المنشورات

رأى أرسطوطاليس بن نيقوماخوس:

من أهل أسطاخرا، وهو المقدم المشهور، والمعلم الأول، والحكيم المطلق عندهم. وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا، فلما أتت عليه سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفا وعشرين سنة. وإنما سموه المعلم الأول، لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل، وحكمه حكم واضع النحو، وواضع العروض فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر. وهو واضع، لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها، بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين، حتى يكون كالميزان عندهم، يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ، والحق بالباطل. إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين، وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين. وله حق السبق، وفضيلة التمهيد. وكتبه في الطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق، معروفة، ولها شروح كثيرة.
ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح "ثامسطيوس" الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم: أبو علي بن سينا، وأوردنا نكتا1 من كلامه في الإلهيات، وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين، إذ لم يخالفوه في رأي، ولا نازعوه في حكم، بل هم كالمقلدين له، المتهالكين عليه، وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه.
المسألة الأولى:
في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول. قال في كتاب "أثولوجيا" من حرف اللام
إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب: اثنان طبيعيان، وواحد غير متحرك. قال: إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها وأوضاعها، ولا بد لكل متحرك من محرك، فإما أن يكون المحرك متحركا، فيتسلسل القول فيه، ولا يتحصل، وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك. ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة، فإنه يحتاج إلى شيء آخر يخرجه من القوة إلى الفعل، إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل، فالفعل إذن أقدم من القوة، وما بالفعل أقدم على ما بالقوة،. وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة، وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب، وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك، فواجب الوجود بذاته: ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره، وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل. وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان، وذلك إذا أخذته بلا شرط، وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب، وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع.

المسألة الثانية:
في أن واجب الوجود واحد: أخذ أرسطوطاليس يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إن العالم واحد، ويقول: إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر، وأما ما هو بالآنية الأولى فليس له عنصر، لأنه تمام، قائم بالفعل. لا يخالط القوة، فإذا المحرك الأول واحد بالكلمة والعدد، أي بالاسم والذات. قال: فمحرك العالم واحد، لأن العالم واحد. هذا نقل ثامسطيوس. وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته، قال ولو كان كثيرا لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ، فيشملها جنسا، وينفصل أحدهما عن الآخر نوعا، فتتركب ذاته من جنس وفصل، فتسبق أجزاء المركب على المركب سبقا بالذات، فلا يكون واجبا بذاته. ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج، فلم يكن واجبا بذاته هذا خلف.
المسألة الثالثة:
في أن واجب الوجود لذاته: عقل لذاته، وعاقل ومعقول لذاته، عقل من غيره، أو لم يعقل.
أما أنه عقل، فلأنه مجرد عن المادة، منزه عن اللوازم المادية، فلا تحتجب ذاته عن ذاته.
وأما أنه عاقل لذاته، فلأنه مجرد لذاته.
وأما أنه معقول لذاته، فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره.
قال: الأول يعقل ذاته. ثم من ذاته يعقل كل شيء، فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة، من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول، وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات, بل يعقلها من ذاته، وليس كونه عاقلا وعقلا بسبب وجود الأشياء المعقولة، حتى يكون وجودها قد جعله عقلا، بل الأمر بالعكس، أي عقله للأشياء جعلها موجودة. وليس للأول شيء يكمله، فهو الكامل لذاته، المكمل لغيره، فلا يستفيد وجوده من وجود كمالا. وأيضا فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء، لكان وجودها متقدما على وجوده، ويكون جوهره في نفسه، وفي قوامه، وفي طباعه أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء، فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه، حتى يقال: لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى، وكان فيه عدمها، فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادما للمعقولات، ومن شأنه أن يكون له ذلك، فيكون باعتبار نفسه مخالطا للإمكان والقوة. وإذا فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجودا بالفعل، فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره.
قال: وإذا عقل ذاته عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل، وعقل كونه مبدأ، وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه، وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها.
قال: وإن كان ليس يعقل بالفعل، فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله؟! فيكون حاله كحال النائم، وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته، وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب. وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريبا من هذا المعنى، فيقول إن كان جوهره العقل وأن يعقل، فإما أن يعقل. ذاته، أو غيره، فإن كان يعقل شيئا آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله؟ وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل، بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل؟ أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل؟ فإنه لا يمكن القسم الآخر وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر، أفضل من الذي له في ذاته من حيث هو في ذاته, شيء يلزمه أن يعقل، فيكون فضله وكماله بغيره. وهذا محال.
المسألة الرابعة:
في أن واجب الوجود لا يعتريه تغيير وتأثر من غيره، بأن يبدع أو يعقل.
قال: الباري تعالى عظيم الرتبة جدا غير محتاج إلى غيره، ولا متغير بسبب من غيره, سواء كان التغير زمانيا، أو كان تغيرا بأن ذاته تقبل من غيره أثرا وإن كان دائما في الزمان. وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان، لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير، لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته، وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه، ولا يكون أيضا مناسبا للحركة، خصوصا إن كانت بعدية زمانية. وهذا معنى قوله: إن التغير إلى الشيء الذي هو شر.
وقد ألزم على كلامه: أنه إذا كان الأول يعقل أبدا ذاته، فإنه يتعب، ويكل، ويتغير، ويتأثر. وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب، لأنه يعقل ذاته، وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته.
قال أبو الحسين بن عبد الله بن سينا: ليست العلة أنه لذاته يعقل. أو لذاته يحب، بل لأنه ليس مضادا لشيء في الجوهر العاقل، فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة، وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادة لمطلوب الطبيعة، فأما الشىء الملائم واللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه, فلم يجب أن يكون تكرره متعبا. 
المسألة الخامسة:
في أن واجب الوجود حي بذاته باق بذاته، أي كامل في أن يكون بالفعل مدركا لكل شيء، نافذ الأمر في كل شيء.
وقال: إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس، وتحريك خسيس، وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة: هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته كل شيء، وهو باق الدهر أزلي، فهو حي بذاته، باق بذاته. عالم بذاته. وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا، من غير تكثر، ولا تغير في ذاته.
المسألة السادسة: في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد
قال: الصادر الأول هو العقل الفعال، لأن الحركات إذا كانت كثيرة، ولكل متحرك، فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات، فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان، بل جملة واحدة، لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك، ومتحرك متحرك، فتتكثر ذاته. وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه، فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال. وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود، وباعتبار علته وجوب الوجود، فتتكثر ذاته لا من جهة علته، فيصدر عنه شيئان. ثم يزيد التكثر في الأسباب، فتتكثر المسببات، والكل ينسب إليه.
المسألة السابعة: في عدد المفارقات
قال: إذا كان عدد المتحركات مرتبا على عدد المحركات، فتكون الجواهر المفارقة كثيرة، على ترتيب أول وثان. فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق، ومحرك آخر مزاول للحركة، فيكون صورة للجرم السماوي، فالأول عقل مفارق، والثاني نفس مزاول، فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة، والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة. ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر1. وذلك شيء لم يكن ظاهرا في زمانه، وإنما ظهر بعد.
والأكر تسع، لما دل الرصد عليها، فالعقول المفارقة عشرة: تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة، وواحد هو العقل الفعال.
المسألة الثامنة: في أن الأول مبتهج بذاته
قال أرسطوطاليس: اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم، وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به. فالأول مغتبط بذاته، ملتذ بها، لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها، وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية. بل يجب أن يسمي ذلك بهجة، وعلاء، وبهاء. كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق، ونحن مصروفون عنه، مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس، وذلك لضعف عقولنا، وقصورنا في المعقولات، وانغماسنا في الطبيعة البدنية، لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول، فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جدا، وهذه الحال له أبدا، وهو لنا غير ممكن، لأنا مذنبون، ولا يمكننا أن نشيم2 تلك البارقة الإلهية إلا خطفه وخلسة.
المسألة التاسعة: في صدور نظام الكل، وترتيبه عنه
قال: قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب: اثنان طبيعيان، وواحد غير متحرك. وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك، وأما الاثنان الطبيعيان فهما: الهيولى والصورة، أو العنصر والصورة، وهما مبدأ الأجسام الطبيعية. وأما العدم فيعد من المبادئ بالعرض لا بالذات. فالهيولى جوهر قابل للصورة، والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعا، كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه، والعدم ما يقابل الصورة، فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة. والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة، والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة.
قال: وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرما ذا طول, وعرض, وعمق، وهي الهيولى الثانية، وليست بذات كيفية. ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي: الحرارة والبرودة الفاعلتان، والرطوبة واليبوسة المنفعلتان. فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي: النار والهواء، والماء والأرض، وهي الهيولى الثالثة. ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون والفساد، ويكون بعضها هيولى بعض.
قال: وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس، وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط، فلم نقدر في الوجود جوهرا مطلقا قابلا للأبعاد ثم لحقته الأبعاد، ولا جسما عاريا عن هذه الكيفيات ثم عرض له ذلك، وإنما هو عند نظرنا فيما هو أقدم بالطبع، وأبسط في الوهم والعقل.
ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد، ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير، وهي طبيعة السماء. وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع، بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه. ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة، ويتحرك بحركة خاصة. ولكل متحرك محرك مزاول، ومحرك مفارق. والمتحركات أحياء ناطقون، والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر، وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان باشتراك. فترتيب العالم كله: علوية وسفلية على نظام واحد، وصار النظام في الكل محفوظا بعناية المبدإ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام، متوجها إلى الخير. وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على نوع نوع ليس على ترتيب المساواة، فليس حال السباع كحال الطير، ولا حالها كحال النبات، ولا حال النبات كحال الحيوان.
قال: وليس مع هذا التفاوت منقطعا بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض، بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل، تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود، على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه.
قال: وترتيب الطباع في الكل كترتيب المنزل الواحد من الأرباب، والأحرار، والعبيد، والبهائم، والسباع، فقد جمعهم صاحب المنزل، ورتب لكل واحد منهم مكانا خاصا، وقدر له عملا خاصا. ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا، فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام. فهم وإن اختلفوا في مراتبهم، وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم منتسبون إلى مبدإ واحد، صادرون عن رأيه وأمره، مصرفون تحت حكمه وقدره، فكذلك تجري الحال في العالم، بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة، مثل السماوات، ومحركاتها، ومدبراتها، وما قبلها من العقل الفعال. وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع والإرادة, والجبر الممزوج بالاختيار. ثم ينسب الكل إلى عناية الباري جلت عظمته.
المسألة العاشرة:
في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير، والشر واقع في القدر بالعرض.
قال: لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان، لا لإرادة وقصد أمر في السافل حتى يقال: إنما أبدع العقل مثلا لغرض في السافل، حتى يفيض مثلا على السافل فيضا، بل لأمر أعلى من ذلك، وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض، فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق، ثم توجهت إلى الخير، لأنها صادرة عن أصل الخير، وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد.
ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسبات السافلة دون العالية التي كلها خير. مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيرا ونظاما للعالم، فيتفق أن يخرب به بيت عجوز، فإن وقع كان ذلك واقعا بالعرض لا بالذات، أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي, فإن فقدان المطر أصلا شر كلي، وتخريب بيت عجوز شر جزئي، والعالم للنظام الكلي لا الجزئي، فالشر إذن واقع في القدر بالعرض.
وقال: إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب، وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض، وإفاضة على بعض. فالدرجة الأولى احتمالها على نحو أفضل، والثانية دون ذلك. والذي عندنا من العناصر دون الجميع، لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له، ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان، لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول والثاني.
قال: إنا لم نجز الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات وقع فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم.
المسألة الحادية عشرة: في كون الحركات سرمدية، وأن الحوادث لم تزل
قال: إن صدور الفعل عن الحق الأول إنما يتأخر لا بزمان، بل بحسب الذات. والفعل ليس مسبوقا بعدم، بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط. ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبيلة. وكانت القبيلة في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب. فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني، وأن تقدمه تقدم زماني.
قال: ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك.
ثم نقول: الحركات لا تخلو إما ان تكون لم تزل، أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن، وقد كان المحرك لها موجودا بالفعل قادرا، ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه، ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل، إذن كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه، وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه, ولا يمكن أن يقال: قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر، أو لم يرد فأراد، أو لم يعلم فعلم. فإن ذلك كله يوجب الاستحالة، ويوجب أن يكون شيئا آخر غيره هو الذي أحاله. وإن قلنا إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى، والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركا. وبالجملة: كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك، وإلا فالإرادة الكلية، والقدرة الشاملة، والعلم الواسع العام ليس يختص بزمان دون زمان، بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة، فلا بد لكل حادث من سبب حادث، ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة.
قال: وإذا كان لا بد من محرك للمحركات، ومن حامل للحركات تبين أن المحرك سرمدي، والحركات سرمدية، فالمتحركات سرمدية. فإن قيل: إن حامل الحركة, وهو الجسم, لم يحدث، لكنه تحرك عن سكون, وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة. فإن قلنا: إن ذلك الجسم حدث، فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة. فقد بان أن الحركة، والمتحرك، والزمان الذي هو عاد للحركة أزلية سرمدية. 
والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة، والاتصال لا يكون إلا للمستديرة، لأن المستقيم ينقطع، والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية، فإن الذي يسكن ليس بأزلي، والزمان متصل، لأنه لا يمكن أن يكون قطعا مبتورة، فيجب من ذلك أن تكون الحركة متصلة، وإذا كانت المستديرة هي وحدها متصلة، فيجب أن تكون هي أزلية، فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضا أزليا، إذ لا يكون ما هو أخس علة لما هو أفضل، ولا فائدة في محركات ساكنة غير محركة كالصور الأفلاطونية، فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك.
المسألة الثانية عشرة: في كيفية تركب العناصر
حكى فرفوريوس عنه أنه قال: كل موجود ففعله مثل طبيعته. فما كانت طبيعته بسيطة، ففعله بسيط. والله تعالى واحد بسيط، ففعل الله تعالى واحد بسيط. وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود، فإنه موجود, لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضا بالحركة، وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجودا من ذاته بمنزلة الوجود الأول الحق، لكن من التشبه بذلك الأول الحق. وكل حركة تكون إما أن تكون مستقيمة، أو مستديرة، فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية، والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي: الطول، والعرض، والعمق على خطوط مستقيمة، حركة متناهية، فيصير بذلك جسما. وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية، ولا يسكن في وقت من الأوقات، إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمه حركة على الاستدارة وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه كالنقطة، فانقسم الجوهر، فتحرك بعضه على الاستدارة وهو الفلك، وسكن بعضه في الوسط.
قال: وكل جسم يتحرك فيماس جسما ساكنا وفي طبيعته قبول التأثير منه، أحدث سخونة فيه، وإذا سخن لطف، وانحل، وخف، فكانت طبيعة النار تلي الفلك المتحرك. والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار، فتكون حركته أقل، فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه، فيسخن دون سخونة النار، وهو الهواء. والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له، فهو بارد لسكونه، ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب، ولذلك انحل قليلا، وهو الماء. والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك، ولم يستفد من حركته شيئا، ولا قبل منه تأثيرا، فيبس وبرد، وهو الأرض.
وإذ كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها عن بعض. وتختلط. يتولد عنها أجسام مركبة، وهي المركبات المحسوسات، التي هي المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان. ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضا خاصا على ما قدره الباري جلت قدرته.
المسألة الثالثة عشرة: في الآثار العلوية
قال أرسطوطاليس: الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين: أحدهما: أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها. والثاني: أبخرة مائية، فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية، فتتكاثف، وتجتمع بسبب ريح أو غيرها، فتصير ضبابا أو سحابا، فتصادفها برودة، فتعصر ماءً، وثلجا وبردا، فتنزل إلى مركز الماء، وذلك لاستحالة الأركان بعضها عن بعض، فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد، كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل. ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد، ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق. وقد يكون من الأدخنة ما تكون الهنية، على مادتها أغلب، فيشتعل، فيصير شهابا ثاقبا، وهي الشهب. ومنها ما يحترق في الهواء، فيتحجر فينزل حديدا أو حجرا. ومنها ما يحترق نارا، فيدفعها دافع، فينزل صاعقة. من المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال، ووقف تحت كوكب، ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك، فكان ذنبا له. وربما كان عريضا، فرئي كأنه لحية كوكب، وربما وقع صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها، كما يقع على المرائي والجدران الصقيلة، فيرى ذلك على أحوال مختلفة، بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها، وصفائها وكدورتها، فيرى في هالة، وقوس قزح، وشموس، وشهب، والمجرة. وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية, والسماء والعالم, وغيرهما.
المسألة الرابعة عشرة: في النفس الإنسانية الناطقة، واتصالها بالبدن
قال: النفس الإنسانية ليست بحسم ولا قوة في جسم. وله في إثباتها مآخذ: منها الاستدلال على وجودها بالحركات الاختيارية. ومنها الاستدلال عليها بالتصورات العلمية.
أما الأول فقال: لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية، إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية, لتحرك إلى جهة واحدة لا تختلف ألبتة. فلما تحركت إلى جهات متضادة علم أن حركاته اختيارية. والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان، إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر، فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال. وهو في معرفته في عاقبة كل حال. والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج، فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص. كما تميز الحيوان عن سائر الموجودات بنفس خاص.
وأما الثاني: وهو المعول عليه, قال: إنا لا نشك أن نعقل ونتصور أمرا معقولا صرفا، مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع. ومحل هذا المعقول جوهر ليس بجسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم، فإنه إن كان جسما فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفا منه لا ينقسم، أو جملته المنقسمة. وبطل أن يكون طرفا منه غير منقسم، فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط، فإن الطرف نهاية الخط: والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى، وإلا تسلسل القول فيه، فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية، وذلك محال. وإن كل محل المعقول من الجسم شيئا ينقسم. فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله، ومن المعقولات ما لا ينقسم ألبتة، فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئا كالشكل والمقدار. والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع، ولا كمقدار قابل للفصل. فتبين أن النفس ليست بجسم، ولا قوة في جسم، ولا صورة في جسم.
المسألة الخامسة عشرة: في وجه اتصالها بالبدن، ووقت اتصالها
قال: إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه، ولا حلول فيه، بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف. وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، قال: لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت إما متكثرة بذواتها، وإما متحدة. وبطل الأول، فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة، وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها، فلا تكثر فيها ولا تمايز. وإما أن تكون متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة, وهذا محال أيضا. فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة. وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها، وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل والقوابل، والمنفعلات عنها. وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة ومكاثرة.
ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة، فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتا منفردة باختلاف موادها التي كانت، وباختلاف أزمنة حدوثها، وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن، فهي حادثة مع حدوث البدن، تصيره نوعا كسائر الفصول الذاتية، وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له, لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن. وبهذا الدليل فارق أستاذه. وفارق قدماءه.
وقد وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان. فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور، كما يقال إن النار موجودة في الحجر والشجر، أو الإنسان موجود في النطفة، والنخلة موجودة في النواة، والضياء موجود في الشمس. ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها، وقال: اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها، فليست متفقة بالنوع، أعني النوع الأخير. ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها، وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متمايزة في المادة, كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان، والصنائع والأفعال، واستعداد كل نفس لصنعة خاصة، وعلم خاص فتنهض هذه فصولا ذاتية أو عوارض لازمة لوجودها.
المسألة السادسة عشرة: في بقائها بعد البدن، وسعادتها في العالم العقلي
قال: إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى، وو صلت إلى كمالها، وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد، وإما بحسب الاجتهاد، فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين، وانخرط في سلك الملائكة المقربين. ويتم له التذاذ والابتهاج. وليس كل لذة فهي جسمانية، فإن تلك اللذات لذات نفسانية عقلية، وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد، ويعرض للملتذ سآمة، وكلال، وضعف، وقصور إن تعدى عن الحد المحدود، بخلاف اللذات العقلية، فإنها حيثما ازدادت ازداد الشوق والحرص والعشق إليها.
وكذلك القول في الآلام النفسانية، فإنها تقع بالضد مما ذكرنا. ولم يحقق المعاد إلا للأنفس، ولم يثبت حشرا، ولا نشرا، ولا إنحلالا لهذا الرباط المحسوس من العالم، ولا إبطالا لنظامه، كما ذكره القدماء.
فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة، وأكثرها من شرح ثامسيطيوس وكلام الشيخ أبي علي بن سينا الذي يتعصب له، وينصر مذهبه، ولا يقول من القدماء إلا به.
وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء الله تعالى.
ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده، دون الآراء العلمية، إذ لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد.
ووجدت كلمات وفصولا للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة، فنقلتها على الوجه الذي وجدت، وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسيطيوس واعتمده ابن سينا.
منها في حدوث العالم، قال: الأشياء المحمولة أعني الصور المتضادة, فليس يكون أحدهما من صاحبه، بل يجب أن يكون بعد صاحبه، فيتعاقبان على المادة، فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل. وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء، لأن الدثور غاية، وهو أحد الجانبين يدل على أن جائيا جاء به. فقد صح أن الكون حادث لا من شيء، وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها وحمله إياها, وهي ذات بدء وغاية, يدل على أن حاملها ذو بدء وغاية، وأنه حادث لا من شيء، ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية، لأن الدثور آخر، والآخر ما كان له أول، فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما، لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان شيء. 
وخروج الشيء من حد إلى حد, ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية، وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره، وحدوث أحواله يدل على ابتدائه، وابتداء جزئه يدل على بدء كله. وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلا له، وكان له بدء يقبل الفساد, وآخر يستحيل إلى كون، فالبدء والغاية يدلان على مبدع.
وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس وقال: إذا كان لم يزل ولاشيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال له: "لم" غير جائزة عليه، لأن "لم" تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه، ولا علة فوقه، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل، فلم عنه منتفية، فإنما فعل ما فعل، لأنه جواد. فقيل: فيجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل. قال: معنى "لم يزل" أن لا أول. وفعل يقتضي أولا. واجتماع مالا أول له, وذى أول في القول والذات محال متناقص، قيل له: فهل يبطل هذا العالم؟ قال: نعم. قيل: فإذا أبطله بطل الجود؟، قال: سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد, لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد. تم كلامه.
ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس قاله لبقراطيس، وهو بكلام القدماء أشبه.
ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة، قال: الحار ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض، وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض.
وقال: البارد ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس، لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليدا اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما.
قال: والرطب العسير الانحصار من ذاته, اليسير الانحصار من ذات غيره. واليابس: اليسير الإنحصار من ذاته, العسير الانحصار من ذات غيره، والحدان الأولان يدلان على الفعل، والآخران يدلان على الانفعال. ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة: أن مبادئ الأشياء هي العناصر الأربعة. وعن بعضهم: أن المبدأ الأول هو ظلمة وهاوية، وفسره بفضاء، وخلاء، وعماية. وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها: الظلمة الخارجة.
ومما خالف أرسطو طاليس أستاذه أفلاطون: أن أفلاطون قال: من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه. فخالفه وقال: إذا كان الطبع سليما صلح لكل شيء. وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كل نوع لشيء ما لا يتعداه، وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد، وإذا تهيأ صنف لشيء تهيأ له كل النوع. والله الموفق.













مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید