المنشورات

في الطبيعيات:

قال أبو علي بن سينا: إن للعلم الطبيعي موضوعا ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم، وموضوعه: الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير، وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات، وأما مبادئ هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن المادة والصورة، والقول في حقيقتهما، ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني, فقد ذكرناها في العلم الإلهي. والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير، وإما مختلفتها كبدن الإنسان، ومنها أجسام مفردة. والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية، وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت، وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر. والتجزؤ إما بتفريق الاتصال، وإما باختصاص العرض ببعض منه، وإما بالتوهم، وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل. قال: ومن أثبت الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزأ بالفعل؛ فبطلانه بأن كل جزء مس جزءا فقد شغله بالمس، وكل ما شغل شيئا بالمس فإما أن يدع فراغا عن شغله لجهة أو لا يدع، فإن ترك فراغا فقد تجزأ الممسوس، وإن لم يترك فراغا فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول وقد ماسه آخر هذا خلف. وكذلك في كل جزء موضوع على جزأين متصل وغيره. من تركيب المربعات منها، لمساواة الأقطار والأضلاع، ومن جهة مسامتات الظل والشمس, دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ ألبتة محال وجوده.
فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم، ونحصرها في ست مقالات.
المقالة الأولى: في لواحق الأجسام الطبيعية
مثل الحركة، والسكون، والزمان، والمكان، والخلاء، والتناهي، والجهات، والتماس، والالتحام، والاتصال، والتتالي.
أما الحركة: فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل، فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال، ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقيا غير متشابه الحال في نفسه، وذلك مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة, والرطوبة واليبوسة والطول والقصر, والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره، فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول، فهو في المكان الأول بالفعل, وفي المكان الثاني بالقوة، فالحركة كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة، ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحصنة, والفعل المحض، وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولا قارا مستكملا، وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من الجواهر كذلك. فإذا لا شيء من الحركات في الجوهر. وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة. وأما الكمية فلأنها تقبل التزيد والتنقص فخليق أن يكون فيها حركة، كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف. وأما الكيفية، فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود, فيوجد فيه الحركة. وأما المضاف، فأبدا عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد. فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة. وأما الأين، فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة. وأما متى، فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة، فكيف يكون فيه الحركة؟ ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر. وأما الوضع، فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه، إذ لو توهم المكان المطيف به معدوما لما امتنع كونه متحركا. ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع، ومثاله في الموجودات: الجرم الأقصى الذي ليس وراءه جسم، والوضع يقبل التنقص والاشتداد، فيقال: انصب, وأنكس. وأما الملك فإن تبدل الحال فيه تبدل أولا في الأين، فإذن الحركة فيه بالعرض. وأما أن يفعل، فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة، فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولا، وفي الفعل بالعرض. على أن الحركة إن كانت خروجا عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك، فإذا لا حركة بالذات إلا في الكم، والكيف، والأين، والوضع، وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده.
والسكون: هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه، وهذا العدم له معنى ما ويمكن أن يرسم، وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقدا وقولا, وبين عدم المشي له، فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي، وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة بنحو، والمشي علة بالعرض لذلك العدم، فالعدم معلول بالعرض موجود بالعرض.
ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة، إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركا فيجب أن يكون المحرك معنى زائدا على هيولى الجسمية وصورتها. ولا يخلو إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم، وإما أن لا يكون فإن كان المحرك مفارقا فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير. ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركا بذاته، وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى, فيسمى متحركا بالاختيار، وإما ألا يصح فيسمى متحركا بالطبع, والمتحرك بالطبع لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية، لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت. وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل، لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية، فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك، فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية. وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان، لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي، وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة، وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم، فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية، ولا الحركة الوضعية، فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية، ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها، وقد تحقق العود، فهي إذا غير طبيعية، فهي إذن عن اختيار وإرادة، ولو كانت عن قسر فلا بد أن ترجع إلى الطبع أو الاختيار. وأما الحركات في أنفسها فيتطرق إليها الشدة والضعف، فيتطرق إليها الشرعة والبطء لا بتخلل سكنات. وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة، وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد وفي زمان مساو، مثل تبييض ما يتبيض، وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد, ووحدتها بوجود الاتصال فيها. والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد. وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض, أو أبطأ أو مساو، والأسرع هو الذي يقطع شيئا مساويا لما يقطعه الآخر في زمان أقصر وضده الأبطأ، والمساوي معلوم. وقد يكون التطابق بالقوة، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالتخيل، وأما تضاد الحركات فإن الضدين هما اللذين موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الاختلاف، فتضاد الحركات ليس بتضاد المتحركين، ولا بالزمان؛ ولا بتضاد ما يتحرك فيه، بل تضادهما هو بتضاد الأطراف والجهات. فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية، لأنهما لا يتضادان في الجهات، بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل، لأنها متصل واحد، فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور، فالهابطة ضد الصاعدة، والمتيامنة ضد المتياسرة. وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة، وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون، بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك، ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة. والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه، بل ربما كان هذا السكون استكمالا لها.
وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول:
كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معا، فإنهما تقطعان المسافة معا، وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركنا الحركة معا، فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى. وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر، وكان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة, وأقل منها ببطء معين، وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة يكون هذا الإمكان طابق جزءا من الأول ولم يطابق جزءا مقتضيا وكان من شأن هذا الإمكان التقضي، لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها، ولما كان إمكان أقل من إمكان، فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان، فكان ذا مقدار مطابق للحركة، فإذن ههنا مقدار للحركات مطابق لها, وكل ما طابق الحركات فهو متصل، ويقتضي الاتصال تجدده، وهو الذي نسميه "الزمان". ثم هو لا بد وأن يكون في مادة، ومادته الحركة، فهو مقدار الحركة. وإذا قدرت وقوع حركتين مختلفتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان، بل مقداران مختلفان. وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع، فليس الزمان محدثا حدوثا زمانيا بحيث يسبقه زمان، لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه، وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه, وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه، فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم، فإذا قسم ثبتت منه آنات وانقسم إلى الماضي والمستقبل، وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد، وكون الآن فيه كالوحدة في العدد، وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد. و"الدهر" هو المحيط بالزمان. وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم، كالساعات والأيام، والشهور، والأعوام.
وأما المكان، فيقال مكان لشيء يكون محيطا بالجسم، ويقال لشيء يعتمد عليه الجسم, والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي، وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له، وليس هو شيئا في المتمكن، وكل هيولى وصورة فهو في المتمكن، فليس إذا المكان إذا بهيولى وصورة، ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة قائمة بمكان الجسم المتمكن، لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم، ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء. ونقول في نفي الخلاء إن فرض خلاء خال، فليس هو لا شيئا محضا، بل هو ذات ما له كم، لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو أكثر، ويقبل التجزؤ في ذاته. والمعدوم واللا شيء ليس يوجد هكذا، فليس الخلاء لا شيء، فهو "ذو" كم. وكل "كم" فإما متصل وإما منفصل، والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه، وقد تقرر في الخلاء حد مشترك، فهو إذا متصل الأجزاء منحازها في جهات، فهو إذن "كم" ذو وضع، قابل للأبعاد الثلاثة، كالجسم الذي يطابقه، وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة. فنقول الخلاء المقدر إما أن يكون موضوعا لذلك المقدار، أو يكون الوضع والمقدار جزأين من الخلاء، والأول باطل، فإنه إذا رفع المقدار في التوهم كان الخلاء وحده بلا مقدار، وقد فرض أنه ذو مقدار، فهو خلف، وإن بقي متقدرا في بنفسه لا لمقدار حله، وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذا جسم فهو ملاء.
وأيضا، فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا والخلاء لا مادة له، فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال. ونقول: إن التمانع محسوس بين الجسمين، وليس التمانع من حيث المادة، لأن المادة من حيث إنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء، وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد، فطباع الأبعاد تأبى التداخل، وتوجب المقاومة والتنحي. وأيضا فإن بعدا لو دخل فإما أن يكونا جميعا، فهما أزيد من الواحد، وكل ما هو عظيم، وهو أزيد فهو أعظم, وإن عدما جميعا. أو وجد أحدهما وعدم الآخر، فليس مداخلة. فإذا قيل جسم في خلاء، فيكون بعدا في بعد، وهو محال.
ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم: إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه، إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف. فإن كل غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم، فيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئا على حدة، وبانفراده شيئا على حدة. ثم يطبق بين الطرفين المتناهيين في التوهم، فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معا متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال، وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهيا والفصل أيضا كان متناهيا فيكون المجموع متناهيا فالأصل متناه. وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويكون طرفا ونهاية، ويكون الكلام في الأجزاء والجزأين كالكلام في الأول. وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه، وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد وفرض أنه يحتمل زيادة ونقصانا وجب أن يلزم ذلك محال. وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معا وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحدا قبل آخر أو بعده لاحقا، أو كانت ذات عدد غير مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معا، وذلك أن ما لا يترتب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق، وما لا وجود له معا فهو فيه أبعد، ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية قال: الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه. فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة, وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل؛ بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة. واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها، أو إلى عدة ما يظهر عنها، أو إلى مدة بقاء الفعل، وبينها فرقان بعيدان، فإن جل ما يكون زائدا بنوع الشدة يكون ناقصا بنوع المدة. وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر، ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة، لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو: إما أن يقل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهيا يجوز عليه زيادة في آخره، وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة، فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية.
وأما الكلام في الجهات: فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعادا أو جسما غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود ألبتة فلا يكون فوق وسفل، ويمين ويسار، وقدام وخلف، فالجهات إنما تتصور في أجسام متناهية، فتكون الجهات أيضا متناهية، ولذلك يتحقق إليها إشارة. ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى. وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط، والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط. وإذا كان الجسم المحدد محيطا كفى لتحديد الطرفين، لأن الإحاطة تثبت المركز، فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر. وأما إن فرض محاطا لم تتحدد به وحده الجهات، لأن القرب يتحدد به، والبعد منه يتحدد بجسم آخر، إذ لا خلاء، وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط. ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها، بل الجهات تحصل بحركاتها، فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسما متقدما عليه، وتكون إحدى الجهات بالطبع غاية القرب منه وهو الفوق، ويقابله غاية البعد منه وهو السفل؛ وهذان بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام، بل بما هي حيوانات، فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية، واليمين الذي منه مبدأ القوة، والفوق إما بقياس فوق العالم، وإما الذي إليه أول حركة النشوء، ومقابلاتها الخلف واليسار والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى أن يسمى طولا، واليمين واليسار بما الأولى أن يسمى عرضا، والقدام والخلف بما الأولى أن يسمى عمقا.
المقالة الثانية: في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام
من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة، وأن لكل جسم حيزا ما ضرورة، فلا يخلو إما أن يكون كل حيز له طبيعيا، أو منافيا لطبيعته، أو لا طبيعيا ولا منافيا، أو بعضه طبيعيا وبعضه منافيا. وبطل أن يكون كل حيز له طبيعيا، لأنه يلوم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجا عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائما لطبعه، وليس الأمر كذلك، فهو خلف. وبطل أن يكون كل حيز منافيا لطبعه، لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم ألبتة بالطبع ولا يتحرك أيضا، وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه؟ وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعيا ولا منافيا، لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي، فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر. وتعين القسم الرابع لأن بعض الأحياز له طبيعي، وبعضها غير طبيعي. وكذلك نقول في الشكل: إن لكل جسم شكلا ما بالضرورة لتناهي حدوده، وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر، وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كريا، لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه، فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطا مستقيما أو منحنيا، فينبغي أن يتشابه الأجزاء، فيجب أن يكون الشكل كريا, وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها فالأجسام السماوية كلها كرية, وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة، فلا يتصور أرضا، في وسطين في عالمين، ولا ناران في أفقين، بل لا يتصور عالمان، لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل، فلو قدر كريان أحدهما بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم، وقد تقدم استحالة الخلاء. وأما الحركة، فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض بل من حيث هو جسم في حيز, فهو إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا، وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي، فنقول: إن كان الجسم بسيطا كانت أجزاؤه متشابهة، وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك، فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص بعض أجزاء المكان من بعض، فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعيا، فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع، بل في طباعه أن يزول عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة، وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج فبالضرورة في طباعه حركة ما إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركا في الوضع بحركة الأجزاء، وإذا صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل، ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة. والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق، فهي متحركة على الاستدارة، وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها.
وأما الكيف فنقول أولا: إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة, بل هي مختلفة بالطبع، كما أن صورها مختلفة، ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى، ولو أمكن ذلك كذلك لقبلت الحركة المستقيمة، وهو محال. فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع، بخلاف طبائع العناصر، فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة، وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار، وإلى حار رطب كالهواء، وإلى بارد رطب كالماء، وإلى بارد يابس كالأرض، وهذه أعراض فيها لا صور، ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض، ويقبل النمو والذبول، ويقبل الآثار من الأجسام السماوية. وأما الكيفيات، فالحرارة والبرودة فاعلتان، فالحار هو الذي يغير جسما آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه، والبارد هو الذي يغير جسما بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه. وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان، فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع, والتشكيل والدفع، واليابس هو عسر القبول لذلك. فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع، ولا يوجد شيئا منها عديما لواحدة من هذه. وليست هذه صورا مقومة للأجسام، لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر أو برد ورطوبة أو يبس، كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة، فلذلك قيل قوة طبيعية، وقيل النار حارة بالطبع، والسماء متحركة بالطبع. فعرفت الأحياز الطبيعية، والأشكال الطبيعية، والحركات الطبيعية، والكيفيات الطبيعية. وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه، فنقول بعد ذلك: إن العناصر قابلة للاستحالة والتغيير وبينها مادة مشتركة، والاعتبار في ذلك بالمشاهدة، فإنا نرى الماء العذب انعقد حجرا جلمدا والحجر يكلس فيعود رمادا، ويرام بالحيلة حتى يصير ماء، فالمادة مشتركة بين الماء والأرض. ونشاهد هواء صحوا يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبردا وثلجا، ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح، لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حارا والكوز مملوءا، ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد، وقد يدفن القدح في جمد محفور حفرا مهندما ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير، وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء، وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء، فبين الماء والهواء مادة مشتركة. وقد يستحيل الهواء نارا، وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ، فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره، وليس ذلك على طريق الانجذاب، لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو، ولا على طريق الكمون، إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ماله ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق، والكمون أجمع لها، والمنتشر أضعف تأثيرا من المجتمع، فتعين أنه هواء اشتعل نارا، فبين النار والهواء مادة مشتركة. ونقول: إن العناصر قابلة للكبر والصغر, والتكاثف والتخلخل، فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج، ويصير أصغر من غير نقصان، فبين الكبير والصغير مادة مشتركة، إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى، والكبر والصغر أعراض في الكميات. وقد نشاهد ذلك إذا أغلي الماء انتفخ وتخلخل. والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان، وكذلك القمقمة الصياحة، وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت. ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان. ولا جائز أن يقال: إنه كبر بدخول أجزاء النار فيها؛ فإنه كيف دخلت وما خرج جزء من الماء ولا خلاء فيه؟ ولا جائز أن يقال: إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها، فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره، وإذا كان الإناء صلبا خفيفا كان رفعه أسهل من كسره، فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف، وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص. ونقول: إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية إما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة، والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق، وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب الصور، وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات، وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد؟ وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه؟ فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير. وتبين ما لها بالعنصر والجوهر. 
المقالة الثالثة: في المركبات والآثار العلوية
قال ابن سينا: إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة, بل يكون فيها اختلاط، ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض، أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها، وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل، وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة، ثم الأرض على طبقات: الطبقة الأولى القريبة من المركز، والثانة الطين، والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر. والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة, والماء يستحيل أرضا فتحصل ربوة، والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة. وأما الهواء فهو أربع طبقات طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمي فتتعدى الحرارة إلى ما يجامرها، وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة، وطبقة هي هواء صرف صاف، وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق. وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها, بل هي كالهواء المشف الذي لا لون له، وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون. ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية، والعناصر بطبقاتها طوعها، والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها. والفلك وإن لم يكن حارا ولا باردا فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها، ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي، ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن، بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء، فالفلك إذا هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ودخن من الأجسام المائية ودخن من الأجسام الأرضية. وأثار شيئا بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية. والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان، لأن الماء إذا سخن كان حارا رطبا. والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة، والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء، والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار. والبخار لا يجاوز مركز الهواه بل إذا وافى منقطع تاثير الشعاع برد وكثف، والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار، وإذا احتبستا فيهما حدثت كائنات أخر. فالدخان إذا وافى حيز النار اشتعل، وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به، وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود، وربما كان غليظا ممتدا وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب, ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنبا له. وربما كان عريضا فرئي كأنه لحية كوكب، وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة، وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحا وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد، وإن قويت حركته وتحريكه اشتعل من حرارة الحركة والهواء والدخان فصار نارا مضيئة تسمى البرق، وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة، ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس، ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير. ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعا عن الحركة، ولكن البصر أحد، فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع، وقد يرى متقدما ويسمع متأخرا.
وأما البخار الصاعد, فمنه ما يلطف ويرتفع جدا ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابا، والقاطر مطرا، ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعا وينزل كما لو يوافه برد الليل سريعا قبل أن يتركم سحابا، وهذا هو الطل، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجا، وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعا، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان بردا، وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب. وفي الربيع وهو داخل السحاب، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة، وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحابا واستحال مطرا. ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها, وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها واستوائها ورعشتها, وكثرتها وقلتها، فيرى هالة وقوس قزح, وشموس وشهب.
فالهالة تحدث على انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير، فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير، وما في داخلها ينفذ عن البصر إلى النير، ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود، وكأن الغيم هناك هواء شفاف. وأما القوس فإن الغمام يكون في خلاف جهة النير، فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير, بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير، فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور، فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين، فيرى القوس نصف دائرة، فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر في المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة، وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد. والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضبابا، وربما اندفعت بعد التلطف إلى أسفل فصارت رياحا، وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة، وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى، وأكثر ما يهيج البرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادئ الرياح فوقانية، وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحا، والسموم ما كان منها محترقا. وأما الأبخرة داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيونا، وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت، وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن، وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب خط، وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد. فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويكون قبل أن يصلب زئبقا ونفطا، وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام. ومنها ما لا يقبل ذلك. وقد تتكون من العناصر أكوان أيضا بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجا أكثر اعتدالا من المعادن، فيحصل في المركب قوة غاذية وقوة نامية وقوة مولدة، وهذه القوى متمايزة بخصائصها.
المقالة الرابعة: في النفوس وقواها
اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: النباتية؛ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى، والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل.
والثاني: النفس الحيوانية؛ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
والثالث: النفس الإنسانية؛ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي, ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.
وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي:
1- القوة الغاذية؛ وهي القوة التي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.
2- والقوة المنمية؛ وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولا وعرضا وعمقا بقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء.
3- والقوة المولدة؛ وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءا هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخلق والتمزيج ما يصير شبيها به بالفعل. فللنفس النباتية ثلاث قوى.
وللنفس الحيوانية قوتان: محركة ومدركة، والمحركة على قسمين: إما محركة بأنها باعثة، وإما محركة بأنها فاعلة. والباعثة هي القوة النزوعية الشوقية. وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك، ولها شعبتان: شعبة تسمى شهوانية، وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلبا للذة، وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة. وأما القوة المحركة على أنها فاعلة، فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمدها طولا فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدإ.
وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين:
أحدهما: قوة تدرك من خارج، وهي الحواس الخمس، أو الثمانية فمنها البصر، وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقلية، ومنها السمع وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاضا بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتادى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ، ويموجه بشكل نفسه، وتماس أمواج تلك الحركة العصبة، فيسمع. ومنها الشم، وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح، والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة. ومنها الذوق، وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله. ومنها اللمس وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه، والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة، ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعا بل جنسا لأربع قوى منبثة معا في الجلد كله، الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس، والرابعة حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس، إلا أن اجتماعها معا في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات. والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة.
والقسم الثاني: قوى تدرك في باطن، فمنها ما يدرك صور المحسوسات، ومنها ما يدرك معاني المحسوسات. والفرق بين القسمين في أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معا ولكن الحس يدركه أولا ويؤديه إلى النفس، مثل إدراك الشاة صورة الذئب. أو المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولا، مثل إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه. ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل، ومنها ما يدرك ولا يفعل. والفرق بين القسمين أن الفعل فيها هو أن تركب الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض، وتفصل بعضها عن بعض، فيكونه إدراك وفعل أيضا فيما أدرك، والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المعنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرف فيه. ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولا, ومنها ما يدرك ثانيا، والفرق بين القسمين: أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه، والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها.
ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة "بنطاسيا" وهو الحس المشترك, وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه إليه. ثم الخيال والمصورة، وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قلبه الحس المشترك من الحواس، ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات. والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية، وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية، فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار. ثم إن القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه, وأن الولد معطوف عليه. ثم القوة الحافظة الذاكرة، وهي قوة مرتبة في التجويف، ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك، إلا أن ذلك في المعاني وهذا في الصور. فهذه خمس قوى الحيوانية.
وأما النفس الناطقة للإنسان, فتنقسم قواها أيضا إلى قوة عالمة, وقوة عاملة، وكل واحد من القوتين يسمى عقلا باشتراك الاسم. فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية، ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية، واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة، واعتبار بالقياس إلى نفسها. وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال، مثل الخجل والحياء، والضحك والبكاء. وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة، واستنباط الصناعات الإنسانية. وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة، مثل: إن الكذب قبيح, والصدق حسن. وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه ألبتة بل ينفعل عنها، فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية، وهي التي تسمى أخلاقا رذيلة، بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها, وتكون متسلطة عليها. وأما القوة العالمة النظرية، فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، فإن كانت مجردة بذاتها فذاك، وإن لم تكن فإنها تصيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء. ثم لها إلى هذه الصور نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا لها، وقد يكون بالفعل.
والقوة على ثلاثة أوجه: قوة مطلقة هيولانية، وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة، وقوة ممكنة، وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف، وقوة تسمى ملكة، وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب. فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق، وتسمى عقلا هيولانيا، وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية تسمى عقلا بالفعل، وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت محزونة له بالفعل متى شاء طالعها، فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلا مستفادا، وإذا كانت مخزونة تسمى عقلا بالملكة، وههنا ينتهي النوع الإنساني ويتشبه بالمبادئ الأولى للوجود كله. وللناس مراتب في هذا الاستعداد، فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم، حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليدا بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه, إما دفعة في زمان واحد، وإما دفعات في أزمنة شتى، وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات. أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية. فالدرجة العليا منها النبوة فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة وكلمات مسموعة، فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل، وعن الكلام بوحي في صورة عبارة.
المقالة الخامسة:
في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم. وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات. وأنها واحدة وقواها كثيرة، وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن.
أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكا معقولا مجردا عن المواد وعوارضها، أعني الكم والأين والوضع، إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقا، وإما لان العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقا. فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي تجردها؟ أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه؟ أم بالقياس إلى مجرد الآخذ؟ ولا شك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة، فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل، والجسم ذو وضع وأين، وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين. وهذه الطريقة أقوى الطرق، فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامنا أو متياسرا بالنسبة إلى المحل، أو تكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة، أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء، فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه، وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع، هذا خلف. وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحا لأمور جزئية منقسمة، ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها. وأيضا فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم. فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم؟ وأيضا من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر، وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوة في جسم.
ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة، وما لا ينقسم لا يحل المنقسم، والمعقول غير منقسم، فلا يحل المنقسم أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه، وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه، وأما أن لا ينقسم لا يحل منقسما، فإنا لو قسمنا المحل، فلا يخلو: إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب، أو لا يبطل، ولا يخلو إما أن يبقى حالا في بعضه كما كان حالا في كله, وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل، وإما أن ينقسم بانقسام محله، وقد فرض غير منقسم. ثم لو فرض انقسام الحال فيه لا يخلو: إما أن كون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد، وليس كل صورة معقولة بشكل، أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة. وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال: إن كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل في المعنى وإن كانا غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا، فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية وهذا باطل. وأيضا فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب. ثم لو قسمنا الجسم لكان يجب أن يقع نصف الجنس في جانب ونصف الفصل في جانب وهو محال، ثم ليس أحد الجزءين أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل, وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات هي أبسط، فإن ههنا معقولات هي أبسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى، فلا يتوهم فيها أجزاء متشابهة.
فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم، ولا قوة في جسم، فهو إذن جوهر معقول، علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف، وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة، وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة، فيتصرف في البدن, وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه، فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته، ويعقل أنه عقل ذاته، وليس بينه وبين ذاته آلة، ولا بينه وبين آلته آلة، فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه, وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة، وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة، وباطل أن تكون صورة الآلة حاضرة بعينها، فإنها في نفسها حاصلة أبدا، فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلا أبدا، وليس الأمر كذلك، فإنه تارة يعقل, وتارة يعرض عن الإدراك، والأعراض عن الحاضر محال. وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد، فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم، وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة، فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد، وهو محال. والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان، فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك.
ولا يختص ذلك بالعقل، فإن الحس إنما يحس شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه، وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته، ولهذا فإن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل، والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها، كالضوء الشديد للبصر، والرعد القوي للسمع، وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف. والأمر في القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول، وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال. 
على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة:
أحدها: انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها، ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي، فيحدث للنفس من ذلك مبادئ التصور، وذلك بمعاونة استعمال الخيال والوهم.
والثاني: إيقال النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب، فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتيا بينا بنفسه أخذته، وما كان ليس كذلك تركته إلى يصادف الواسطة.
والثالث: تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو نال لازم لمقدم. فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما.
والرابع: الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق، وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق، وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها، وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق.
قال: والدليل أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى، فإن وجدت قبل البدن فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتا واحدة، ومحال أن تكون متكثرة الذوات، فإن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة، وأما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة، وبطل الأول لأن صورتها واحدة وهي متفقة في النوع، والماهية لا تقبل اختلافا ذاتيا، وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود. قال: ومحال أن تكون واحدة الذات، لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان. فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة وهو محال لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسما، وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين، وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله، فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها، ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما, ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله، والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته. وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها, واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها. وأنها لا تموت بموت البدن، لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود، وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه، فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما بفساد الثاني، لأنه أمر إضافي، وفساد أحدهما يبطل الإضافة لا الذات. وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود، فالبدن علة النفس، والعلل أربع فلا يجوز أن يكون علة فاعلية، فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا إلا بقواه، والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية، فمحال أن يفيد أمر قائم بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ولا يجوز أن يكون علة قابلية، فقد بينا أن النفس ليست منطبعة في البدن. ولا يجوز أن يكون علة صورية أو كمالية، فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس فإذن تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا على أنه علة ذاتية لها.
نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس، فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية، فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد، ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين. ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شئ معطل في الطبيعة، ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شئ هو النفس. وليس إذا وجب حدوث شئ من حدوث شيء وجب أن يبطل مع بطلانه.
وأما القسم الثالث مما ذكرنا, وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم، فالمتقدم, إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان، وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم، على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب وليس ذلك مما يتعلق بالنفس فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس.
ويقول: إن سببا آخر لا يفسد النفس أيضا، بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد، لأن كل شئ من شأنه أن يفسد بأمر ما ففيه قوة أن يفسد، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى، ومحال أن يكون من جهة واحدة في شئ واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى، فإن تهيؤه للفساد شئ وفعله للبقاء شئ آخر، فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين، أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها. ومن الدليل على ذلك أيضا أن كل شيء يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضا, لأن بقاءه ليس بواجب ضروري، وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا، والإمكان هو طبيعة القوة، فإذن يكون له في جوهره قوة أن يبقى، فذلك الشيء الذي له القوة على البقاء، وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة، وقوة البقاء له كالمادة، فيكون مركبا من مادة وصورة، وقد فرضناه واحدا فردا، هذا خلف. فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته، والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات. وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفسا تدبره، ولا يختص هذا ببدن دون بدن، بل كل بدن حكمه كذلك، فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى، لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال، فالتناسخ إذن بطل. 
المقالة السادسة:
في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل, وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة، وإدراكها علم الغيب، ومشاهدتها صورا لا وجود لها من خارج تلك الوجوه، ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق.
أما الأول: فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية، أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل، وذلك السبب يجب أن يكون موجودا بالفعل، فإنه لو كان موجودا بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر فإما أن يتسلسل، أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه، فلا يجوز أن يكون ذلك جسما لأن الجسم مركب من مادة وصورة, والمادة أمر بالقوة، فهو إذا جوهر مجرد عن المادة وهو العقل الفعال. وإنما سمى فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة. وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر. وليس يختص فعله بالعقول والنفوس، بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام، فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور. وأعلم أن الجسم وقوة في الجسم لا يوجد شيئا، فإن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة طبيعتها عدمية، فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم، والعدم لا يؤثر في الوجود. فالفعل الفعال هو المجرد عن المادة وعن كل قوة، فهو بالفعل من كل وجه.
وأما الثاني: من الأحوال الخاصة بالنفس، فالنوم والرؤيا. والنوم غؤور القوى الظاهرة في أعماق البدن، وانحناس الأرواح من الظاهر إلى الباطن، ونعني بالأرواح ههنا أجساما لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب، وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية، ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة. فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب من الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس، لأنها لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها، فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها، فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء، لا سيما ما يناسب أغراض الرائي، ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة. فإن كانت الصور جزئية ووقعت في النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا، ولا تحتاج إلى تعبير، وإن وقعت في المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة، وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل، ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير، وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلفت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام، لا تعبير لها، وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالا مختلطة.
وأما الثالث: في إدراك علم الغيب في اليقظة. إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشغله الحواس ولا تمنعه، بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعا، فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف، وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحيا صريحا. وإن وقع في المخيلة، واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقرا إلى التأويل.
وأما الرابع: في مشاهدة النفس صورا محسوسة لا وجود لها، وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكا قويا، فيبقى عين ما أدركته في الحفظ، وقد تقبله قبولا ضعيفا فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك، وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة.
والإبصار هو وقوع صورة في الحس المشترك، فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوسا، فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك، ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات.
وأما الخامس: فالمعجزات والكرامات.
قال: خصائص المعجزات والكرامات ثلاث:
خاصية في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة، وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة، مطيعة لقواها السارية في العالم، وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس. فتفعل فعلها، وتقوى على ما قويت هي، فتزيل جبلا عن مكانه وتذيب جوهرا فيستحيل ماء، وتجمد جسما سائلا فيستحيل حجرا. ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس، فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخينا بالإضاءة، كذلك السراج يؤثر بقدره. وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن، فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمى المزاج وأحمر الوجه، وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها حدثت في أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح، حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له, والمؤثر ههنا مجرد التصور لا غير.
والخاصية الثانية: أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم، فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم, فالشريف البالغ منها: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} 1.
والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة: بأن تقوى النفس، وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك، فيكون مسموعا.
قال: والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص، وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة.
وفي الطبيعة أسرار، ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب.
وجل جنات الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد.
وبعد، فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل، عبرة للمحصل، فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه، فإنها لا تناسبه. وكل ميسر لما خلق له.








مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید