لا يضطرب اللفظ إلا لأن معناه مضطرب في نفس صاحبه، ولا يغمض إلا لأن معناه غامض في نفسه، ومحال أن يعجز الفاهم عن الإفهام، ولا المتأثر عن التأثير، ولا المقتنع عن الإقناع، وما البيان إلا المرآة التي ترتسم فيها صورة النفس، فحيث تكون النفس جميلة فهو جميل، أو قبيحة فهو قبيح، أو مضيئة فهو مضيء، أو مظلمة فهو مظلم، فإذا استطعنا أن نتصور مرآة تكذب في تمثيل الصورة الماثلة أمامها، استطعنا أن نتصور بيانا يختلف في وصفه عن وصف نفس صاحبه.
يقول القائلون بمذهب التفريق بين اللفظ والمعنى عن مثل هذه القطعة:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارَى رحالنا ... ولم يعلم الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
إنها جميلة الأسلوب ولكنها تافهة المعنى مرذولته, لا تشتمل على أكثر من الوصف والتصوير, كأنهم لا يعلمون أن التصوير نفسه من أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها والغاية الأخيرة منها، وقد رسم الشاعر في كلمته هذه صورة واضحة ناطقة للحجيج في حلهم, ومرتحلهم يسمعها السامع بأذنه وكأنه يراها بعينيه، فقد أتى بأجمل المعاني في أجمل الأساليب.
وإن وصفا قصيرا لحركة صغيرة من حركات النفس كقول الشريف:
وتلفتتْ عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
لخير ألف مرة من قصيدة طويلة مملوءة بالمعاني الغريبة والخواطر المبتكرة التي لا تمثل الحقيقة, ولا تلتئم مع النفس ومزاجها كقصيدة المتنبي التي مطلعها:
"أيطمع في الخيمة العذل".
ويقولون أيضا عن هذا البيت:
أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد
إنه قبيح اللفظ ولكنه جميل المعنى، وهم واهمون فيما يقولون؛ فإن ذلك المعنى الجميل الذي يتوهمونه ليس معنى هذا البيت، بل المعنى الذي خطر على أذهانهم وانبعث في أفئدتهم عند سماعه، فألصقوه به إلصاقا وتوهموه له توهما، أما البيت نفسه فلا معنى له مطلقا، وهذا شأن جميع المعاني التي يتوهمها متوهموها عند سماع بيت مستغلق أو كلمة غامضة، فهي بأن تكون معاني السامعين، أولى من أن تكون معاني القائلين.
إذا سمعت بيتا من السعر فأطربك أو أحزنك أو أقنعك أو أرضاك أو هاجك وأنت ساكن، أو هدأ روعك وأنت ثائر، أو ترك أي أثر من الآثار في نفسك كما تترك النغمة الموسيقية أثرها في نفس سامعها، فاعلم أنه من بيوت المعاني، وأن هذا الذي تركه في نفسك من الأثر هو روحه ومعناه، وإن مررت ببيت آخر فاستغلق عليك فهمه وثقل عليك ظله وشعرت بجمود نفسك أمامه, وخيل إليك أنك بين يدي جثة هامدة لا روح فيها, فاعلم أنه لا معنى له ولا حياة فيه، فإن وجدت صاحبه واقفا بجانبه يحاول أن يوسوس لك أن وراء هذه الظلمة الحالكة المتكاثفة نورا متوهجا يكمن في طياتها فكذبه وفر بنفسك وأدبك وذوقك منه فرارا لا عودة لك من بعده.
هذا هو الميزان الذي يجب أن تزن به الكلام، ونصيحتي إليك ألا تصدق تعريفا واحدا من تلك التعريفات المتعددة المتناقضة التي يضعها واضعوها من الأدباء لأشعارهم خاصة لا للشعر عامة، واجعل شعور نفسك هو الميزان الذي تزن به ما تسمع،فكما أنك لا تعتمد على تعريف من تعريفات الجمال ولا تلجأ إلى قانون من قوانينه عند وقوع نظرك على وجه امرأة لمعرفة درجتها من الحسن، كذلك لا تعتمد في استحسان ما تستحسن من الكلام واستهجان ما تستهجن إلا على شعور نفسك, وإلهام حسك.
الشعر نغمة موسيقية قبل كل شيء, ثم يأتي بعد ذلك جمال الوصف وحسن التصوير وتمثيل الحقيقة واستخراج أسرار الكون وتحليل مشاعر النفس وأمثال ذلك من الأغراض والمقاصد على أن تكون تلك النغمة الموسيقية أساسها والروح السارية فيها ليتحقق الفرق بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة غذاء العقل برزانتها وهدوئها وحججها وبراهينها، والشعر غذاء النفس برناته ونغماته وأهازيجه ونبراته.
نظم الشعراء الشعر من عهد الجاهلية إلى اليوم فمات جميع ما نظموا, ولم يبق منه إلا البيت الموسيقي الرنان الذي لو لم يغنه مغنيه لغنى وحده، وسيموت شعر جميع الشعراء في هذا العصر ولا يبقى منه في المستقبل إلا كما بقي من الماضي في الحاضر.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
تعليقات (0)