المنشورات

الوفاء:

يا صاحب النظرات:
تزوجت منذ سنة من زوجة صالحة طيبة القلب والسريرة, فاغتبطت بعشرتها برهة من الزمان، وفي هذه الأيام عرض لها رمد في عينيها فذهب ببصرها, فأصبحت عمياء وأصبحت أعمى بجانبها، وقد بدا لي أن أطلقها وأتزوج من غيرها فماذا ترى؟
إنسان.
أيها الإنسان: لا تفعل؛ فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين وجرم الغادرين، كن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم، حتى تستطيع أن تدخر لنفسك عند الله من المثوبة والأجر ما يدخر أمثالك من الصابرين المحسنين.
لا تقل: إنها عمياء فلا خير لي فيها ولا غبطة لي بها، فإنك ستجد في نفسك من لذة المروءة والإحسان، والعطف والحنان، ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان، في مقاصير الجنان.
اجلس إليها صباحك ومساءك, وحادثها محادثة الصديق لصديقه، بل الزوج لزوجه، وتلطف بها جهدك، وروِّح عن نفسها ما يساورها من الكروب والأحزان، وقل لها: لا تجزعي ولا تحزني, فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ويدك التي بها تبطشين.
أعيذك أيها الإنسان بالله ورحمته، والعهد وذمامه، أن تجعل لهذا الخاطر السيئ خاطر الطلاق أو الفراق سبيلا إلى نفسك، فإنها لم تسئ إليك فتسئ إليها، ولم تنقض عهدك فتنقض عهدها، فإن كنت لا بد ثائرا لنفسك فاثأر لها من القدر إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
إن عجزا من الرجل وضعفا أن يغضب فيمد يده بالعقوبة إلى غير من أذنب إليه، ويعتدي على من لم يعتد عليه.
إن لم يكن احتفاظك بزوجك وإبقاؤك عليها عدلا يسألك الله عنه، فليكن إحسانا تحاسبك الإنسانية عليه.
إنك خسرت بصرها ولكن ستربح قلبها, وحسب الإنسان من لذة العيش وهنائه في هذه الحياة قلب يخفق بحبه، ولسان يهتف بذكره.
إنها أسعدتك برهة من الزمان, فليخفق قلبك حنانا عليها بقدر ما خفق سرورا بها.
لا أحسب أنها كانت تاركتك أو مغفلة أمرك لو أن هذا السهم الذي أصابها أصابك من دونها، فاحرص الحرص كله على أن لا تكون امرأة ضعيفة أسبق منك إلى فضيلة الصدق والوفاء.
إلى من تعهد بها بعد فراقك إياها؟ وأي موطن من المواطن هيأته لمقامها؟ وماذا أعددت لها من الوسائل التي تستعين بها على شئون عيشها، وتأنس بها في وحشتها ووحدتها؟
كيف يهنأ لك عيش أو يغمض لك جفن إذا أظلك الليل فذكرتها وذكرت أنها تقاسي في وحدتها من الوحشة ما لا قبل لها باحتماله، وأنها ربما كانت تطلب جرعة ماء فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز فلا تجد من يدلها عليها، أو ربما قامت من مضجعها في سكون الليل وهدوئه تتلمس الطريق إلى حاجة من حاجها فأخطأ تقديرها, فصدمها الجدار في جبينها صدمة سال لها دمها حتى امتزج بدمعها.
أيها الإنسان: إن لم تكن عادلا ولا وفيا ولا محسنا, فارحم نفسك من هذا الخيال الذي لا بد أن سيساورك ويفت في عضدك ويزعجك من مرقدك، فإن لم تكن هذا ولا ذاك فغيرك أخاطب؛ لأني لا أحسن إلا مخاطبة الإنسان.
إني محدثك عن صديق لي من كرام الناس وأوفيائهم تزوج زوجة حسناء فاغتبط بها برهة من الزمان, ثم أصابها الدهر بمثل ما أصاب به زوجتك ولم يترك لها من ذلك النور الذاهب إلا مثل ما تترك الشمس من الشفق الأحمر في صفحة الأفق بعد غروبها، فلم يقنعه من الوفاء لها أن استبقاها واستمسك بها, بل كان يحرص جهده على أن لا تعلم أنه ينكر من أمرها شيئا، حتى إنه كان يعتب عليها في بعض الأحايين في ذنوب ما كان له أن يؤاخذها بها إلا من حيث كونها ناظرة مبصرة، يريد بذلك أن يلقي في نفسها أنه لا يعرف من قصة نظرها شيئا، وأنه لا يرى فيها غير ما يراه الرجال من نسائهم المبصرات؛ رفقا بها وإبقاء على ما ربما تحب أن تحاوله من الاعتداد بنفسها, والإدلال بمزاياها.
ولقد قرأت جملة صالحة من نوادر العرب في آدابهم ومكارمهم وأخلاقهم ولطف وجدانهم, فلم أر بينها نادرة أعلق بالقلوب ولا أجمل أثرا في النفوس من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية, وكان كفيف البصر "اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين سنة, فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام، بل يقول: اخرج معه يا غلام".
فإن كنت تريد أن يسجل لك من الوفاء في صفحات القلوب ما سجل لأحمد بن أبي دؤاد في صفحات التاريخ فلا تطلق زوجتك, ولا تنقم منها أمرا قد خرج حكمه من يدها، وإن أبيت إلا أن تأخذ لنفسك حظها من لذة العيش وهنائه فاعلم أنه ما من لذة يلذ بها الإنسان في حياته إلا ويشوبها الكدر أو يعقبها الألم، إلا لذة الإحسان.


















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید