الطرفين، محصورا: كان في وضعه مجبورا، ولا شرف في الجبر. واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر، فمن جانب يرى آيات الرحمن، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان، فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر، وتميل به طورا داعية الشهوة إلى أتباع الهوى. فإذا أقر طوعا وطبعا بوحدانية الله تعالى، واختار من غير جبر وإكراه طاعته، وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبورا تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار: صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة. كالمكره فعله: كسبا، الممنوع عما لا يجب جبرا، ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى، كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى، فنهى النفس عن الهوى. فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.
وأما الثاني: فنقول: إن اختيار الأنبياء عليهم السلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه، فهو متوجه إلى الخير، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل، صادر عن الأمر، صائر إلى الأمر، لا يتطاق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد، بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام، فإن العالي لا يريد أمرا لأجل السافل, من حيث هو سافل, بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي، وأمر أعلى من الجزئي.
ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعا لا مقصودا. وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات، لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل، غير معللة بعلة، حتى لا يقال إنما اختار هذا لكذا، وإنما فعل هذا لكذا، فلكل شيء علة ولا علة لصنعه تعالى، بل لا يريد إلا كما علم. وذلك أيضا ليس بتعليل، لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها، وإلا لكان ذلك الشيء حاملا له على ما يريد. وخالق العلل والمعلولات لا يكون محمولا على شيء، فاختياره لا يكون معللا بشيء. واختياره الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره، كما أن أمره ينوب عن أمره، فيسلك سبل ربه ذللا1، ثم يخرج من قضية اختياره نظام حال وقوام أمر مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس. فمن أين للروحانيات هذه المنزلة؟ وكيف يصلون إلى هذه الدرجة؟
كيف، وكل ما يذكرونه، فموهوم، وكل ما يذكره النبي فمحقق مشاهدة، وعيان. بل وكل ما يحكى عن الروحانيات من كمال علمهم، وقدرتهم، ونفوذ اختيارهم، واستطاعتهم، فإنما أخبرنا بذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام. وإلا فأي دليل أرشدنا إلى ذلك ونحن لم نشاهدهم، ولم نستدل بفعل من أفعالهم على صفاتهم وأحوالهم؟
قالت الصابئة:
الروحانيون متخصصون بالهياكل العلوية، مثل زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وهذه السيارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها، وكل ما يحدث من الموجودات، ويعرض من الحوادث، فكلها مسببات هذه الأسباب، وآثار هذه العلويات، فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم، ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات فهم الأسباب الأول،والكل مسبباتها، والمسبب لا يساوي السبب والجسمانيون متشخصون بالأشخاص السفلية، والمتشخص كيف يماثل غير المتشخص؟
وإنما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيات في أفعالها وحركاتها، حتى يراعى أحوال الهياكل وحركات أفلاكها زمانا ومكانا، وجوهرا، وهيئة، ولباسا، وبخورا، وتعزيما. وتنجيما، ودعاءً، وحاجة خاصة بكل هيكل، فيكون تقربا إلى الهيكل تقربا إلى الروحاني الخاص به، فيكون تقربا إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب، حتى يقضي حاجته، ويتم مسألته.
وسيأتي تفصيل ما أجملوه من أمر الهياكل عند ذكر أصحابها إن شاء الله تعالى.
أجابت الحنفاء:
بأن قالوا: الآن نزلتم عن نيابة الروحانيات الصرفة إلى نيابة هياكلها، وتركتم مذهب الصبوة الصرفة. فإن الهياكل أشخاص الروحانيين. والأشخاص هياكل الربانيين، غير أنكم أثبتم لكل روحاني هيكلا خاصا، له فعل خاص لا يشاركه فيه غيره.
ونحن نثبت أشخاصا رسلا كراما، تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كل الكون: الروحاني منهم في مقابلة الروحاني منها. والأشخاص منهم في مقابلة الهياكل منها، وحركاتهم في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك، وشرائعهم مراعاة حركات استندت إلى تأييد إلهي، ووحي سماوي موزونة بميزان العدل، مقدرة على مقادير الكتاب الأول، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1، ليست مستخرجة بالآراء المظلمة، ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة إن طابقتها على المعقولات تطابقتا، وإن وافقتها بالمحسوسات توافقتا.
كيف ونحن ندعي أن الدين الإلهي هو الموجود الأول، والكائنات تقدرت عليه،وأن المناهج التقديرية هي الأقدم، ثم المسالك الخلقية والسنن الطبيعية توجهت إلينا. ولله تعالى سنتان في خلقه وأمره، والسنة الأمرية اقدم وأسبق من السنة الخلقية. وقد أطلع خواص عباده من البشر على السنتين {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} 1 هذا من جهة الخلق، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2 هذا من جهة الأمر.
فالأنبياء عليهم السلام متوسطون في تقرير سنة الأمر. والملائكة متوسطون في تقرير سنة الخلق. والأمر أشرف من الخلق، فمتوسط الأمر أشرف من متوسط الخلق، فالأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة.
وهذا عجب حيث صارت الروحانيات الأمرية متوسطات في الخلق، وصارت الأشخاص الخلقية متوسطين في الأمر، ليعلم إن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة، واليد للجسمائي لا للروحاني، والتوجه إلى التراب أولى من التوجه إلى السماء، والسجود لآدم عليه السلام أفضل من التسبيح والتحميد والتقديس.
وليعلم أن الكمال في إثبات الرجال، لا في تعيين الهياكل والظلال، وانهم هم الآخرون وجودا، السابقون فضلا، وأن آخر العمل أول الفكرة، وأن الفطرة لمن له الحجة. وأن المخلوق بيديه لا يكون كالمكون بحرفيه، قال عز وجل: "فوعزتي وجلالي، لا أجعل من خلقته بيدي، كمن قلت له كن فكان" 3.
قالت الصابئة:
الروحانيات مبادئ الموجودات وعالمها معاد الأرواح. والمبادئ أشرف ذاتا، وأسبق وجودا، وأعلى رتبة ودرجة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها. وكذلك عالمها، عالم المعاد، والمعاد كمال، فعالمها عالم الكمال.
فالمبدأ منها، والمعاد إليها، والمصدر عنها، والمرجع إليها بخلاف الجسمانيات. وأيضا، فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان، فتوسخت بأوضار الأجسام، ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية، والأعمال المرضية، حتى انفصلا عنها، فصعدت إلى عالمها الأول. والنزول هو النشأة الأولى، والصعود هو النشأة الآخرة. فعرف أنهم أصحاب الكمال، لا أشخاص الرجال.
أجابت الحنفاء:
قالوا: من أين تسلمتم هذا التسليم: أن المبادئ هي الروحانيات؟ وأي برهان أقمتم؟، وقد نقل عن كثير من قدماء الحكماء إن المبادئ هي الجسمانيات، على اختلاف منهم في الأول منها أنه نار، أو هواء، أو ماء، أو أرض؟ واختلاف آخر: أنه مركب، أو بسيط؟ واختلاف آخر: أنه إنسان، أو غيره؟، حتى صارت جماعة إلى إثبات أناس سرمديين.
ثم منهم من يقول: إنهم كانوا كالظلال حول العرش، ومنهم من يقول إن الآخر وجودا من حيث الشخص في هذا العالم هو الأول وجودا من حيث الروح في ذلك العالم. وعليه خرج أن أول الموجودات نور محمد عليه السلام، فإذا كان شخصه هو الآخر من جملة الأشخاص النبوية، فروحه هو الأول من جملة الأرواح الربانية، وإنما حضر هذا العالم ليخلص الأرواح المدنسة بالأوضار الطبيعية، فيعيدها إلى مبدئها، وإذا كان هو المبدأ، فهو المعاد أيضا. فهو النعمة وهو النعيم، وهو الرحمة وهو الرحيم.
قالوا: ونحن إذا أثبتنا إن الكمال في التركيب، لا في البساطة والتحليل، فيجب أن يكون المعاد بالأشخاص والأجساد، لا بالنفوس والأرواح، والمعاد كمال لا محالة. غير أن الفرق بين المبدأ والمعاد هو أن الأرواح في المبدأ مستورة بالأجساد، وأحكام الأجساد غالبة، وأحوالها ظاهرة للحس، والأجساد في المعاد مغمورة بالأرواح، وأحكام النفوس غالبة، وأحوالها ظاهرة للعقل، وإلا فلو كانت الأجساد تبطل رأسا، وتضمحل أصلا، وتعود الأرواح إلى مبدئها الأول ما كان الاتصال بالأبدان والعمل بالمشاركة فائدة، ولبطل تقدير الثواب والعقاب على فعل العباد. ومن الدليل القاطع على ذلك أن النفوس الإنسانية في حال اتصالها بالبدن اكتسبت أخلاقا نفسانية صارت هيئات متمكنة فيها تمكن الملكات، حتى قيل أنها نزلت منزلة الفصول اللازمة التي تميزها عن غيرها، ولولاها لبطل التمييز. وتلك الهيئات إنما حصلت بمشاركات من القوى الجسمانية، بحيث لن يتصور وجودها إلا مع تلك المشاركة، وتلك القوى لن تتصور إلا في أجسام مزاجية، فإذا كانت النفوس لن تتصور إلا معها وهي المعينة المخصصة وتلك لن تتصور إلا مع الأجسام، فلا بد من حشر الأجسام، والمعاد بالأجسام.
قالت الصابئة:
طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر، وشرعنا معقول، فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصا في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات، راعوا فيها جوهراُ وصورة، وعلى أوقات وأحوال وهيئات، أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات تختمان ولباسا، وتبخرا ودعاء وتعزيما، فتقربوا إلى الروحانيات، فتقربوا إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب. وهو طريق متبع، وشرع ممهد لا يختلف بالأمصار والمدن، ولا ينتسخ بالأدوار والأكوار1. ونحن تلقينا مبدأه من عاذيمون وهرمس2 العظيمين، فعكفنا على ذلك دائمين.
وأنتم معاشر الحنفاء تعصبتم للرجال، وقلتم بأن الوحي والرسالة ينزلوا عليهم من عند الله تعالى بواسطة، أو بغير واسطة. فما الوحي أولا؟ وهل يجوز أن يكلم الله بشرا؟ وهل يكون كلامه من جنس كلامنا؟ وكيف ينزل ملك من السماء وهو ليس بجسماني أبصورته؟ أم بصورة البشر؟ وما معنى تصوره بصورة الغير؟ أفيخلع صورته ويلبس لباسا آخر، أم يتبدل وضعه وحقيقته؟. ثم ما لبرهان أولا على جواز انبعاث الرسل في صورة البشر؟
وما دليل كل مدع منهم؟ أفنأخذ بمجرد دعواه، أم لا بد من دليل خارق للعادة؟ وإن أظهر ذلك أفهو من خواص النفوس؟ أم من خواص الأجسام؟ أم من فعل الباري تعالى؟. ثم ما الكتاب الذي جاء به أفهو كلام الباري تعالى، وكيف يتصور في حقه كلام؟ أم هو كلام الروحاني؟. ثم هذه الحدود والأحكام أكثرها غير معقولة، فكيف يسمح عقل الإنسان بقبول أمر لا يعقله؟ وكيف تطاوعه نفسه بتقليد شخص مثله؟ أبأن يريد أن يتفضل عليه؟ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 1.
أجابت الحنفاء:
بأن المتكلمين منا يكفوننا جواب هذا الفصل بطريقتين أحدهما: الإلزام, تعرضا لإبطال مذهبكم. والثاني: الحجة, تعرضا لإثبات مذهبنا.
أما الإلزام فقالوا: إنكم ناقضتم مذهبكم، حيث قلتم بتوسط عاذيمون وهرمس، وأخذتم طريقتكم منهما. ومن أثبت المتوسط في إنكار المتوسط، فقد تناقض كلامه، وتخلف مرامه.
وزادوا هذا تقريرا بأنكم معاشر الصابئة أيضا متوسطون، يحتاج إليكم في التزام مذهبكم، إذ من المعلوم أن كل من دب ودرج منكم ليس يعرف طريقتكم، ولا يقف على صنعتكم من علم، وعمل. أما العلم فالإحاطة بحركات الكواكب والأفلاك، وكيفية تصرف الروحانيات فيها. وأما العمل فصنعة الأشخاص في مقابلة الهياكل على النسب بل قوم مخصوصون أو واحد في كل زمان يحيط بذلك علما، ويتيسر له عملا، فقد أثبتم متوسطا عالما من جنس البشر، وقد ناقض آخر كلامكم أوله.
وزادوا هذا تقريرا آخر بإلزام الشرك عليهم. إما الشرك في أفعال الباري تعالى، وإما الشرك في أوامره.
أما الشرك في الأفعال فهو إثبات تأثيرات الهياكل والأفلاك. فإن عندهم الإبداع الخاص بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات, ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها. والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل, ثم تفويض أمور العالم السفلي إليها، كمن يبني معملة، وينصب أركانا للعمل من الفاعل، والمادة، والآلة، والصورة، ويفوض العمل إلى التلامذة. فهؤلاء اعتقدوا أن الروحانيات آلهة، والهياكل أرباب، والأصنام في مقابلة الهياكل باتخاذ وتصنع من كسبهم وفعلهم. فألزم أصحاب الأصنام أنكم تكلفتم كل التكلف حتى توقعوا حجرا جمادا في مقابلة هيكل، وما بلغت صنعتكم إلى إحداث حياة فيه، وسمع، وبصر، ونطق، وكلام: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1 أو ليست النسب أوضاعكم الفطرية، وأشخاصكم العقلية أفضل منها وأشرف؟ أو ليست النسب والإضافات النجومية المرعية في خلقكم أشرف وأكمل مما راعيتموها في صنعكم؟ {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2 أو لستم تحتاجون إلى المتوسط المعمول لقضاء حاجة؟ إما جلب نفع، أو دفع ضر؟، فهذا العامل الصانع أقدر، إذ فيه من القوة العلمية والعملية ما يستعمل به الهياكل العلوية ويستخدم الأشخاص الروحانية، فهلا ادعى لنفسه ما يثبت بفعله من جماد؟؟
ولهذا الإلزام تفطن اللعين فرعون حيث ادعى الإلهية والربوبية لنفسه, وكان في الأصل على مذهب الصابئة فصبا عن ذلك ودعا إلى نفسه، فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 3، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 4، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام،واستظهر بوزيره "هامان" وكان صاحب الصنعة، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 1. وكان يريد أن يبني صرحا مثل الرصد فيبلغ به إلى حركات الأفلاك والكواكب، وكيفية تركيبها، وهيئاتها، وكمية أدوارها وأكوارها، فلربما يطلع على سر التقدير في الصنعة، ومآل الأمر في الخلقة والفطرة ومن أين له هذه القوة والبصيرة؟! ولكن اعتزاز بنوع فطنة وكياسة في جبلته، واغترار بضرب إهمال في مهلته، فما تمت لهم الصنعة حتى {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} 2.
فحدث بعده السامري وقد نسج على منواله في الصنعة، حتى أخذ قبضة من أثر الروحاني، وأراد أن يرقى الشخص الجمادي عن درجته إلى درجة الحيواني، {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} 3، وما أمكنه أن يحدث فيه ما هو أخص أوصاف المتوسط من الكلام والهداية: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} 4 فانحسر في الطريق حتى كان من الأمر ما كان، وقيل: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} 5.
ويا عجبا من هذا السر!
حيث أغرق فرعون فأدخل النار مكافأة على دعوة الإلهية لنفسه، وأحرق العجل, ثم نسف في اليم، مكافأة على إثبات الإلهية له, وما كان للنار والماء على الحنفاء يد للاستيلاء {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 6. {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} 7.
هذه مراتب الشرك في الفعل والخلق.
ويشبه أن يكون دعوى اللعينين: نمرود، وفرعون أنهما إلهان أرضيان كالآلهة السماوية الروحانية: دعوى الإلهية من حيث الأمر, لا من حيث الفعل والخلق، وإلا ففي زمان كل واحد منهما من هو أكبر منه سنا، وأقدم في الوجود عليه, فلما ظهر من دعواهما أن الأمر كله لهما، فقد ادعيا الإلهية لنفسهما.
وهذا هو الشرك الذي ألزمه المتكلم على الصابئ، فإنه لما ادعى أنه أثبت في الأشخاص ما يقضي به حاجة الخلق، فقد عاد بالتقدير إلى صنعته، ووقف بالتدبير إلى معاملته. فكان الأمر بأن هذا الفعل واجب الإقدام عليه، وهذا واجب الإحجام عنه, أمرا في مقابلة أمر الباري تعالى. والمتوسط فيه متوسط الأمر، وكان شركا، إذ لم ينزل الله به سلطانا، ولا أقام عليه حجة وبرهانا.
كيف، وما يتمسك به من الأحكام مرتبة على هيئات فلكية لم تبلغ قوة البشر قط إلى مراعاتها؟ ولا يشك أن الفلك كله يتغير لحظة فلحظة يتغير جزء من أجزائه تغير الوضع والهيئة، بحيث لم يكن على تلك الهيئة فيما سبق، ولا يرجع إلى تلك فيما يستقبل. ومتى يقف الحاكم على تغيرات الأوضاع حتى تكون صنعته في الأشخاص والأصنام مستقيمة؟! وإذا لم تستقم الصنعة فكيف تكون الحاجة مقضية؟! ومن رفع الحاجة إلى من لا ترفع الحوائج إليه فقد أشرك كل الشرك.
وأما الطريق الثاني: فإقامة الحجة على إثبات المذهب ولمتكلمي الحنفاء فيه مسلكان: أحدهما: أن يسلك الطريق نزولا من أمر الباري تعالى إلى سد حاجات الخلق، والثاني: أن يسلك الطريق صعودا من حاجات الخلق إلى إثبات أمر الباري تعالى، ثم تخرج الإشكالات عليهما.
أما الأول، فقال المتكلم الحنيف: قد قامت الحجة على أن الباري تعالى خالق الخلائق، ورازق العباد وأنه المالك الذي له الملك والملك. والمالك هو أن يكون له على عباده أمر،وتصريف، وذلك أن حركات العبادات قد انقسمت إلى اختيارية، وغير اختيارية، فما كان منها باختيار من جهتهم، فيجب أن يكون للمالك فيها حكم وأمر. وما كان منها بلا اختيار فيجب أن يكون فيها تصريف وتقدير. ومن المعلوم أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى وأمره. فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده، وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر حتى يعرفهم أحكامه وأوامره. ويجب أن يكون مخصوصا من عند الله عز وجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية، يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه، تدل تلك الآيات على صدقه، نازلة منزلة التصديق بالقول. ثم إذا ثبت صدقه وجب أتباعه في جميع ما يقول ويفعل، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه، إذ ليس كل علم تبلغ إليه قوة البشر.
ثم الوحي من عند العزيز يمد حركاته الفكرية، والقولية، والعملية بالحق في الأفكار، والصدق في الأقوال، والخير في الأفعال. فبطرف يماثل البشر، وهو طرف الصورة، وبطرف يوحى إليه، وهو طرف المعنى والحقيقة {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 1 فبطرف يشابه نوع الإنسان، وبطرف يماثل نوع الملائكة، وبمجموعهما يفضل النوعين، حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع مزاجا، واستعدادا، وملكيته فوق ملكية النوع الآخر قبولا وأداء. فلا يضل ولا يغوي بطرف البشرية، ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية، فيقرر أن أمر الباري تعالى واحد لا كثرة فيه، ولا انقسام له {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} 2 غير أنه يلبس تارة عبارة العربية، وتارة عبارة العبرية، والمصدر يكون واحدا، والمظهر متعددا.
والوحي إلقاء الشيء بسرعة، فيلقى الروح الأمر إليه دفعة واحدة، بلا زمان {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 3، فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقى، كما يتمثل في المرآة المجلوة صورة المقابل، فيعبر عنه إما بعبارة قد اقترنت بنفس التصور، وذلك هو {آيَاتُ الْكِتَاب} 1، أو بعبارة نفسه، وذلك هو أخبار النبوة وهذا كله بطرفه الروحاني.
وقد يتمثل الملك الروحاني له بمثال صورة البشر تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة، أو تمثل الصورة الواحدة في المرايا المتعددة، أو الظلال المتكثرة للشخص الواحد، فيكالمه مكالمة حسية، ويشاهده مشاهدة عينية ويكون ذلك بطرفه الجسماني. وإن انقطع الوحي عنه لم ينقطع عنه التأييد والعصمة حتى يقومه في أفكاره، ويسدده في أقواله، ويوفقه في أفعاله.
ولا تستبعدوا معاشر الصابئة تلقي الوحي على الوجه المذكور، ونزول الملك على النسق المعقود، وعندكم أن هرمس العظيم صعد إلى العالم الروحاني، فانخرط في سلكهم. فإذا تصور صعود البشر، فلم لا يتصور بزلل الملك؟، وإذا تحقق أنه خلع لباس البشرية، فلم لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟. فالحنيفية إثبات الكمال في هذا اللباس، أعني لباس الناس. والصبوة إثبات الكمال في خلع كل لباس. ثم لا يتطرق ذلك لهم حتى يثبتوا لباس الهياكل أولا، ثم لباس الأشخاص والأوثان ثانيا. ولقد قال لهم رأس الحنفاء متبرئا عن الهياكل والأشخاص {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2.
وأما الثاني: فهو الصعود من حاجة الناس إلى إثبات أمر الباري تعالى، قال المتكلم الحنيف: لما كان نوع الإنسان محتاجا إلى اجتماع على نظام. وذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بحدود وأحكام في حركاته ومعاملاته، يقف كل منهم عند حده المقدر له لا يتعداه، وجب أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يبين فيه أحكام الله تعالى في الحركات، وحدوده في المعاملات، فيرتفع به الاختلاف والفرقة، ويحصل به الاجتماع والألفة. وهذا الاحتياج لما كان لازما لنوع الإنسان ضرورة، يجب أن يكون المحتاج إليه قائما ضرورة، بحيث تكون نسبته إليه نسبة الغني والفقير، والمعطي والسائل، والملك والرعية، فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكا لم يكن ملك أصلا، كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلا. ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان وعمره لا يساوي عمر العالم، فينوب منابه علماء أمته، ويرث علمه أمناء شريعته، فتبقى سنته ومنهاجه، ويضيء على البرية مدى الدهر سراجه. والعلم بالتوارث، وليست النبوة بالتوارث. والشريعة تركة الأنبياء، والعلماء ورثة الأنبياء.
قال الصابئة:
الناس متماثلة في حقيقة الإنسانية والبشرية، ويشملهم حد واحد، وهو الحيوان الناطق المائت. والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية، فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك أنه جوهر غير جسم هو كمال الجسم محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي, بالفعل أو بالقوة، فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية.
وأما العقل فقوة أو هيئة لهذه النفس, مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، والناس في ذلك على استواء من القدم، وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين أحدهما اضطراري، وذلك من حيث المزاج المستعد لقبول النفس، والثاني اختياري، وذلك من حيث الاجتهاد المؤثر في رفع الحجب المادية، وتصقيل النفس عن الصدأة المانعة لارتسام الصور المعقولة حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال تساوت الأقدام، وتشابهت الأحكام، فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة، ولا يتحكم أحد على أحد بالاستتباع.
أجابت الحنفاء:
بأن التماثل والتشابه في الصور البشرية والإنسانية مسلم لا مرية فيه، وإنما التنازع بيننا في النفس والعقل قائم، فإن عندنا النفوس والعقول على التضاد والترتب، وعلينا بيان ذلك، على مساق حدودكم، ومذاق أصولنا.
فقولكم إن النفس جوهر غير جسم هو كمال الجسم، محرك له بالاختيار، وذلك إذا أطلق النفس على الإنسان والملك، وهو كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، إذا أطلق على الإنسان والحيوان، فقد جعلتم لفظ النفس من الأسماء المشتركة، وميزتم بين النفس الحيواني، والنفس الإنساني، والنفس الملكي، فهل زدتم فيه قسما ثالثا وهو النفس النبوي حتى يتميز عن الملكي، كما تميز الملكي عن الإنساني؟ فإن عندكم المبدأ النطقي للإنسان بالقوة، والمبدأ العقلي للملك بالفعل، فقد تغايرا من هذا الوجه، ومن حيث إن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان ولا يطرأ على الملك، وذلك تمييز آخر، فليكن في النفس النبوي مثل هذا الترتيب.
وأما الكمال الذي تعرضتم له، فإنما يكون كمالا للجسم إذا كان اختيار المحرك محمودا، فأما إذا كان اختياره مذموما من كل وجه صار الكمال نقصانا، وحينئذ يقع التضاد بين النفس الخيرة والنفس الشريرة، حتى تكون إحداهما في جانب الملكية، والثانية في جانب الشيطانية، فيحصل التضاد المذكور، كما حصل الترتب المذكور، فإن الاختلاف بالقوة والفعل اختلاف بالترتب، والاختلاف بالكمال والنقص والخير والشر اختلاف بالتضاد، فبطل التماثل.
ولا تظنن أن الاختلاف بين النفسين الخيرة والشريرة اختلاف بالعوارض، فإن الاختلاف بين النفس الملكية والشيطانية بالنوع، كما أن الاختلاف بين النفس الإنسانية والملكية بالنوع، وكيف لا يكون كذلك! والاختلاف ههنا بالقوة والفعل،والاختلاف ثم بالخير والشر؟ وهذا لسر, وهو أن الخير غريزة هي هيئة متمكنة في النفس بأصل الفطرة، وكذلك الشر طبيعة غريزية. لست أقول فعل الخير، وفعل الشر، فإن الغريزة غير الفعل المترتب عليها. فتحقق أن ههنا نفسا محركة للبدن اختيارا نحو الخير عن مبدإ عقلي إما بالقوة أو بالفعل، وهو كمال للجسم وليس بجسم، وأن وههنا نفسا محركة للبدن اختيارا نحو الشر عن مبدإ نطقي, إما بالقوة أو بالفعل، وهو نقص للجسم وليس بجسم.
ولا ينبون طبعك عن أمثال ما يورد عليك المتكلم الحنيف، فإنما يغترفه من بحر، وليس ينحته من صخر، فلربما لا يساعدك على أن الإنسان نوع الأنواع، وأن الاختلاف فيه يقع في العوارض واللوازم، بل يثبت في النفوس الإنسانية اختلافا جوهريا، فيفصل بعضها على بعض بالفصول الذاتية، لا باللوازم العرضية. فكما أن الاختلاف بالقوة والفعل في النفس الإنسانية والملكية اختلاف جوهري، أوجب اختلاف النوع والنوع، وإن شملهما اسم النفس الناطقة، والفصل الذاتي هو القوة والفعل كذلك نقول في نفس لها قوة علم خاص، وقوة عمل خاص، وقوة خير، وقوة شر، وكمال مطلق، هو أصل الخير، ونقص مطلق، هو أصل الشر.
وأما ما ذكره المتكلم الصابي من حد العقل: أنه قوة أو هيئة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، فغير شامل لجميع العقول عنده، ولا عند الحنيف، بل هو تعرض للعقل الهيولاني فقط. فأين العقل النظري؟ وحده: أنه قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية. وأين العقل العملي؟ وحده أنه قوة للنفس هي مبدأ لتحريك القوة الشوقية إلى ما يختار من الجزئيات، لأجل غاية مظنونة. وأين العقل بالملكة؟ وهو استكمال القوة الهيولانية، حتى تصير قريبة من الفعل. وأين العقل بالفعل؟ وهو استكمال النفس بصورة ما أو صورة معقولة، حتى متى ما شاء عقلها وأحضرها بالفعل. وأين العقل المستفاد؟ وهو ماهية مجردة عن المادة. مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج. وأين العقول المفارقة؟ فإنها ماهيات مجردة عن المادة. وأين العقل الفعال؟ فإنه من جهة ما هو عقل، فإنه جوهري صوري، ذاته ماهية مجردة في ذاتها لا بتجريد غيرها عن المادة, وعن علائق المادة، وهي ماهية كل موجود، ومن جهة ما هو فعال، فإنه جوهر بالصفة المذكورة، من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه؟.
فقد تعرض لنوع واحد من العقول, ولا خلاف أن هذه العقول قد اختلفت حدودها، وتباينت فصولها كما سمعت.
فأخبرني أيها المتكلم الحكيم, من أي عقل تعد عقلك أولا؟ وهل ترضى أن يقال لك: تساوت الأقدام في العقول؟ حتى يكون عقلك بالفعل والإفادة كعقل غيرك بالقوة والاستعداد؟ بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبي غوي لا يرد عليه الفكر برادة، ولا ينفك الخيال عن عقله، كما لا ينفك الحس عن خياله؟ وإذا كانت الأقدام متساوية، فما هذا الترتب في الأقسام, وإذا أثبت ترتبا في العقول، فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة، وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة. ثم هل في نوعه ما هو عديم الاستعداد أصلا حتى يشبه أن يكون عقلا، وليس عقلا؟ وما النوع الذي تثبته للشياطين؟ أو هو من عداد ما ذكرنا، أم خارج عن ذلك؟ فإنك إذا ذكرت حد الملك، وأنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي، غير مائت، هو واسطة بين الباري تعالى والأجسام السماوية والأرضية، وعددت أقسامه: أن منه ما هو عقلي، ومنه ما هو نفسي. ومنه ما هو حسي, فيلزمك من حيث التضاد، أن تذكر حد الشيطان على الضد مما ذكرته من حد الملك، وتعد أقسامه أيضا. ويلزمك من حيث الترتب أن تذكر حد الإنسان على الضد مما ذكرته من حد الملك وتعد أقسامه وأنواعه كذلك، حتى يكون من الإنسان ما هو محسوس فقط، ومنه ما هو -مع كونه محسوسا- روحاني نفساني عقلي، وذلك هو درجة النبوة. فمن عقل عمل من حس، ومن حس عمل من عقل، ومن نفس مزاجي، ومن مزاجي نفسي، ومن روح جسماني، ومن جسم روحاني. دع عنك كلام العامة، ولا تظنن هذه الطامة.
قالت الصابئة:
لقد حصرتمونا بإبطال تساوي العقول والنفوس، وإثبات الترتب والتضاد فيهما. ولا شك أن من سلم الترتب فقد لزمه الإتباع. فأخبرونا ما رتبة الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان؟ وما رتبتهم بالإضافة إلى الملك والجن وسائر الموجودات؟ ثم ما رتبة النبي عند الباري تعالى؟ فإن عندنا الروحانيات أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وهم المقربون في الحضرة الإلهية، والمكرمون لديه، ونراكم تارة تقولون: إن النبي يتعلم من الروحاني، ونراكم تارة تقولون: إن الروحاني يتعلم من النبي.
أجابت الحنفاء:
بأن الكلام في المراتب صعب، ومن لم يصل إلى رتبة من المراتب كيف يمكنه أن يستوفي بيانها؟
لكنا نعرف أن رتبته بالنسبة إلينا رتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس من الحيوان. فكما أنا نعرف أسامي الموجودات ولا يعرفها الحيوان، كذلك هم يعرفون خواص الأشياء وحقائقها، ومنافعها ومضارها، ووجوه المصالح في الحركات، وحدودها وأقسامها ونحن لا نعرفها.
وكما أن نوع الإنسان ملك الحيوان بالتسخير، فالأنبياء عليهم السلام ملوك الناس بالتدبير، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان، كذلك حركات الأنبياء معجزات الناس، لأن الحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل، ولا أن تبلغ إلى الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب. ولا أن تبلغ إلى الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر. فلا التمييز العقلي لها بالوجود، ولا مثل هذه الحركات لها بالفعل. وكذلك حركات الأنبياء، لان منتهى فكرهم لا غاية له، وحركات أفكارهم في مجالي القدس مما تعجز عنها قوة البشر، حتى يسلم لهم:
"لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل". وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر. وهم في الرتبة العليا، والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها، فقد أحاطوا علما بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين، ففي الأول تكون حاله حال التعلم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} 1، وفي الأخير حاله حال التعليم، وذلك في حق آدم عليه السلام: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} 2 حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف. فانظر كيف تكون الحال في نهاية الظهور.
وأما إضافتهم إلى جناب القدس فالعبودية الخاصة: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين} 3، قولوا إن عباد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم: أحق الأسماء لهم وأخص الأحوال بهم: "عبده ورسوله"، لا جرم كان أخص التعريفات لجلاله تعالى بأشخاصهم: إله إبراهيم: إله إسماعيل وإسحاق: إله موسى وهرون: إله عيسى: إله محمد عليهم السلام. فكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة، ومنها ما هو خاص الإضافة, كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية، والتجلي للعباد بالخصوصية, منه ما له عموم رب العالمين -ومنه ما له خصوص- رب موسى وهارون.
فهذه نهاية مذهبي الصابئة والحنفاء. وفي الفصول التي جرت بين الفريقين فوائد لا تحصى.
وكان في الخاطر بعد زوايا نريد نمليها، وفي القلم خفايا أكاد أخفيها، فعدلت عنها إلى ذكر حكم هرمس العظيم, لا على أنه من جملة فرق الصابئة، حاشاه، بل على أن حكمه مما تدل على تقرير مذهب الحنفاء، في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية، وإيجاب القول بإتباع النواميس الإلهية، على خلاف مذاهب الصابئة.
"لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل". وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر. وهم في الرتبة العليا، والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها، فقد أحاطوا علما بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين، ففي الأول تكون حاله حال التعلم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} 1، وفي الأخير حاله حال التعليم، وذلك في حق آدم عليه السلام: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} 2 حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف. فانظر كيف تكون الحال في نهاية الظهور.
وأما إضافتهم إلى جناب القدس فالعبودية الخاصة: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين} 3، قولوا إن عباد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم: أحق الأسماء لهم وأخص الأحوال بهم: "عبده ورسوله"، لا جرم كان أخص التعريفات لجلاله تعالى بأشخاصهم: إله إبراهيم: إله إسماعيل وإسحاق: إله موسى وهرون: إله عيسى: إله محمد عليهم السلام. فكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة، ومنها ما هو خاص الإضافة, كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية، والتجلي للعباد بالخصوصية, منه ما له عموم رب العالمين -ومنه ما له خصوص- رب موسى وهارون.
فهذه نهاية مذهبي الصابئة والحنفاء. وفي الفصول التي جرت بين الفريقين فوائد لا تحصى.
وكان في الخاطر بعد زوايا نريد نمليها، وفي القلم خفايا أكاد أخفيها، فعدلت عنها إلى ذكر حكم هرمس العظيم, لا على أنه من جملة فرق الصابئة، حاشاه، بل على أن حكمه مما تدل على تقرير مذهب الحنفاء، في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية، وإيجاب القول بإتباع النواميس الإلهية، على خلاف مذاهب الصابئة.
وسئل: بماذا يحسن رأي الناس في الإنسان؟ قال: بأن يكون لقاؤه لهم لقاءً جميلًا، ومعاملته إياهم معاملة حسنة.
وقال: ومدة الإخوان أن لا تكون لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة، ولكن لصلاح فيه، وطباع له.
وقال: أفضل ما في الإنسان من الخير العقل، وأجدر الأشياء أن لا يندم عليه صاحبه، العمل الصالح، وأضل ما يحتاج إليه في تدبير الأمور الاجتهاد، وأظلم الظلمات الجهل، وأوثق الإسار الحرص.
وقال: من أفضل البر ثلاثة: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو عند المقدرة.
وقال: من لم يعرف عيب نفسه، فلا قدر لنفسه عنده.
وقال: الفصل بين العاقل والجاهل: أن العاقل منطقه له، والجاهل منطقه عليه.
وقال: لا ينبغي للعاقل أن يستخف بثلاثة أقوام: السلطان، والعلماء، والإخوان. فإن من استخف بالسلطان أفسد عليه عيشه، ومن استخف بالعلماء أفسد عليه دينه، ومن استخف بالإخوان أفسد عليه مروءته.
وقال: الاستخفاف بالموت أحد فضائل النفس.
وقال: المرء حقيق له أن يطلب الحكمة ويثبتها في نفسه أولا، بألا يجزع من المصائب التي تعم الأخيار، ولا يأخذه الكبر فيما يبلغه من الشرف، ولا يعير أحدا بما هو فيه، ولا يغيره الغنى والسلطان، وأن يعدل بين نيته وقوله حتى لا يتفاوت، وتكون سنته ما لا عيب فيه، ودينه ما لا يختلف فيه، وحجته ما لا ينتقض.
وقال: أنفع الأمور للناس القناعة والرضى. وأضرها الشره والسخط. وإنما يكون كل السرور بالقناعة، وكل الحزن بالشره والسخط.
ويحكى عنه فيما كتبه: أن أصل الضلال والهلكة, لأهله, أن يعد ما في العالم من الخير من عطية الله عز وجل ومواهبه. ولا يعد ما فيه من الشر والفساد من عمل الشيطان ومكايده. ومن افترى على أخيه فرية لم يخلص من تبعتها حتى يجازى بها. فكيف يخلص من أعظم الفرية على الله عز وجل أن يجعله سببا للشرور وهو معدن الخير؟
وقال: الخير والشر واصلان إلى أهلهما لا محالة، فطوبى1 لمن جرى وصول الخير إليه وعلى يديه، والويل لمن جرى وصول الشر إليه وعلى يديه.
وقال: الإخاء الدائم الذي لا يقطعه شيء اثنان, أحدهما: محبة المرء نفسه في أمر معاده، وتهذيبه إياها في العلم الصحيح والعمل الصالح، والآخر: مودته لأخيه في دين الحق، فإن ذلك مصاحب أخاه في الدنيا بحسده، وفي الآخرة بروحه.
وقال: الغضب سلطان الفظاظة، والحرص سلطان الفاقة، وهما منشئا كل سيئة، ومفسدا كل جسد، ومهلكا كل روح.
وقال: كل شيء يطاق تغييره إلا الطباع، وكل شيء يقدر على إصلاحه غير الخلق السوء، وكل شيء يستطاع دفعه إلا القضاء.
وقال الجهل والحمق للنفس بمنزلة الجوع والعطش للبدن، لأن هذين خلاء النفس، وهذين خلاء البدن.
وقال: أحمد الأشياء عند أهل السماء والأرض لسان صادق ناطق بالعدل والحكمة والحق في الجماعة.
وقال: أدحض الناس حجة من شهد على نفسه بدحوض حجته.
وقال: من كان دينه السلامة والرحمة والكف عن الأذى فدينه دين الله عز وجل، وخصمه شاهد له بفلج2 حجته، ومن كان دينه الإهلاك والفظاظة والأذى فدينه دين الشيطان، وهو بدحوض حجته شاهد على نفسه.
وقال: الملوك تحتمل الأشياء كلها إلا ثلاثة: قدح في الملك، وإفشاء للسر، وتعرض للحرمة.
وقال: لا تكن أيها الإنسان كالصبي إذا جاع ضغا1 ولا كالعبد إذا شبع طغى، ولا كالجاهل إذا ملك بغى.
وقال: لا تشيرن على عدو ولا صديق إلا بالنصيحة، فأما الصديق فتقضي بذلك من واجبه حقه، وأما العدو فإنه إذا عرف نصيحتك إياه هابك وحسدك، وإن صح عقله استحى منك وراجعك.
وقال: يدل على غريزة الجود السماحة عند العسرة، وعلى غريزة الورع الصدق عند الشرة، وعلى غريزة الحلم العفو عند الغضب.
وقال من سره مودة الناس له، ومعونتهم إياه، وحسن القول منهم فيه حقيق بأن يكون على مثل ذلك لهم.
وقال: لا يستطيع أحد أن يجوز الخير والحكمة، ولا أن يخلص نفسه من المعايب إلا أن يكون له ثلاثة أشياء: وزير، وولي، وصديق. فوزيره عقله، ووليه عفته، وصديقه عمله الصالح.
وقال: كل إنسان موكل بإصلاح قدر باع من الأرض، فإنه إذا أصلح قدر ذلك الباع صلحت له أموره كلها، وإذا أضاعه أضاع الجميع، وقدر ذلك نفسه.
وقال: لا يمدح بكمال العقل من لا تكمل عفته، ولا بكمال العلم من لا يكمل عقله.
وقال: من أفضل أعمال العلماء ثلاثة أشياء: أن يبدلوا العدو صديقا، والجاهل عالما، والفاجر برا.
وقال: الصالح من خيره خير لكل أحد، ومن يعد خير كل أحد لنفسه خيرا.
وقال: ليس بحكمة ما لم يعاد الجهل، ولا بنور ما لم يمحق الظلمة، ولا بطيب ما لم يدفع النتن، ولا بصدق ما لم يدحض الكذب، ولا بصالح ما لم يخالف الطالح.












مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید