المنشورات

الْبَلاغَةِ

يُقَالُ: هَذَا كَلام بَلِيغ، سَدِيد الْمَنْهَجِ، وَاضِح الْمَعَالِمِ، مَاثِل الأَغْرَاض، مُشْرِق الْمَعَانِي، مُحْكَم الأَدَاءِ، مُحْكَم السَّبْكِ، مُتَرَاصِف الْفِقَر، مُتَلائِم الأَطْرَاف، مُتَسَاوِق الأَغْرَاض، مُتَنَاسِق الأَجْزَاء، مُتَّصِل السِّلْك، مُطَّرِد النِّظَام، آخِذٌ بَعْضُه بِأَعْنَاق بَعْضٍ، وَإِنَّهُ لَكَلام مُتَنَاسِب، مُتَجَاوِب، قَدْ تَجَارَتْ فِقَره إِلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ، وَتَسَايَرَتْ فِي طَرِيقٍ لاحِبٍ، وَتَوَارَدَتْ فِي طَرِيقٍ قَاصِدٍ.
وَإِنَّهُ لَكَلام دُرِّيّ اللَّفْظ، عَسْجَدِيّ الْمَعْنَى، كَأَنَّ أَلْفَاظَهُ قِطَع الرِّيَاض، وَكَأَنَّ مَعَانِيَهُ نَسَمُ الآصَال، قَدْ تَنَزَّهَ عَنْ شَوَائِب اللَّبْس، وَخَلَصَ مِنْ أَكْدَار الشُّبُهات، وَتَجَافَى عَنْ مَضَاجِعِ الْقَلَقِ، وَبَرِئَ مِنْ وَصْمَة التَّعْقِيد، وَسَلِمَ مِنْ مَعَرَّة اللَّغْو وَالْخَطَل، وَتَقُولُ: هَذَا كَلام بَالِغٌ حَدَّ الإِعْجَازِ، وَإِنَّهُ لَكَلام يَمْلِكُ الْقُلُوبَ، وَيَسْتَرِقّ الأَفْهَام، وَيَسْتَعْبِدُ الأَسْمَاع، وإِنَّه لا يَرِدُ عَلَى سَمْعِ ذِي لُبّ فَيَصْدُرُ إِلا عَنْ اِسْتِحْسَان.
وَهُوَ عُنْوَان الْبَيَان، وَآيَة الْبَرَاعَة، تَتَمَثَّلُ الْبَلاغَة فِي كُلِّ فِقْرَةٍ مِنْ فِقَرِهِ، وَتَتَجَلَّى الْفَصَاحَة فِي كُلِّ لَفْظٍ مِنْ مَنْطُوقِهِ، وَيَتَبَارَى مَعْنَاهُ وَلَفْظه إِلَى الأَفْهَامِ، وَتَكَادُ تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ قَبْلَ الأَسْمَاعِ.
وَتَقُولُ فِي ضِدِّهِ: هَذَا كَلام سَخِيف، غَثّ، سَقِيم، تَفِه، سَاقِط، مُعسلَط، فَاسِد الْمَعَانِي، مُضْطَرِب الْمَبَانِي، قَلِق التَّرَاكِيب، مُرْتَبِك النَّظْم، مُشَوَّش التَّأْلِيف، مُخْتَلّ الأَدَاءِ، بَادِي التَّكَلُّفِ، مُعْتَسِف عَنْ جَادَّة الْبَلاغَة، لا يَثْبُت عَلَى السَّبْكِ، وَلا يَثْبُتُ عَلَى النَّقْدِ، قَدْ فَشَت فِيهِ الرَّكَاكَة، وَالضَّعْف، وَالْخَبْط، وَالْخَلْط، وَالْخَلَل، وَالْخَطَل، وَالْحَشْو، وَاللَّغْو، وَالإِتْكَاء، وَالْهُرَاء، وَالْهَذَر، وَالْهَذَيَان، وَقَدْ ضَرَبَتْ الرَّكَاكَة عَلَيْهِ أَطْنَابهَا، وَأَخَذَ الْعِيّ بِتَلْبِيبِهِ، وَأَخَذ الضَّعْف بِمُخَنَّقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ سَاقِطِ الْكَلامِ، وَمِنْ نُفَايَة الْكَلام، وَمِنْ فُضُول الْقَوْل.
وإَِنَّهُ لَكَلام مُبْهَم، مُغْلَق، مُعَقَّد، يَنْبُو عَنْهُ الْفَهْم، وَتَحَارُ فِيهِ الْبَصَائِر، وَتَضِلُّ فِي تِيهِهِ الأَوْهَام، وَتَسْأَمُهُ الطِّبَاع، وَتُعْرِضُ عَنْهُ الْقُلُوبُ، لا يَشِفّ ظَاهِره عَنْ بَاطِنِهِ، وَلا يَتَجَاوَبُ أَوَّله وَآخِره، وَلا تَعْرِفُ لَهُ وُجْهَة، وَلا يُسْفِرُ عَنْ مَعْنىً، وَلا يَرْجِعُ إِلَى مَحْصُول.
وَإِنَّمَا هُوَ أَلْفَاظ مَسْرُودَة تَنْهَالُ اِنْهِيَالاً، وَكَلِمَات شَوَارِد تُكَالُ جُزَافاً، وَفِقَر مُتَنَاكِرَة تُعَارِضُ أَعْجَازهَا هَوادِيهَا، وَيَدْفَعُ آخِرهَا أَوَّلهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جُمَلٌ مُتَقَطِّعَة السِّلْك، مُتَنَافِرَة اللُّحْمَة، سَقِيمَة الْمَعَانِي، مُلْتَاثَة التَّعْبِير، كَأَنَّهَا ضَرْبٌ مِنْ الْمُعَمَّيَاتِ، وَضَرْبٌ مِنْ الْمُعَايَاةِ، وَضَرْب مِنْ الرُّقَى، وَكَأَنَّهَا رَطَانَة الأَعْجَام، وَكَأَنَّهَا طَنِينُ الذُّبَابِ.
وَتَقُولُ فِي وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ: رَجُل بَلِيغ الْكَلام، بَلِيغ الْعِبَارَةِ، رَصِين التَّعْبِيرِ، مُهَذَّب اللَّفْظِ، وَاضِح الأُسْلُوبِ، مُشْرِق الدِّيبَاجَةِ، يُجَلِّي عَنْ نَفْسِهِ بِأَبْلَغ الْبَيَان، وَيُعَبِّرُ عَنْ ضَمِيرِهِ بِأَجْلَى الْعِبَارَات، وَيَبْلُغُ بِكَلامِهِ كُنْه الْقُلُوبِ، وَيَضَعُ لِسَانَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى أَزْمَة الْبَلاغَة، وَمَلَك أَعْنَاق الْمَعَانِي، وَسُخِّرَتْ لَهُ الأَلْفَاظ، وَأُوتِيَ فَصْلَ الْخِطَابِ، وَأُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنَوَابِغ الْحِكَمِ.
وَهُوَ مِنْ أُمَرَاءِ الْكَلامِ، وَزُعَمَاء، الْخِطَاب، تُبَارِي أَسَلَةُ لِسَانِه أَطْرَافَ الأَسَلِ، وَتُبَارِي شُهُبُ خَاطِره شُهُبَ الظَّلام، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَبْلَغ النَّاس فِي مُخَاطَبَة، وَأَثْبَتهمْ فِي مُحَاوَرَة، إِذَا افْتَنَّ فَتَن الأَلْبَابِ، وَسَحر الْعُقُول، وَخَلَبَ الأَسْمَاع، وَإِنَّهُ كَلامُهُ لَيَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوب، وَتَشْتَمِل عَلَيْهِ الْقُلُوب، وَإِنَّهُ لَتُلْتَمَس فِي كَلامِهِ ضَوَالّ الْحِكْمَة، وَإِنَّ كَلامَهُ الْخَمْر أَوْ أَعْذَب، وَإِنَّ بَيَانَهُ السِّحْر أَوْ أَغْرَب، وَإِنَّ كَلامَهُ أَنْدَى عَلَى الأَفْئِدَةِ مِنْ زُلالِ الْمَاءِ، وَإِنَّهُ لآيَة مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي بَلاغَةِ التَّعْبِيرِ، وَإِصَابَةِ مَقَاتِل الأَغْرَاض، وَالْوُقُوعِ عَلَى شَوَاكِل السَّدَاد، وَتَطْبِيق مَفَاصِل الصَّوَاب، وَهُوَ أَفْصَحُ ذِي لِسَان، وَأَبْلَغُ ذِي لُبّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْجَاحِظِ، وَأَبْلَغ مِنْ قُسّ بْن سَاعِدَة وَتَقُولُ فِي خِلافِ ذَلِكَ: فُلان عَيِّي، وَعَيّ، فَهٌّ، فَهْفَاه، مُفْحَم، عَيِّي اللِّسَان، حَصِر اللِّسَان، وَعْث اللِّسَان، بَرِم اللِّسَان قَطِيع اللِّسَان.
وَإِنَّهُ لَرَجُل فَدْم، عبَام، كَلِيل الذِّهْن، كَهَام الذِّهْن، مُتَخَلِّف الذِّهْنِ، بَلِيد الطَّبْعِ، بَلِيد الْبَادِرَة، مَيِّت الْحِسِّ، جَامِد الْقَرِيحَة، نَاضِب الرَّوِيَّة، خَامِد الْفِكْرَةِ، مَنْزُوف الْمَادَّة.
وَهُوَ غَثُّ الْكَلامِ، سَقِيم الأَدَاءِ، مُظْلِم الْعِبَارَة، رَثّ أَثْوَاب الْمَعَانِي، مُنْحَطّ عَنْ مَقَامَاتِ الْبُلَغَاءِ، مَدْفُوع عَنْ مَوَاقِفِ الْبُلَغَاءِ، قَدْ مَلَكَتْ لِسَانَه الرَّكَاكَةُ، وَمَلَك ذِهْنَه الْعِيُّ، وَإِنَّهُ لا تَخْدِمُهُ قَرِيحَة، وَلا يَرْجِعُ إِلَى سَلِيقَة، وَلا يَحَورُ إِلَى ذَوْق، وَإِن بِهِ لَعِياً فَاضِحاً، وَهُوَ أَعْيَا مِنْ بَاقِل.











مصادر و المراجع :      

١- نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد

المؤلف: إبراهيم بن ناصف بن عبد الله بن ناصف بن عبد الله بن ناصف بن جنبلاط بن سعد الْيَازِجِيّ الْحِمْصِيّ نصراني الديانة (المتوفى: 1324هـ)

الناشر: مطبعة المعارف، مصر

عام النشر: 1905 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید