المنشورات
زيد وعمرو:
أراد داود باشا أحد الوزراء السالفين في الدولة العثمانية أن يتعلم اللغة العربية فأحضر أحد علمائها, وأنشأ يتلقى عليه دروسها عهدا طويلا فكانت نتيجة علمه ما ستراه.
سأل شيخه يوما ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم ويقتله تقتيلا ويبرح به هذا التبريح المؤلم, وهل بلغ عمرو من الذل والعجز منزلة من يضعف عن الانتقام لنفسه، وضرب ضاربه ضربة تقضي عليه القضاء الأخير؟
سأل شيخه هذا السؤال وهو يتحرق غيظا وحنقا ويضرب الأرض بقدميه, فأجابه الشيخ: ليس هناك ضارب ولا مضروب، وإنما هي أمثلة يأتي بها النحاة لتقريب القواعد من أذهان المتعلمين، فلم يعجبه هذا الجواب, وأكبر أن يعجز مثل هذا الشيخ عن معرفة الحقيقة في هذه القضية فغضب عليه وأمر بسجنه، ثم أرسل إلى نحوي آخر فسأله كما سأل الأول فأجابه بنحو جوابه فسجنه كذلك، ثم ما زال يأتي بهم واحدا بعد واحد حتى امتلأت السجون وأقفرت المدارس وأصبحت هذه القضية المشئومة الشغل الشاغل له عن جميع قضايا الدولة ومصالحها، ثم بدا له أن يستوفد علماء بغداد فأمر بإحضارهم فحضروا وقد علموا قبل الوصول إليه ماذا يراد بهم، وكان رئيس هؤلاء العلماء بمكانة من الفضل والحذق والبصر بموارد الأمور ومصادرها، فلما اجتمعوا في حضرة الوزير أعاد عليهم ذلك السؤال بعينه, فأجابه الرئيس: إن الجناية التي جناها عمرو يا مولاي يستحق أن ينال لأجلها من العقوبة أكثر مما نال، فانبسطت نفسه قليلا وبرقت أسارير وجهه, وأقبل على محدثه يسأله: ما هي جنايته؟ فقال له: إنه هجم على اسم مولانا الوزير واغتصب منه الواو فسلط النحويون عليه زيدا يضربه كل يوم جزاء وقاحته وفضوله "يشير إلى زيادة واو عمرو وإسقاط الواو الثانية من داود في الرسم" فأعجب الوزير بهذا الجواب كل الإعجاب، وقال لرئيس العلماء: أنت أعلم من أقلته الغبراء، وأظلته الخضراء، فاقترح علي ما تشاء، فلم يقترح عليه سوى إطلاق سبيل العلماء المسجونين، فأمر بإطلاقهم وأنعم عليهم وعلى علماء بغداد بالجوائز والصلات.
أحسن داود باشا في الأولى وأساء في الأخرى، ولو كنت مكانه لما أطلقت سبيل هؤلاء النحاة من سجنهم حتى آخذ عليهم عهدا وثيقا أن يتركوا هذه الأمثلة البالية إلى أمثلة جديدة مستطرفة تؤنس نفوس المتعلمين وتذهب بوحشتهم وتحول بينهم وبين النفور من منظر هذه الحوادث الدموية بين زيد وعمرو، وخالد وبكر.
لا ينال المتعلم حظه من العلم إلا إذا استطاع تطبيقه على العمل والانتفاع به في مواضعه ومواطنه التي وضع لأجلها، ولن يستطيع ذلك إلا إذا استكثر له معلمه من الأمثلة والشواهد الملائمة لقواعد ذلك العلم, وافتن له في إيرادها افتنانا يقرب إلى ذهنه تلك الصلة بين العلم والعمل ويسهل له الوصول إلى القدرة على تلك المطابقة، وإن أكثر المتعلمين في مدرسة الأزهر أبعد الناس عن القدرة على المطابقة لما حال بينهم وبين ذلك من الوقوف عند المثل الواحد لكل قاعدة من قواعد العلم، فلو أنك أردت أحدهم على أن يخرج في المنطق عن الحيوانية والناطقية، وفي النحو عن ضرب زيد عمرا وقتل خالد بكرا، وفي البيان عن تشبيه زيد بالبدر واستعارة الأظافر للمنية، وفي الصرف عن فعلل وافعوعل، لوجدت في نفسه من الجهد والمشقة وفي لسانه من العي والحصر ما يحزنك على أعوام طوال قضاها بين المحابر والدفاتر، ثم لم يحصل من بعدها على طائل.
علام يتعلم الطالب النحو والصرف إن عجز عن أن يقرأ صحيحا في كل كتاب وكل صحيفة، وعلام يتعلم علوم البلاغة إن عجز عن معرفة أسرار الكلام وأوجه بلاغته وفهم المراد من مختلفات أساليبه وعن البيان بيانا فصيحا يضمنه ما يشاء من أغراضه ومقاصده، وعلام يتعلم المنطق إن عجز عن التمييز بين فاسد القضايا وصحيحها في كل مناحيه ومذاهبه، وإن لم يكن الموضوع الإنسان، ولا المحمول الحيوان الناطق.
عجيب جدا أن يفهم الصانع الأمي أن العلم للعمل فلا يتعلم النجارة إلا ليصنع الأبواب والصناديق، والحدادة إلا ليصنع الأقفال والمفاتيح، وأن يجهل المتعلم هذه القضية الضرورية, فلا يهمه من العلم إلا الاستكثار من المعلومات والقواعد, وإن عجز بعد ذلك عن التصرف فيها، والانتفاع بها في مواطنها.
ما دامت مدرسة الأزهر على هذه الحال من أسلوب التعليم العقيم فليس بمقدور لها في مستقبل الأيام أن ينبغ منها العلماء الذين تستطيع أن تنتفع بهم الأمة انتفاع أمثالها بأمثالهم في مشارق الأرض ومغاربها، فويل للعلم من العلماء.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)