المنشورات

قتيلة الجوع:

قرأت في بعض الصحف منذ أيام أن رجال الشرطة عثروا بجثة امرأة في جبل المقطم فظنوها قتيلة أو منتحرة حتى حضر الطبيب ففحص أمرها وقرر أنها ماتت جوعًا.
تلك أول مرة سمعت فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء في مصر وهذا أول يوم سَجلتْ فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا ورزايانا هذا الشقاء الجديد.
لم تمت هذه المرأة المسكينة في مفازة منقطعة أو بيداء مِجهْل فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة بل ماتت بين سمع الناس وبصرهم وفي ملتقى غاديهم برائحهم، ولا بد أنها مرتْ قبل موتها بكثير من المنازل تطرقها فلم تسمع مجيبًا ووقفتْ في طريق كثير من الناس تسألهم المعونة على أمرها فلم تجد من يمد إليها يده بلقمة واحدة تسد بها جوعتها، فما أقسى قلب إنسان، وما أبعد الرحمة من فؤاده، وما أقدره على الوقوف موقف الثبات والصبر أمام مشاهد البؤس ومواقف الشقاء.
لم ذهبت هذه البائسة المسكينة إلى جبل المُقطم في ساعتها الأخيرة؟ لعلها ظنت أن الصخر ألين قلبًا من الإنسان فذهبت إليه تبثه شكواها، أو أن الوحش أقرب منه رحمة فجاءته تستمنحه فضلة طعامه، وأحسبُ لو أن الصخر فهم شكواها لأشكاها1 ولو أن الوحش ألم بسريرة نفسها لرثى لها وحنا عليها؛ لأني لا أعرف مخلوقًا على وجه الأرض يستطيع أن يملك نفسه ودموعه أمام مشهد الجوع وعذابه غير الإنسان.
ألم يلتق بها أحد في طريقها فيرى صفرة وجهها وترقرق مدامعها وذبول جسمها فيعلم أنها جائعة فيرحمها!
ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل ويرى غدوها ورواحها حائرة ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره!
أأقفرت البلاد من الخبز والقوت فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًُا زائدًا عن حاجته فيتصدق به عليها!
اللهم لا هذا ولا ذاك، فالمال والحمد لله كثير والخبز أكثر منه ومواضع الخَلات والحاجات بادية مكشوفة يراها الراءون ويسمع صداها السامعون ولكن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المُفاخرة والمُكاثرة والتي لا تفهم معنى الإحسان إلا أنه الغل الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستبعادهم واسترقاقهم لا يمكن أن ينشأ فيها محسن مخلص يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا.
لقد كان الإحسان في مصر كثيرًا في عصر الاكتتابات والحفلات وفي العهد الذي كانت تسجل فيه حسنات المُحسنين على صفحات الصحف تسجيلًا يشهده ثلاثة عشر مليونًا من الشهود، أما اليوم وقد أصبح كل امرئ موكولًا إلى نفسه ومسئولًا أمام ربه وضميره أن يتفقد جيرته وأصدقاءه وذوي رحمه ويتلمس مواضع خلاتهم وحاجاتهم ليسدها، فهاهم الفقراء يموتون جوعًا بين تلال الرمال وفوق شعاف الجبال من حيث لا راحم ولا مُعين.
لقد كان في استطاعة تلك المرأة المسكينة أن تسرق رغيفًا تتبلغ به أو درهمًا تبتاع به رغيفًا فلم تفعل، وكان في استطاعتها أن تعرض عرضها في تلك السوق التي يعرض فيها أعراضّهن الفتيات الساقطات فلم تفعل؛ لأنها امرأة شريفة تفضل أن تموت بحسرتها على أن تعيش بعارها، فما أعظم جريمة الأمة التي لا يموت فيها جوعًا غير شرفائها وأعفائها.
















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید