المنشورات

ابن سينا في الإلهيات:

يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل:
المسألة الأولى منها:
في موضوع هذا العلم، وجملة ما ينظر فيه، والتنبيه على الوجود وأقسامه.
إن لكل علم موضوعا ينظر فيه فيبحث عن أحواله، وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولو أحقه التي له بذاته ومبادئه، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، وفيه بيان مبادئها. وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام وهي: الوجود وهي الواحد والكثير ولواحقهما، والعلة والمعلول، والقديم والحادث، والتام والناقص، والفعل والقوة، وتحقيق المقولات العشر ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساما بالفصول، وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتهما انقساما بالأعراض. والوجود يشمل الكل شمولا بالتشكيك لا بالتواطؤ. ولهذا لم يصلح أن يكون جنسا، فإنه في بعضها أولى وأول. وفي بعضها لا أولى ولا أول، وهو أشهر من أن يحد أو يرسم، ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم، لأنه مبدأ أول لكل شئ، فلا شرح له، بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شئ. وينقسم نوعا من القسمة إلى واجب بذاته وممكن بذاته، والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقط وجب وجوده، والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه محال. ثم إذا عرض على القسمين عرضا حمليا الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب، والكثير أولى بالجائز، وكذلك العلة والمعلول، والقديم والحادث، والتام والناقص، والفعل والقوة، والغنى والفقر كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته، ولما لم تتطرق إليه الكثرة بوجه لم يتطرق إليه التقسيم، بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض، وقد عرفناهما برسميهما. وأما نسبة أحدهما إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه، والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه، فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر، وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض. وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهرا لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوما به وليس متقوما بذاته ثم مقوما له، ونسميه صورة، وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض. وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو إما أن لا يكون في محل أصلا، أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل. فإن كان في محل بهذه الصفة,فإنا نسميه صورة مادية، وإن لم يكن في محل أصلا فإما أن يكون محلا بنفسه لا تركيب فيه، أو لا يكون، فإن كان محلا بنفسه فإنا نسميه الهيولى المطلقة، وإن يكن فإما أن يكون مركبا مثل أجسامنا المركبة من مادة وصورة جسمية، وإما أن لا يكون. وما ليس بمركب فلا يخلو: إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام، أو لم يكن له تعلق، فما له تعلق نسميه نفسا، وما ليس له تعلق فنسميه عقلا. وأما أقسام العرض فقد ذكرناها، وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر.
المسألة الثانية:
في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه، وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة، وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود.
اعلم أن الجسم ليس جسما بأن فيه أبعادا ثلاثة بالفعل، فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل، وأنت تعلم أن الكرة لا قطع فيها بالفعل، والنقط والخطوط قطوع. بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح, أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر، ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة، فالذي يفرض فيه أولا هو الطول، والقائم عليه العرض، والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق، وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية. وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم، وهي لواحق لا مقومات، ولا يجب أن يثبت شيء منها له، بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه، وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها، وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل، وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة، فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخله فيها، والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعالميين أو داخلة فيها. ثم الصورة الجسمية طبيعة وراء الاتصال يلزمها الاتصال، وهي بعينها قابلة للانفصال. ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال، فإن القابل يبقى بطريان أحدهما، والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال. وظاهر أن هنا جوهرا غير الصورة الجسمية هو الهيولى الذي يعرض لها الانفصال والاتصال معا. 
وهي تقارن الصورة الجسمية، فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسما واحدا بما يقومها، وذلك هو الهيولى أو المادة.
والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل. والدليل عليه من وجهين:
أحدهما: أنا لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز, ولا أنها تقبل الانقسام، فإن هذه كلها صور. ثم قدرنا أن الصورة صادفتها, فإما أن تكون صادقتها دفعة، أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدريج، أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدريج. فإن حل فيها دفعة ففي اتصال المقدار بها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها، فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه، فيكون ذلك الجوهر متحيزا وقد فرض غير متحيز ألبتة، وهذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار، لأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص، وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات. وكل ماله جهات فهو ذو وضع، فيكون ذلك الجوهر ذا وضع, وقد فرض غير ذي وضع ألبتة، وهذا خلف. فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط، وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط.
والدليل الثاني: أنا لو قدرنا للمادة وجودا خاصا متقوما غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه، ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم, يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لورود عارض عليه، فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل، وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل، فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم، ومرة في قوته أن ينقسم. ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل أثنين، ثم صارا شيئا واحدا بأن خلعا صورة الأثنينية، فلا يخلو: أما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد، وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود؛ فالمعدوم
كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعا بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدان, وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة، وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة، فالمادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة، وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة. ولا يجوز أن يقال: إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة, وإنما تصير بالفعل بالمادة، لأن جوهر الصورة هو الفعل، وما بالقوة محله المادة. والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تتقوم بالهيولى, بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى، وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها، والعلة لا تتقوم بالمعلول، وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه، فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة لها. فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود، وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة. وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم. ثم الهيولى، وهي وإن كانت سببا للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود، فإنه محل لنيل الوجود، وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها. ثم العرض أولى بالوجود، فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضا.
المسألة الثالثة:
في أقسام العلل، وأحوالها، وفي القوة والفعل، وفي إثبات الكيفيات في الكمية، وإن الكيفيات أعراض لا جواهر.
قد بينا في المنطق أن العلل أربع. وتحقيق وجودها ههنا أن نقول: المبدأ والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه, ثم حصل منه وجود شيء آخر وتقوم به، ثم لا يخلو ذلك: إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له، وهذا على وجهين: إما أن يكون جزءا ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجودا بالفعل وهذا هو العنصر، ومثاله الخشب للسرير فإنك تتوهم الخشب موجودا ولا يلزم من وجوده أن يحصل السرير بالفعل، بل المعلول موجود فيه بالقوة. وإما أن يكون جزءا يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل, وهذا هو الصورة، ومثاله الشكل والتأليف للسرير. وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له, فإما أن يكون مباينا أو ملاقيا لذات المعلول، والملاقى: فإما أن ينعت به المعلول، وإما أن ينعت بالمعلول، وهذان هما في حكم الصورة والهيولى. وإن كان مباينا: فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل، وإما لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية. والغاية تتأخر في حصول الوجود وتتقدم سائر العلل في السببية، وفرق بين السببية والوجود في الأعيان. فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس، وأمر مشترك، وذلك الأمر المشترك هو السببية، والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم, وهي علة العلل في أنها علل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر, وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية كان الفاعل متأخرا في السببية عن الغاية. ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية، وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية، فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط.
وأما سائر العلل، فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان، وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان ألبتة بل بالرتبة والشرف، لأن القابل أبدا مستفيد، والفاعل مفيد. وقد تكون العلة علة للشيء بالذات. وقد تكون بالعرض. وقد تكون علة قريبة، وقد تكون علة بعيدة، وقد تكون علة لوجود الشيء فقط، وقد تكون علة لوجوده، ولدوام وجوده، فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده، لا لعدمه السابق وفي حال عدمه، فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد، فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال, فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم.
وأما القوة والفعل؛ فالقوة تقال لمبدإ التغير في آخر من حيث إنه آخر، وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية، وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية, وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ، وفي الشمع قوة عليهما جميعا، وفي الهيولى قوة الجميع, ولكن بتوسط شيء دون شيء، وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد، كقوة النار على الإحراق فقط، وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين، وقد يكون في الشيء قوة على شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء، والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة، وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيه الأضداد، وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل، فإن هذه تبقى موجودة عندما يفعل، والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الفعل. وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر, فإنه يفعل بقوة ما فيه، أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر، وأما الذي ليس بالاختيار فلا يخلو: إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته، أو عن قوة في ذاته، أو عن شيء مباين، فإن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام، وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد على الجسمية، وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسما أو غير جسم، فإن كان جسما فالفعل عنه بقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر، هذا خلف. وإن لم يكن جسما، فتأثر الجسم عن ذلك المفارق إما أن يكون لكونه جسما أو لقوة فيه، ولا يجوز أن يكون بكونه جسما وقد أبطلناه، فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية، وهي التي تصدر عنها الأفاعيل الجسمانية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية، وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية, فيجب أن تكون كرة، وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة.
المسألة الرابعة:
في المتقدم، والمتأخر، والقديم, والحادث، وإثبات المادة لكل متكون.
التقدم قد يقال بالطبع، وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود, ولا يوجد إمكان وجود له، فهو إذن معنى في موضوع وعارض لموضوع. ونحن نسميه قوة الوجود، ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعا وهيولى ومادة وغير ذلك. فإذن كل حادث فقد تقدمته المادة، كما تقدمه الزمان.
المسألة الخامسة: في الكلي، والواحد، ولواحقهما
قال: المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء، وبما هو واحد أو كثير خاص أو عام شيء آخر، بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان, بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج. وإذ قد عرفت ذلك، فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط، وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء، وهو محمول على كل واحد، لا على أنه واحد بالذات، ولا على أنه كثير. وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين، وهو بهذا الاعتبار ليس موجودا بالفعل في الأشياء. فبين ظاهر أن الإنسان إذا اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو، فلا كلي عام في الوجود، بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل، وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة. ثم الواحد يقال لما هو منقسم من الجهة التي قيل له منها أنه واحد، ومنه ما لا ينقسم في الجنس، ومنه ما لا ينقسم في النوع، ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السود، ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس. ومنه ما لا ينقسم في العدد، ومنه ما لا ينقسم في الحد. والواحد بالعدد: إما أن يكون فيه كثرة بالفعل فيكون واحدا بالتركيب والاجتماع، وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة فيكون واحدا بالاتصال، وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق, والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بازاء الواحد كما ذكرنا، والكثير بالإضافة هو الذي يترتب بإزاءه القليل، فأقل العدد اثنان. وأما لواحق الواحد: فالمشابهة وهي اتحاد في الكيفية، والمساواة هي اتحاد في الكمية.
والمجانسة اتحاد في الجنس. والمشاكلة اتحاد في النوع. والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء. والمطابقة اتحاد في الأطراف. والهو هو: حال بين اثنين جعلا اثنين، في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما، ويقابل كل واحد منها من باب الكثير مقابل.
المسألة السادسة:
في تعريف واجب الوجود بذاته، وأنه لا يكون بذاته وبغيره معا، وأنه لا كثرة في ذاته بوجه، وأنه خير محض. وحق محض. وأنه واحد من وجوه شتى, ولا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود, وفي إثبات واجب الوجود بذاته.
قال: واجب الوجود معناه أنه ضروري الوجود، وممكن الوجود معناه أنه ليس فيه ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه. ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته، وقد لا يكون بذاته. والقسم الأول هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر، والثاني هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان، ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود، مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها, ولكن عند وضع أثنين واثنين، ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معا، فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل: إما أن يبقى وجوب وجوده، أو لم يبق، فإن بقي فلا يكون واجبا بغيره، وإن لم يبق فلا يكون واجبا بذاته، فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته، فإن وجوب وجوده تابع لنسبة, ما وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء، فاعتبار الذات وحدها إما أن يكون مقتضيا لوجوب الوجود وقد أبطلناه، وإما أن يكون مقتضيا لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره، وإما أن يكون مقتضيا لإمكان الوجود وهو الباقي. وذلك إنما يجب وجوده بغيره، لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه، ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق، فإن قيل: تجددت حالة، فالسؤال عنها كذلك. ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز لذاته مبادئ تجتمع، فيتقوم منها واجب الوجود: لا أجزاء كمية، ولا أجزاء حد، سواء كانت كالمادة والصورة، أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه: يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته: وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر, ولا ذات المجتمع، وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل، فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل، ولا يكون شيء منها بواجب الوجود. وليس يمكننا أن نقول إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معا، فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بجسم، ولا مادة في جسم، ولا صورة في جسم، ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا قسمة له: لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول، فهو واجب الوجود في جميع جهاته، إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة وجهة. وأيضا فإن قدر أن يكون واجبا من جهة ممكنا من جهة كان إمكانه متعلقا بواجب، فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقا، فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر، بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا طبيعة، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة، وهو خير محض، وكمال محض. والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء، والشر لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح حال للجوهر، فالوجود خيرية، وكمال الوجود كمال الخيرية، والوجود الذي لا يقارنه عدم، لا عدم جوهر ولا عدم حال للجوهر، بل هو دائم بالفعل، فهو خير محض، والممكن بذاته ليس خيرا محضا لأن ذاته تحتمل العدم، وواجب الوجود هو حق محض، لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له، فلا أحق إذن من واجب الوجود.
وقد يقال حق أيضا لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا، فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا، ومع صدقه دائما، ومع دوامه لذاته لا لغيره, وهو واحد محض، لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته، لأن وجود نوعه له بعينه, إما أن تقتضيه ذات نوعه، أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة، فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له، وإن كان لعلة فهو معلول، فهو إذن تام في وحدانيته، وواحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حده له، وواحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له, ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية، وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له، فلا يجوز إذن أن يكون اثنان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته، فيكون وجوب الوجود مشتركا فيه على أن يكون جنسا أو عارضا ويقع الفصل بشيء آخر، إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما. بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلا الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما، لأن تلك الطبائع معلولة، وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود. وههنا: فوجوب الوجود هو الماهية، وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيوانا بل في أن يكون موجودا. ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما، كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود، ويشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في منع كثرة اللفظ والاسم، بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم، وإن كان بالتواطؤ فقد حصل معنا عام عموم لازم أو عموم جنس، وقد بينا استحالة هذا. وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج, واللوازم معلولة؟
وإما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان "إن"، وهو الاستدلال بالممكن على الواجب، فنقول: كل جملة من حيث إنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذا كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو: إما أن تكون واجبة بذاتها، أو ممكنة بذاتها، فإن كانت واجبة الوجود بذاتها، وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم بممكنات الوجود، هذا خلف. وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها، فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود، فإما أن يكون المفيد خارجا عنها أو داخلا فيها، فإن كان داخلا فيها فيكون واحدا منها واجب الوجود, وكائن كل واحد منها ممكن الوجود، هذا خلف. فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجا عنها، وذلك هو المطلوب.
المسألة السابعة:
في أن واجب الوجود عقل, وعاقل, ومعقول، وأنه يعقل ذاته والأشياء، وصفاته الإيجابية والسلبية لا توجب كثرة في ذاته، وكيفية صدور الأفعال عنه.
قال: العقل يقال على كل مجرد عن المادة، وإذا كان مجردا بذاته عن المادة فهو عقل لذاته، واجب الوجود مجرد بذاته عن المادة، فهو عقل لذاته. وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته، فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة، فهو عاقل لذاته، وكونه عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون اثنين في الذات، ولا اثنين في الاعتبار، فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة، وأنه ماهية مجردة ذاته له، وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا، والغرض المحصل هو شيء واحد, وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات، وإذا عقلنا شيئا فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر، لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل. ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود، فهو الجمال المحض والبهاء المحض، وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق، وكلما كان الإدراك أشد اكتناها والمدرك أجمل ذاتا فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر، فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته، عشق من غيره أو لم يعشق. وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو، ويدركه بكنهه لا بظاهره، ولا كذلك الحس، فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس، لكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمر العسل لعارض. واعلم أن واجب الوجود ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل، وذلك محال. بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها. والموجودات الكائنة الفسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها. ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة. ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فـ {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 1. وأما كيفية ذلك، فلأنه إذا عقل ذاته، وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها. ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجبا بسببه، فتكون الأسباب بمصادماتها تتأذى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية. فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها، فيعلم ضرورة ما تتأذى إليه، وما بينها من الأزمنة، وما لها من العودات، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات، وإن تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة. وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له وإبداع وإيجاد، ولا يستبعد هذا، فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سببا للصورة الموجودة الصناعية، ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة، وهو العقل المقتضى لوجوده، فواجب الوجود ليس إرادته وقدرته مغايرة لعلمه لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل لا مأخوذا عن الكل، ومبدأ بذاته لا متوقفا على غرض وذلك هو الإرادة، وهو جواد بذاته، وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه، فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الأضافة، ومنها ما له هذا الوجود مع سلب، فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع.
وهو واحد، أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول، أو مسلوب عنه الشريك، وهو عقل وعاقل ومعقول، أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما، وهو أول، أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل، وهو مريد، أي واجب الوجود مع عقليته, أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله، وهو جواد، أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضا لذاته فصفاته إما إضافية محضة، وإما سلبية محضة، وإما مؤلفة من إضافة وسلب, وذلك لا يوجب تكثرا في ذاته. قال: وإذا عرفت انه واجب الوجود وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن يوجد، وذلك لأن الجائز أن يوجد, وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود، والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض ألبتة شيء فيه, ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده, وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحا، إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة، فلا بد وأن يعرض له شيء، وذلك لا يخلو إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر، وإما أن يعرض مباينا عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال. قال: والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة، وهي كما كانت، وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل، وهي الآن كذلك، فالآن لا يوجد عنها شيء، فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة: من قصد، أو إرادة، أو طبع، أو قدرة، أو تمكن، أو غرض، ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب، وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح, ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات، وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل، ولم تحدث لها نسبة أخرى، فيكون الأمر بحاله، ويكون الإمكان إمكانا صرفا بحاله، وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مباينا عن ذاته، وقد بينا استحالة ذلك. وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته ولا نسبة أصلا. فيلزم أن لا يحدث شيء أصلا وقد حدث. فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته وأنه سبقه لا بزمان ووقت، ولا تقدير زمان، بل سبقا ذاتيا من حيث إنه هو الواجب لذاته، وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته. فالممكن مسبوق بالواجب فقط، والمبدع مسبوق بالبدع فقط، لا بالزمان.
المسألة الثامنة:
في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية، وأن المحرك القريب للسماويات نفس، والمبدأ الأعلى عقل، وحال تكون الأسطقسات عن العلل.
إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد، ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوما معا, فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته، ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته, فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته, فتكون ذاته منقسمة بالمعنى، وقد منعناه وبينا فساده، فتبين أن أول الموجودات عن الأول واحد بالعدد. وذاته وماهيته وحدة, لا ما في مادة، وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل. وأنت تعلم أن في الموجودات أجساما وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسه, وأنه يجب بغيره، وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول بغير واسطة، وعلمت أن الواسطة واحدة، فبالحري أن تكون عنها المبدعات الثانية والثالثة وغيرها، بسبب إثنينية فيها ضرورة. فالمعلول الأول ممكن الوجود بذاته, وواجب الوجود بالأول. ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة، وليست هذه الكثرة له من الأول فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول، بل له من الأول وجوب وجوده, ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول. وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدإ قوامه، ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا واحدة، ولكان يتسلسل الوجود من وحدات فقط، فما كان يوجد جسم. 
فالعقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته. وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه, وهو الأمر المشارك للقوة. فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل، وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك. وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك إلا أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا. وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق، فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة، وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة، فتلزم كثرته هذه المعلومات، ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول. فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول، ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر، لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة، فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة. والمادة لها طبيعة عدمية، والعدم ليس مبدأ للوجود، فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود، فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم، ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله، إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهرا مفارقا وإلا كان عقلا، وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتها. وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم، ولا يكون متوسطا بين نفس ونفس. ولو أن نفسا كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم، وليست النفس الفلكية كذلك، فلا تفعل شيئا، ولا تفعل حسما، فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال. فتعين أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور للأجرام، والجميع مشترك في مبدأ واحد وهو الذي نسميه المعلول الأول والعقل المجرد. ويختص كل فلك بمبدأ خاص فيه، ويلزم دائما عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها, وينتهي بالفلك الأخير، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد، لتكثر الأسباب. فكل عقل هو أعلى في المرتبة، فإنه لمعني فيه، وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه. وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه، فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته. وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره. ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية. فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل. والمادة بنفسها لا قوام لها، كما أن الإمكان نفسه لا وجود له. وإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقساط ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة, وجب أن يكون مبادؤها متغيرة، فلا يكون ما هو عقل محض وحده سببا لوجودها.
ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلاف في أحوال الأفلاك، واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك، فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة، ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة. ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شئ فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال، كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل، ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية، فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري، أو بواسطة تجعله على استعداد خاص به بعد العام الذي كان في جوهره: فاض عن هذا المفارق صورة خاصة. وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة، وهي معدات المادة. والمعد هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولي من مناسبته لشيء آخر، ويكون هذا الإعداد مرجحا لوجود ما هو أولي منه من الأوائل الواهبة للصور. ولو كانت المادة على التهيؤ الأول تشابهت نسبتها إلى الصندين, فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة. قال: والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية إما عن أربعة أجرام. أو عن عدة منحصرة في أربع، أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساما من الأسباب منحصرة في أربع، فتحدث منها العناصر الأربعة، وانقسمت بالخفة والثقل، فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق، وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل، وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة فبينهما. وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية، وسنذكر أقسامها وتوابعها. وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد، فإنها كثيرة مع وحدة النوع. والمعلول الأول الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا. ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع، فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها، وصور تتخالف ونتكثر، بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئا غير ما يقتضيه الآخر في النوع، فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر. فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول بتوسط علة أو علل أخرى, وأسباب من الأمزجة والمواد، وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع.
ونبتدئ القول في الحركات، وأسبابها، ولوازمها:
أعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم والجسم على حالته الطبيعية، وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية، إذ لو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف، وإما في الكم، وإما في المكان، وإما في الوضع، وإما في مقولة أخرى. والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية.
فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة، وإلا كانت عن حال غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية، لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار, بل على سبيل التسخير، فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة, إما عن أين غير طبيعي، أو وضع غير طبيعي هربا طبيعيا عنه، وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه, والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتفصده فليست إذن طبيعية، إلا أنها قد تكون بالطبع، وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئا بالطبع، وإنما تحرك بتوسط الميل الذي فيه. ونقول إن الحركة معنى متجدد السبب، وكل شطر منه مختص بسبب، فإنه لا ثبات له, ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت ألبتة وحده، ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال، فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت، فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب ألبتة حركة، فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير، والقوة العقلية حاضرة المعقول دائما، ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركا للتخيل والحس، فلا بد للحركة من مبدإ قريب, والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتجدد تصوراتها وإراداتها، وهي كمال جسم الفلك وصورته، ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل، ولا يخالط ما بالقوة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا، إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا بالمادة. وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة، وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية، كالفعل العقلي فينا، والمحرك الأول لها غير مادي أصلا، وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية، والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها نوره دائما صارت قوتها غير متناهية، فكانت الحركات المستديرة أيضا غير متناهية. والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل، ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة، إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولي بأن يكون ملاقيا له أو لجزئه من جزء آخر. فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة, والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال، ولم يكن هذا ممكنا للجرم السماوي بالعدد، فحفظ بالنوع والتعاقب، فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال، ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال، ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه. فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور المرجب له، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول، لأن ذلك تصور لما بالفعل، فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب، ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى المقصود الأول، وتتبع تلك التصورات الحركات المنتقل بها في الأوضاع، وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية, وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها، بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء، فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر متشابه.
وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدإ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء، ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان. فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه، ومتحرك بالنفس، ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية، وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها، وعرفت أن المحرك الأول لجملة السماء واحد، ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه، ومتشوق معشوق يخصه. فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى، ولكل واحدة مبدأ خاص، وللكل مبدأ، فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة. ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة، ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء, بل ولا قصد فعل ألبتة لأجلها، وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود، ويكون أنقص وجودا من المقصود، لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجودا من الآخر، ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس, فلا يكون ألبتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطيا ومفيدا لوجود ما هو أكمل، وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئا له ومفيد وجوده شيء آخر، وكل قصد ليس عبثا فإنه يفيد كمالا ما لقاصد، لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال, ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالا لم يكن. فالعالي إذن لا يريد أمرا لأجل السافل، وإنما يريده لما هو أعلى منه، وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان. ولا يجوز أن يكون الغرض تشبها بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي، إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم، ولم يكن مخالفا له وأسرع في كثير من المواضع. ولا يجوز أن يكون الغرض شيئا يوصل إليه بالحركة، بل شيئا مباينا غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها. وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه، وتختلف الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك، وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها. وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك، وهذا معنى قول القدماء: إن للكل محركا واحدا معشوقا، ولكل كرة محركا يخصها ومعشوقا يخصها، فيكون إذن لكل فلك نفس محركة تعقل الخير، ولها بسبب الجسم تخيل, أي تصور للجزئيات وإرادة لها، ثم يلزمها حركات ما دونها لزوما بالقصد الأول حتى تنتهي إلى حركات الفلك الذي يلينا، ومدبرها العقل الفعال. ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك، وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال، فيعطيها صورها على قدر استعداداتها، كما قررنا. فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها، وستعلم بواقيها في الطبيعيات.
المسألة التاسعة: في العناية الأزلية، وبيان دخول الشر في القضاء
قال: العناية هي كون الأول عالما لذاته بما عليه الوجود من نظام، وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، وراضيا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان، فيفيض منه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان، فهذا هو معنى العناية, والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولا بالذات لا بالعرض، والشر بالعكس منه وهو على وجوه: فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة، ويقال شر لمثل الألم والغم، ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء، وبالجملة الشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته. والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه، والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه، ولو كان له حصول ما لكان الشر العام. وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل، وليس فيه ما بالقوة أصلا فلا يلحقه شر. وأما الشر بالعرض فله وجود ما، وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة، وذلك لأجل المادة. فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها، وأول وجودها: هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه، فتجعلها أردأ مزاجا وأعصى جوهرا لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم، فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية، لا لأن الفاعل قد حرم، بل لأن المنفعل لم يقبل. وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين: إما مانع للمكمل، وإما مضاد ماحق للكمال. مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص. ويقال شر لمبادئها من الأخلاق، مثال الأول: الظلم والرياء، ومثال الثاني: الحقد والحسد, ويقال شر للآلام والغموم، ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله. والضابط لكله إما عدم وجود، وإما عدم كمال. فنقول: الأمور إذا توهمت موجودة؛ فإما تمتنع أن تكون إلا خيرا على الإطلاق، أو شرا على الإطلاق، أو خيرا من وجه وشرا من وجه، وهذا القسم إما أن يتساوى الخير والشر، أو الغالب فيه أحدهما. أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة. وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلا. فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن الشر، والأحرى به أن يوجد، فإن لا كونه أعظم شرا من كونه، فواجب أن يفيض وجوده من حيث يفيض منه الوجود، لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي. وأيضا فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض، وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي، بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها، فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل، وبقي نمط من الوجود إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إلا ويتبعه ضرر وشر، مثل النار، فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخن، ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق، والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار، فأما الدائم فلأن أنواعا كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود النار، وأما الأكثر فلأن أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق، فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية، فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذا الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال: إن الله تعالى يريد الأشياء، ويريد الشر أيضا على الوجه الذي بالعرض، فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض، وكل بقدر. والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة: السماوية والأرضية الطبيعية والنفسانية، بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور، فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس: صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر، ويحدث في بدن: صورة قبيحة مشوهة، ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت، فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة. وقيل: "خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي" وكل ميسر لما خلق له.
المسألة العاشرة:
في المعاد، وإثبات سعادات دائمة للنفوس، وإشارة إلى النبوة، وكيفية الوحي والإلهام.
ولنقدم على الخوض فيها أصولا ثلاثة:
الأصل الأول: أن لكل قوة نفسانية لذة وخيرا يخصها، وأذى وشرا يخصها، وحيثما كان المدرك أشد إدراكا وأفضل ذاتا والمدرك أكمل وجودا وأشرف ذاتا وأدوم ثباتا، فاللذة أبلغ وأوفر.
الأصل الثاني: أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما، بحيث يعلم أن المدرك لذيذ، ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه, ولم يفزع نحوه، فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك.
الأصل الثالث: أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة، وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده، أو تكون القوة ممنوعة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمحرور، فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه، فصدقت شهوته، واشتهت طبيعته، وحصل له كمال اللذة.
فنقول بعد تمهيد الأصول: إن النفس كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقليا مرتسما فيها صورة الكل، والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض من واهب الصور على الكل، مبتدئا من المبدإ. وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق، ومتحدا به، ومنتقشا بمثاله، ومنخرطا في سلكه، وصائرا من جوهره، وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجودا ودواما ولذة وسعادة، بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية، وأعلى من الكمالات الجسمانية، بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال. وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وتهذيب الأخلاق. والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية، وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين، لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين، فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان، وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء. ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية، فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن، شديدة الانصراف إليه. وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة، فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن، فسعدت السعادة الكبرى. ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين، أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما. فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات، والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية. وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد؟ وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت؟ قال: فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب، وليته سكت عنه، وقد قيل:
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد
قال: وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا، ويصدق بها تصديقا يقينا لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض. والنظام الآخذ من المبدإ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، ويتصور العناية وكيفيتها، ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها, وأية وحدة تخصها, وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه، وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها. وكلما ازداد استبصارا ازداد للسعادة استعدادا، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة. ثم إن النفوس والقوى الساذجة التي لم تكتسب هذا الشوق ولا تصورت هذه التصورات، فإن كانت بقيت على ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت. أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأيا مكتسبا إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي، وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية، والجاحدون أسوأ حالا. والنفوس البله أدنى من الخلاص من فطانة بتراء، لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة، ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة، ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة، بل جميع هيئآتهم النفسانية متوجهة إلى الأسفل، منجذبة إلى الأجسام، ولابد لها من تخيل، ولابد للتخيل من أجسام. قال فلا بد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة، فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الرديئة أيضا تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه، فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد تأثيرا، كما تشاهد في المنام، وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة. وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية، ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها. قال: والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة، إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فبها يسمع كلام الله تعالى، ويرى ملائكته المقربين، وقد تحولت على صور يراها. وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول، ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس، كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة. ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته، مكتفيا بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضا مكتفيا به. ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما، يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير. ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد من سان ومعدل، ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة. فلا بد من أن يكون إنسانا. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل واحد منهم ما له عدلا وما عليه ظلما، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع, ولا تقتضي هذه التي هي أسها. ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود؟ فلا بد إذن من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى: يدعوهم إلى التوحيد, ويمنعهم من الشرك، ويسن لهم الشرائع والأحكام، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن التباغض والتحاسد، ويرغبهم في الآخرة وثوابها، ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالا تسكن إليها نفوسهم، وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمرا مجملا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير. والمذكرات إما حركات، وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات. فالحركات كالصلوات وما في معناها، وأعدام الحركات كالصيام ونحوه، وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين. وينفعهم ذلك أيضا في المعاد منفعة عظيمة، فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن، وتحصل لها ملكة التسلط عليه فلا تنفعل عنه، وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق، والإعراض عن الباطل، وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية، وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى، وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله، ويعرض عن غيره لكان جديرا بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ، فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى، وبإرسال الله تعالى وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنه، وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة، وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه؟!
وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات. لكنك تحدس مما سلف آنفا أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات؟ وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة، وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب، وقد تصفو النفس صفاء شديدا لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال، وبالقوة الثانية بخبر عن غيب, ويكلمه ملك. فيكون ما للأنبياء عليهم السلام وحيا، وما للأولياء إلهاما.
وها نحن نبتدأ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي على بن سينا.














مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید