المنشورات

رأي أنبادقليس

وهو من الكبار عند الجماعة، دقيق النظر في العلوم، رقيق الحال في الأعمال. وكان في زمن داود النبي عليه السلام، مضى إليه وتلقى منه العلم، واختلف إلى لقمان الحكيم، واقتبس منه الحكمة، ثم عاد إلى يونان وأفاد.
قال: إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط، وهو العلم المحض، وهو الإرادة المحضة، وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء، بل هي: هو، وهو: هذه كلها. مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء، ولا أن شيئا كان معه. فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول، وهو العنصر الأول, ثم كثر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول، ثم كون المركبات من المبسوطات.
 وهو مبدع الشيء واللاشيء: العقلي، والفكري، والوهمي، أي مبدع المتضادات والمتقابلات المعقولة والخيالية والحسية. وقال: إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة، بل بنوع أنه علة فقط, وهو العلم والإرادة. فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها، فالعلة ولا معلول، وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات، فإن جاز أن يقال إن معلولا مع العلة، فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة، وأن يكون المعلول ليس أولي بكونه معلولا من العلة، ولا العلة بكونها علة أولي من المعلول، فالمعلول إذا تحت العلة وبعدها، والعلة علة العلل كلها، أي علة كل معلول تحتها، فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة، وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول. فالمعلول الأول هو العنصر، والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل، والثالث بتوسطهما النفس، وهذه بسائط ومتوسطات، وما بعدها مركبات.
وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل, لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط والمنطق مركب، والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئآت. فليس للمنطق إذا أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة، وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب. فإذا كان هو ولاشيء، فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين.
ثم قال أنبادقليس: العنصر الأول بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه وليس هو بسيطا مطلقا أي واحدا بحتا من نحو ذات العلة، فلا معلول إلا وهو مركب تركيبا عقليا أو حسيا، فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة، وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية، والجواهر المركبة الجسمانية، فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر، مبدأين لجميع الموجودات، فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة، والجسمانيات كلها على الغلبة، والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة، والازدواج والتضاد، وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات.
قال: ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعا بنوع, وصنفا بصنف، واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعا عن نوع, وصنفا عن صنف.
فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات، وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات، وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين.
وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة، والغلبة إلى زحل والمريخ، فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين.
ولكلام أنبادقليس مساق آخر، قال: إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية، والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية، والمنطقية قشر للعقلية، وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى، والأعلى لبه. وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح، فيجعل النفس النامية جسدا للنفس الحيوانية، وهذه روحا لها، وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل.
وقال: لما صور العنصر الأول في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية، وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر, صورت النفس الكلية في الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل، فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها، ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف. فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور: ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية, وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية حتى يديرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب، فيصعد باللبوب إلى عالمها، فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت، والطبيعة الكلية معلولة للنفس، وفرق بين الجزء وبين الطبيعة، فالجزء غير المعلول.
ثم قال: وخاصية النفس الكلية: المحبة، لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق1 عاشق لمعشوقه، فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه.
وخاصية الطبيعة الكلية: الغلبة، لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما، بل انبجست1 منها قوى متضادة: أما في بسائطها فمتضادات الأركان، وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية والنباتية والحيوانية. والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها، وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار، فركنت إلى لذات حسية: من مطعم مري، ومشرب هني، وملبس طرى، ومنكح شهي ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي. فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءا من أجزائها، هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية، والنباتية ومن تلك النفوس المغترة بهما، فيكسر النفسين عن تمردهما، ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها، ويذكرها بما نسيت، ويعلمها ما جهلت، ويطهرها مما تدنست فيه، ويزكيها عما تنجست به. وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار, فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة، فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة.
فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفا، وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفا، فيخلص النفوس الجزئية الشريفة التى اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل، والتسيل الزائل الفائل. وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة، فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة، فتغلب محبة الخير والحق والصدق، وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب، فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعا، فتكونان جسدا لها في ذلك العالم، كما كانتا جسدا لها في هذا العالم. وقد قيل إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله، فيغلب بمحبتهم له أضداده.
ومما نقل عن أنباد قليس أنه قال: العالم مركب من الأسطقسات1 الأربعة، فإنه ليس وراءها شئ أبسط منها، وان الأشياء كامنة بعضها في بعض. وأبطل الكون والاستحالة والنمو، وقال: الهواء لا يستحيل نارا2، ولا الماء هواء، ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل وبكمون وظهور، وتركب وتحلل. وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون، والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون.
ومما نقل عنه أيضا: أنه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون، فقال: إنه متحرك بنوع سكون، لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون، وهو مبدعهما، ولا محالة أن المبدع أكبر، لأنه علة كل متحرك وساكن. وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء إلى أفلاطون. وأما زينون الأكبر وديمقريط والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك. وقد سبق النقل عن أنكساغورس أنه قال هو ساكن لا يتحرك، لأن الحركة لا تكون إلا محدثة. ثم قال: إلا أن يقولوا إن تلك الحركة فوق هذه الحركة، كما أن ذلك السكون فوق هذا السكون.
وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان، ولا بالحركة التغيير والاستحالة، ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة، فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها.
ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر، فكيف يجازف هذه المجازفة في التغيير؟!
فأما الحركة والسكون في العقل والنفس، فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال، وذلك أن العقل لما كان موجودا كاملا بالفعل قالوا: هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلا. والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال قالوا: هي متحركة طالبة درجة العقل. ثم قالوا: العقل ساكن بنوع حركة، أي هو في ذاته كامل بالفعل، فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل. والفعل نوع حركة في سكون، والكمال نوع سكون في حركة، أي هو كامل ومكمل غيره. فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى.
ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل، حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان، ومستو على مكان، وذلك إشارة إلى السكون، وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب وينزل ويصعد، وذلك عبارة عن الحركة، إلى أنه يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس، حقيق بجلال الحق.
ومما نقل عن أنباد قليس في أمر المعاد أنه قال: يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع، والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها، فتتضرع النفس إلى العقل، ويتضرع العقل إلى الباري تعالى، فيسيح الباري تعالى على العقل، ويسيح العقل على النفس، وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها، فتستضئء الأنفس الجزئية، وتشرق الأرض بنور ربها، حتى تعاين الجزئيات كلياتها، فتتخلص من الشبكة، فتتصل بكلياتها، وتستقر في عالمها مسرورة، محبورة {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید