المنشورات

الرشوة:

كان المرحوم الشيخ محمد عبده يقرأ في مسجد الأزهر درسا عنوانه التفسير, وحقيقته البحث في كل ما يتعلق بالمرء في حياتيه الآخرة والأولى، فكان الرجل في ذلك الدرس مفسرا للقرآن وراويا للحديث ومعلما وواعظا, بل كان كل ما يستطيع امرؤ أن يكون.
ولقد حدثنا فيما كان يرويه لنا في دروسه من وقائعه ومشاهده أنه ركب القطار في إحدى لياليه كعادته إلى بلدته "عين شمس" فلم يستقر به المقام في مجلسه من القطار حتى وقف أمامه شيخ معمم ملتحٍ فسأله ماذا يريد فقال له: أنا يا سيدي من طلاب الامتحان في الأزهر وقد جئتك أطلب إليك أن تساعدني عليه، قال: إن كنت تريد أن أساعدك بمنع الظلم عنك فاعلم أني لا أترك يدا تمتد إليك بظلم، قال: يا سيدي, أنا رجل فقير وإنك لن تجد أحدا هو أحق بالإحسان مني، قال: لو كنت طالب إحسان لما منعتك شيئا مما أقدر عليه, ولكنك على ما أظن تريد مني أمرا جللا ليس في استطاعتي أن أمنحك إياه, ولو استطعت ما تركت أحدا يمكنك منه، إنك تريد أن أكون شاهد زور في قضيتك هذه وما كانت شهادة الزور في وجه من وجوهها حسنة من الحسنات، إن في الأزهر خمسمائة طالب مثلك يتقدمون للامتحان، فإن منحتك الشهادة من دونهم فأين العدل، وإن منحتكم جميعا فأين الامتحان.
وما وصل الشيخ من حديثه إلى هذا الحد حتى وصل القطار إلى المحطة, فنزل وترك الرجل مكانه فما مشى إلا قليلا حتى شعر بمشيته وراءه, فالتفت إليه وقال له: إنك قد فهمت كل ما يمكنني أن أقوله لك وكفى، فاقترب منه وقال له: إن معي هدية يا سيدى أريد أن أقدمها إليك وأن تتفضل بقبولها، ففهم الشيخ غرضه وأراد العبث به فقال: كم تريد أن تعطيني؟ قال: ثلاثين جنيها، قال: ذلك قليل، قال: سأعطيك ثلاثين أخرى عن صاحب لي يريد منك ما أريده, ورجاؤنا إليك يا مولاي ألا تقسو علينا؛ فنحن قوم فقراء وأنت من القوم المحسنين، وهنا غضب الشيخ غضبته المعروفة ونظر إلى الرجل شزرا وقال: يا شيخ إنني إن احتملت منك كل شيء, فإنني لا أستطيع أن أحتمل من طالب من طلبة الشريعة الإسلامية أن يسمي الرشوة وفساد الذمة إحسانا وكرما، ثم حمل عليه بعصاه وضربه ضربة ولى من بعدها على عقبه إلى حيث لا مطمع في أوبته.
قص علينا الشيخ -رحمه الله- هذه القصة في درسه, ولم يذكر لنا من شأن الرجل ولا من صفاته ما يدل عليه، ثم أطرق برأسه واستمر على ذلك ساعة خيل لنا فيها أنه يكاتمنا دمعة تترقرق في عينيه, ثم رفع رأسه وأنشأ يتكلم بنغمة محزنة مؤثرة ما تركت في مكامن المحاجر دمعة إلا أسالتها وقال:
لقد خضت غمرات هذه الحياة وما بلغت العشرين, وها أنا قد نيّفت اليوم على الخمسين ولا أعلم أني طمعت في يوم من أيام حياتي في شيء مما زواه الله عني, كما لا أعلم أني نظرت إلى زخرف هذه الحياة وزبرجها نظر المتشهي المتمني الذي يشتد في أثرها عدوا ويقتل نفسه وراءها صبرا، ولقد مرت بي في كثير من أيامي الماضية ساعات كان لي فيها من الدالة على أصحاب هذا المصر وأربابه وذوي الجاه والسلطان فيه ما يملأ بيتي فضة وذهبا, ورحابي عبيدا وخولا لو ابتغيت السبيل إلى ذلك، فعافت كل ذلك نفسي ولا أكتمكم أني كنت أعالج من مجاهدة هذه الشهوات ومدافعتها ما يجب أن يعالجه كل من نشأ منشئي بين قوم شرهين طامعين، وكنت أحسب أن قد انتشر لي بين الناس من الذكر بالعفة والشرف وإباء النفس ما يثلج به صدري وتطمئن إليه نفسي، فلما رأيت من حال هذا الرجل أمس ما رأيت علمت أنه لا يزال يوجد في الناس من يظن بي ظن السوء, ويتوهم أني من سفلة الناس وجهلائهم الذين لا يطلبون الوظائف إلا ليرتشوا, ولا يرتشون إلا ليظلموا.
لقد مرت على هذه القصة سنون عدة, والله يعلم أني أصبحت لا أسمع بواقعة من وقائع الرشا التي اسودت بها رقعة الارض, واحمر لها وجه السماء إلا ذكرتها فأجم وجوم الحزين المتألم, وأتماسك تماسك المتجلد المتثبت إبقاء على مدامعي أن يستثيرها الحزن فيرسلها, ولله الأمر من قبل ومن بعد.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید