المنشورات

حكم الشيخ اليوناني:

وله رموز وأمثال. منها قوله: إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء. وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر، يعني بالأم الهيولى وبالأب الصورة, وبالرءوم انقيادها، وبالفقر احتياجها إلى الصورة، وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه، وأما حداثة الصورة أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى.
وأما جودها: أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها، فإنها جواد، لكن من قبل قبول الهيولى، فإنها إنما تقبل على تقديرها وهذا ما فسر به رمزه ولغزه.
وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى، وليس حمل الأب على الصورة بذلك الوضوح، بل حمله على العقل الفعال الجواد، الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل أظهر.
وقال: لك نسبان: نسب إلى أبيك، ونسب إلى أمك. أنت بأحدهما أشرف، وبالآخر أوضع، فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف، وتبرأ في باطنك وظاهرك ممن أنت فيه أوضع، فإن الولد الفسل1 يحب أمه أكثر مما يحب أباه، وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد. قيل: أراد بذلك الهيولى والصورة، أو البدن والنفس، أو الهيولى والعقل الفعال.
وقال: قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك, أحدهما محق, والآخر مبطل، فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت.
والخصمان أحدهما: العقل، والثاني: الطبيعة.
وقال: كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة، كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال.
وقال: الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر. وقال أبو سليمان السجزي: مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا, فهو بالعقل لنا هناك. إلا أن الذي عندنا ظل ذاك، ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلا عما هو عليه، ومرة قالصا عما هو به، ومرة على قدره, عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق، فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي، والوجود السرمدي أتم، وأظهر، وأبقى، وأبلغ، فبالحق ما كان الغائب طي الشاهد، وبتصفح هذا الشاهد، يصح ذلك الغائب.
وقال الشيخ اليوناني: النفس جوهر كريم شريف، يشبه دائرة قد دارت على مركزها، غير أنها دائرة لا بعد لها، ومركزها هو العقل، وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها، وهو الخير الأول المحض. غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين، لكن دائرة العقل لا تتحرك أبدا، بل هي ساكنة ذاتية، شبيهة بمركزها، وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال. على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق، لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول. وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق، وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقا إلى النفس كشوق النفس إلى العقل، وشوق العقل إلى الخير المحض الأول، ولأن دائرة هذا العالم جرم، والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه، ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه، فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة، لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها، ويسكن عندها.
وقال: ليس للمبدع الأول صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية، ولا مثل صور الأشياء السافلة، ولا له قوة مثل قواها، لكنه فوق كل صورة، وحلية، وقوة، لأنه مبدعها بتوسط العقل.
وقال: المبدع الحق ليس شيئا من الأشياء، وهو جميع الأشياء، لأن الأشياء منه، وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم: مالك الأشياء كلها, هو الأشياء كلها, إذ هو علة كونها بآنيته فقط، وعلة شوقها إليه. وهو خلاف الأشياء كلها, وليس فيه شئ مما أبدعه، ولا يشبه شيئا منه، ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها، وإذا كان العقل واحدا من الأشياء فليس فيه عقل، ولا صورة، ولا حلية.
أبدع الأشياء بآنيته فقط، وبآنيته يعلمها ويحفظها، ويدبرها, لا بصفة من الصفات. وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل لأنه علتها، وأنه الذي جعلها في الصور، فهو مبدعها.
قال: وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية، لاختلاف قبولها من النور الأول جل وعز، فلذلك صارت ذوات مراتب شتى فمنها ما هو أول في المرتبة، ومنها ما هو ثان، ومنها ما هو ثالث. فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول، لا بالمواضع والأماكن، وكذلك الحواس تختلف بأماكنها على أن القوى الحاسة, فإنها مما لا يفترق بمفارقة الآلة.
وقال: المبدع ليس بمتناه، لا كأنه جثة بسيطة، وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة, لا بالكمية والمقدار, فليس للأول صورة ولا حلية ولا شكل، فلذلك صار محبوبا معشوقا تشتاقه الصور العالية والسافلة، وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء، لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود.
وهو قديم دائم على حاله لا يتغير. والعاشق يحرص على أن يصير إليه, ويكون معه. وللمعشوق الأول عشاق كثيرون، وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء، لأنه ثابت، قائم بذاته لا يتحرك.
وأما المنطق الجزئي: فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية، وشوق العقل الأول إلى المبدع الأول أشد من شوق سائر الأشياء، لأن الأشياء كلها تحته. وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقا إلى الأول؟ إذ العشق لا علة له.
وأما المنطق الذي يختص بالنفس فيفحص عن ذلك ويقول: إن الأول هو المبدع الحق، وهو الذي لا صورة له، وهو مبدع الصور، فالصور كلها تحتاج إليه، وتشتاق إليه، وذلك أن كل صورة تطلب مصورها وتحن إليه.
وقال: إن الفاعل الأول أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة, لا يقدر أحد أن ينال علل كونها، ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها؟ ولا أن يعرفها كنه معرفتها، ولم صارت الأرض في الوسط، ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة؟ إلا أن يقول: إن الباري صيرها كذلك, وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة.
وكل فاعل يفعل بروية وفكرة، لا بآنيته فقط بل يفصل فيه، فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام. والفاعل الأول لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر، وذلك أنه ينال العلل بلا قياس، بل يبدع الأشياء ويعلم عللها قبل الروية والفكر. والعلل، والبرهان، والعلم، والقنوع, وسائر ما أشبه ذلك, إنما كانت أجزاء, وهو الذي أبدعها، وكيف يستعين بها، وهي لم تكن بعد؟!











مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید