المنشورات

الإغراق:

بين الإغراق في المدح, والإغراق في الذم تموت الحقيقة موتا لا حياة لها من بعده إلى يوم يبعثون.
يسمع السامع أن زيدا ملك كريم، ثم يسمع أنه شيطان رجيم، فيخرج منه صِفْر اليدين، لا يعلم أين مكانه من هذين الطرفين.
يقولون: إن المشعوذين إذا أرادوا أن يسحروا أعين الناس وضعوا في سقف غرفة قطعة من المغناطيس وفي أرضها قطعة أخرى، ثم يتركون في الفضاء قطعة من الحديد لا تزال تترجح بين هذين الجاذبين.
هكذا تضطرب الحقيقة في أيدي المغرقين، اضطراب الحديدة في أيدي المشعوذين.
الحقيقة بين الكاذب والكاذب، كالحبل بين الجاذب والجاذب، كلاهما ينتهي به الأمر إلى الانقطاع.
لو علم الذي ينصب نفسه للموازنة بين الأشخاص أنه جالس على كرسي القضاء, وأن الناس سيسألونه عما قال كما يسألون القاضي عما حكم، ما طاش سهمه في حكمه، ولا ركب متن الغلو في تقديره.
كما أنه يجب على القاضي أن يقدر لكل جريمة ما يناسبها من العقوبة، كذلك يجب على الكاتب أن يضع كل شخص في المنزلة التي وضعته فطرته فيها، وأن لا يعلو به فوق قدره ولا ينزل به دون منزلته.
ليس بين كتَّاب هذا العصر من لم يقرأ في التاريخ الماضي متناقضات الأحكام على الأشخاص، وليس بينهم من لم يتمنّ أن يكون في موضع أولئك المؤرخين حتى لا يغلو غلوهم، ولا يتطرف تطرفهم في أحكامهم.
أيها الكتاب المحزونون: لا يحزنكم ما كان؛ فقد مضى ذلك الزمن بخيره وشره، ولئن فاتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الماضي فلن يفوتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الحاضر، وكما أن للماضي مستقبلا وهو حاضركم هذا، فسيكون لهذا الحاضر مستقبل يحاسبكم فيه رجاله على هفواتكم في أحكامكم، كما تحاسبون اليوم رجال الماضي على غلوهم في أحكامهم، وتطرفهم في آرائهم.
إن من التناقض بين أقوالكم وأعمالكم أن تنقموا من المؤرخين المتقدمين ما أنتم فاعلون، وتأخذوا عليهم ما أنتم به آخذون.
كل كاتب عندكم أكتب الكتَّاب، وكل شاعر أشعر الشعراء، وكل مؤلف أعلم العلماء، وكل خطيب رئيس الأمة، وكل فقيه إمام الدين، فأين الفاضل والمفضول، وأين الرئيس والمرءوس؟ وكيف يكون زيد اليوم أفضل من عمرو، ويكون عمرو غدا أفضل منه؟ وأين ملكة التمييز التي وهبها الله لكم لتميزوا بها بين درجات الناس ومنازلهم؟ وهل بلغ التفاوت بين عقولكم وأذواقكم أن يكون الرجل الواحد في نظر بعضكم خير الناس، وفي نظر البعض الآخر شر الناس؟
إني حبست الآن قلمي عن الكتابة؛ لأتجرد عن نفسي ساعة من الزمان, فتخيلت كأني رجل من رجال العصور الآتية، وأني ذهبت إلى دار من دور الكتب القديمة لأفتش فيها عن تاريخ عظيم من عظماء عصركم, فقرأت ما كتبتموه عنه في مؤلفاتكم وصحفكم, فرأيته تارة عظيما وأخرى حقيرا، ومرة شريفا ومرة وضيعا، ورأيته عالما وجاهلا وذكيا وغبيا وعاقلا وممرورا1 في آن واحد، فخرجت أضل مما دخلت، لا أعرف من تاريخ الرجل أكثر من أنه رجل، أي: إنه ذكر بالغ من بني آدم.
أيها القوم: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا رجالا عادلين في أحكامكم وآرائكم إلا إذا أصلحتم نفوسكم قبل ذلك, وتعلمتم كيف تستطيعون أن تتجردوا عن أهوائكم وأغراضكم قبل أن تمسكوا بأقلامكم.
أيها القوم: إن عجزتم عن أن تكونوا عادلين، فكونوا راحمين، فارحموا أنفسكم وأعفوها من الدخول في مأزق أنتم عاجزون عنه، فقد ضاقت صدورنا بهذه المتناقضات، وسئمت نفوسنا تلك المبالغات.
















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید