المنشورات
حكماء الهند
كان لفيثاغورس الحكيم اليوناني تلميذ يدعي قلانوس، قد تلقى الحكمة منه، وتلمذ له، ثم صار إلى مدينة من مدائن الهند، وأشاع فيها مذهب فيثاغورس.
وكان برخمنين رجلا جيد الذهن، نافذ البصيرة، صائب الفكر، راغبا في معرفة العوالم العلوية. قد أخذ من قلانوس الحكيم حكمته، واستفاد منه علمه وصنعته. فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم، فرغب الناس في تلطيف الأبدان، وتهذيب الأنفس. وكان يقول: أي امرئ هذب نفسه وأسرع الخروج عن هذا العالم الدنس، وطهر بدنه من أوساخه؛ ظهر له كل شىء، وعاين كل غائب، وقدر على كل متعذر، وكان محبورا مسرورا، ملتذا عاشقا، لا يمل ولا يكل، ولا يمسه نصب ولا لغوب.
فلما نهج لهم الطريق، واحتج عليهم بالحجج المقنعة اجتهدوا اجتهادا شديدا. وكان يقول أيضا: إن ترك لذات هذا العالم هو الذي يلحقكم بذلك العالم حتى تتصلوا به، وتنخرطوا في سلكه، وتخلدوا في لذاته ونعيمه. فدرس أهل الهند هذا القول ورسخ في عقولهم.
اختلاف الهند بعد وفاة برخمنين:
ثم توفي عنهم برخمنين وقد تجسم القول في عقولهم، لشدة الحرص والعجلة في اللحاق بذلك العالم، فافترقوا فرقتين:
فرقة قالت: إن التناسل في هذا العالم هو الخطأ الذي لا خطأ أبين منه، إذ هو نتيجة اللذة الجسدانية، وثمرة النطفة الشهوانية، فهو حرام، وما يؤدي إليه من الطعام اللذيذ، والشراب الصافي، وكل ما يهيج الشهوة واللذة الحيوانية، وينشط القوة البهيمية فهو حرام أيضا، فاكتفوا بالقليل من الغذاء على قدر ما تثبت به أبدانهم. ومنهم من كان لا يرى ذلك القليل أيضا، ليكون لحاقه بالعالم الأعلى أسرع. ومنهم من إذا رأى عمره قد تنفس ألقى بنفسه في النار، تزكية لنفسه، وتطهيرا لبدنه، وتخليصا لروحه. ومنهم من يجمع ملاذ الدنيا من الطعام والشراب والكسوة فيمثلها نصب عينيه، لكي يراها البصر وتتحرك نفسه البهيمية إليها فتشتاقها وتشتهيها، فيمنع نفسه عنها بقوة النفس المنطقية حتى يذبل البدن، وتضعف النفس، وتفارق البدن لضعف الرباط الذي كان بربطها به.
وأما الفريق الآخر: فإنهم كانوا يرون التناسل، والطعام، والشراب وسائر اللذات بالقدر الذي هو طريق الحق حلالا.
وقليل منهم من يتعدى عن الطريق، ويطلب الزيادة.
وكان قوم من الفريقين سلكوا مذهب فيثاغورس من الحكمة والعلم، فتلطفوا حتى صاروا يظهرون على ما في أنفس أصحابهم من الخير والشر، ويخبرون بذلك،فيزيدهم ذلك حرصا على رياضة الفكر، وقهر النفس الأمارة بالسوء، واللحوق بما لحق به أصحابهم.
ومذهبهم في الباري تعالى أنه نور محض، إلا أنه لابس جسدا ما يستتر به لئلا يراه إلا من استأهل رؤيته واستحقها، كالذي يلبس في هذا العالم جلد حيوان، فإذا خلعه نظر إليه من وقع بصره عليه، وإذا لم يلبسه لم يقدر أحد من النظر إليه. ويزعمون أنهم كالسبايا في هذا العالم، فإن من حارب النفس الشهوية حتى منعها عن ملاذها فهو الناجي من دنيات العالم السفلى، ومن لم يمنعها بقي أسيرا في بدنها. والذي يريد أن يحارب هذا أجمع فإنما يقدر على محاربتها بنفي التجبر والعجب، وتسكين الشهوة، والحرص، والبعد عما يدل عليها ويوصل إليها.
الإسكندر في الهند
ولما وصل الإسكندر إلى تلك الديار وأراد محاربتهم صعب عليه افتتاح مدينة أحد الفريقين, وهم الذين كانوا يرون استعمال اللذات في هذا العالم بقدر القصد الذي لا يخرج إلى فساد البدن فجهد حتى فتحها، وقتل منهم جماعة من أهل الحكمة، فكانوا يرون جثث قتلاهم مطروحة كأنها جثث السمك الصافية النقية التي في الماء الصافي، فلما رأوا ذلك ندموا على فعلهم ذلك بهم، وأمسكوا عن اليقين.
والفريق الثاني وهم الذين زعموا أن لا خير في اتخاذ النساء والرغبة في النسل ولا في شئ من الشهوات الجسدانية - كتبوا إلى الإسكندر كتابا مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم، وتعظيم أهل الرأي والعقل، والتمسوا منه حكيما يناظرهم، فنفذ إليهم واحدا من الحكماء فنضلوه بالنظر، وفضلوه بالعمل، فانصرف الإسكندر عنهم، ووصلهم بجوائز سنية وهداية كريمة. فقالوا: إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم، فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها، واتصلت بنا غاية الاتصال؟ ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس.
ومن سنتهم إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها، وقالوا: ما أحسنك من نور، وما أبهاك، وما أنورك, لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك, فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح. وإياك نطلب، وإليك نسعى، لندرك السكن بقربك، وننظر إلى إبداعك الأعلى. وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له، فهذا التسبيح وهذا المجد له، وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم، لنصير مثلك، ونلحق بعالمك، ونتصل بساكنك. وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال، فكيف يكون بهاء العلة، وجلالها، ومجدها، وكمالها؟ فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات، فيظفر بالجواز بقربه، ويدخل في غمار جنده وحزبه.
هذا ما وجدته من مقالات أهل العالم، ونقلته على ما وجدته. فمن صادف فيه خللا في النقل فأصلحه, أصلح الله عز وجل - بفضله حاله، وسدد أقواله وأفعاله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين. وصلواته على سيد المرسلين محمد المصطفى، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، وسلم تسليما كثيرا
مصادر و المراجع :
١- الملل والنحل
المؤلف: أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)
الناشر: مؤسسة
الحلبي
16 يوليو 2024
تعليقات (0)