المنشورات

الطائشة

قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها:
كانت فتاة متعلمة، حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان ولوجهها بيان غير الذي في لسانها، تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به.
ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه، خفيف طَيَّاش، لو أثقلتَه بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائمًا سكرى تتمايل من طربها، كأن أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر.
وكان هذا الطبع السكران بالشباب والجمال والطرب يعمل عملين متناقضين؛ فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضًا جرأة مندفعة متهجمة.
وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي، مضمرة فيه الكرَّة والهجوم؛ وكثيرًا ما تُرَى فيها النظرة ذات المعنيين نظرة واحدة؛ بها تؤنبك المرأة على جراءتك معها، وبها أيضًا تَعذُلك على أنك لست معها أجرأ مما أنت!
قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟
قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم أعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة؛ بل هن أحببْنَني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهبًا، ولكني ذهبت بهن خمسة عشر!
قلت: فلا ريب أنك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة, فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة؛ أجاهلات هن، أعمياوات هن؟
قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطئ واحدة منهن في فهم أن رجلًا وامرأة قصة حب, وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن الحائر البائر، الذي كسَد فيه الزواج، ورق فيه الدين، وسقط الحياء، والتهبت العاطفة, وانتشر اللهو، وكثرت فنون الإغراء, واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معًا؛ وأُطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تُقدِّم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرًا مفرطًا حتى أخذن منها ربع العلم؟
قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟
قال: يأخذنها مع الروايات والسينما.
علم المدارس، ما علم المدارس؟ إنهن لا يصنعن به شيئًا إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السينما والروايات فيصنعن به تاريخهن. ورب منظر يشهده في السينما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت به الخواطر والأحلام؛ سلبهن القرار والوقار فمثَّلْنَه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة!
يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل!
قلت: وما الطريق المجهول؟
قال: الطريق المجهول هو الرجل، وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج، ولما انطلق ثلاثتهن معًا، تغير ثلاثتهن جميعًا إلى فساد واختلال.
أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار الأم وحرمة الزوجة، فاجترأ عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تُنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوب بأقدام كثيرة, وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة.
وأما الحب، فكان حبًّا تتعرف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حرًّا بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغترّ بها إحداهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة، فقد خرج من قانون الشرف، ويرجع هذا الشرف نفسه كما نراه، ليس إلا كلمة يحتال بها.
وأما الزواج، فلما صار حرا جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج, وضعُفت منزلته، وقل اتفاقه، وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت من قبل لفظتا "الشاب، والزوج" شيئًا واحدًا عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين؛ في إحداهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج؛ وبهذا أصبح تأثير الشباب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس برهاناته، لا بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع.
وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلًا في رأي المرأة, إذا هو أحبها ولم يكن محتالًا حيلة مثله على مثلها، ويظل في رأيها مغفلًا حتى يخدعها ويستزلها؛ فإذا فعل كان عندها نذلًا لأنه فعل, وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر!
وانظر -بعيشك- ما فعلت الحرية بكلمة "التقاليد"، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة في الألسنة، يُتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعَرَّة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك "تقاليد".
وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، وأجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من "التقاليد" أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته، وفجوره وإلحاده؟ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن؟
"تقاليد"؟ فما هي المرأة بدون التقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء معرضًا لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة. هب الناس جميعًا شرفاء متعففين متصاونين؛ فإن معنى كلمة "كنز" متى تُركت له الحرية وأغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة "لص".
قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من "التقاليد" كما عرفتُها فهي هذه التي أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين, يثبت أحدهما بالسن، ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانسًا ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضمومًا إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت.
وأساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تُصنع فيه الحياة، وكانت دائمًا ناقصة لا تتم إلا بالآخر الذي أساسه في الطبيعة شأن عقله وشأن قوته.
واعتبرْ ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبُغ، فلو أنك ذهبت تمدحها بوُفُور عقلها وذكائها، وتقرظها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلق كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها؛ لتحول عندها كل مدحك ذمًّا، وكل ثنائك سخرية؛ فإن النبوغ ههنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن، أو الذي تزعمه هي فاتنًا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته إلا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع، مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر.
مثل هذه إنما يكون الثناء عندها حينما يكون أقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف بمن دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟
دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة, فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم إلا: ما أعقلها، ما أعقلها، ما أعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظر التلميذ لمعلمة في سن جدته. فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو ... أو تخرج في وجهها لحية!
"ما أعقلها! " كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة، هي عندهن كلمة أخرى، هي: "ما أجملها! "؛ إن تلك تشبه الخبز القَفَار لا شيء معه على الخِوَان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضًا.
وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرَّها به النساء، فأراد أن يثبت أنه عقل، فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة: "ما أعقلها" كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر، عند ... عند الطفلة.... تفرح الطفلة أشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها!
فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا, وكانت "التقاليد" كالحاشية لي؛ فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها: "لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا إلى جانبه، أذكِّره أني إلى جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق".
قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور, إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارتْه لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجُلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة، حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارًا، وتبينت أن هذا الجسم الآخر هو فلسفة لجسمها وعقلها.
قال: وقد جلست مرة مع صاحبة القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب, ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسأل: أين أنت؟ فإنك لست كلك الذي بجانبي!
قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت, غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أني متكبر؛ كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وإما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب.
إن المرأة لا تحب إلا رجلًا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف!
قلت: لقد بعُدنا عن القصة, فما كان خبر صاحبتك تلك؟
قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زَهْو الفتاة بأنها فتاة، وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملًا تعمله بجمالها.
ومتى كانت الفتاة مستخفة "بالتقاليد" كهذه الأديبة المتعلمة؛ رأيت كلمة "الزوج" لفظًا على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى, ولا يختلفان إلا في "التقاليد".
وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات، اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تيارًا زاخرًا لنهرنا الاجتماعي الراكد؛ فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوروبا بالعالمية, أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟
إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغُرَنَّ عندك شأن هذه المعجزة، فهي -والله- معجزة ما دام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها، وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلًا بلا تذكير!
وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وأن فتاة تعيش وتموت وما ولدت للأمة إلا مقالات؟
فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت: إنها عرضت لك كما يعرضا لمصارع للمصارع.
قال: عرضت لي تريد أن تصرِّفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويتُ عليها؛ فزادت إليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها, فلم أتسهل؛ فانتهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى؛ رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي.
ثم ردَّتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعًا يتراءى بالعصيان وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسًا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارًا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك؛ وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بُنيت المرأة عليها, شاءت أم أبت، وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني!
أما أنا فأحببتها حبا عقليا، وكان هذا يشتد عليها؛ لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه، قالت: أجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تزيله مع الدمع, وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: "محراب الدمع! " قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط!
ثم طاشت الطيشة الكبرى!
قلت: وما الطيشة الكبرى؟
قال: إنها كتبت إلي هذه الرسالة:
"عزيزي رغم أنفي ...
لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني -على تعليمي- أشد جهلًا من الجاهلة؛ وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، وهذه هي المعرفة الأولى؛ أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت، فكأني قلتُها لك".
"اعلم -يا عزيزي رغم أنفي- أني إذا لم أكن عزيزتك رغم أنفك، فسآتي ما يجعلك سَلَفًا ومَثَلًا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة! "
"وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك، فهل تشعر بها؟ ".
قال: فوجمتُ ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سَفَاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له إلا عقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه إلا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا!
فقلت لها: أهذا هو العلم الذي تعلمتِهِ؟ ألا يكون علم المرأة خليقًا أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟
قالت: العلم؟
قلت: نعم، العلم.
قالت: يا حبيبي، إن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوروبية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلًا وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها ولو انقلب الزواج رواية, والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الآخر وتعرفها معرفة علمية, والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفوًّا عنه ما دام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها, والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل، وأكد لها أن واحدًا وواحدًا هما واحد وكلاهما أول. والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس, والعلم - يا عزيزي- هو العلم الذي محا من العالم لفظة "أمس" لا يعرفها وإن كانت فيها الأديان والتقاليد.
قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم معراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها.
قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائمًا، ودائمًا عقل أنثى؛ وفي رأسها دائمًا جو قلبها، وجو قلبها دائمًا في رأسها؛ فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع.
العلم للمرأة؛ ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرًا مقررًا في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئًا ثابتًا في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة.
أما بغير هذا الشرط، فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قَذِر، هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب.
انظر يا عزيزي برغم أنفي، هذه رسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة الـ ... فاسمع قولها:
"وأنا أعيش اليوم في الجمال؛ لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب ... ".
"وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري ... ".
أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لَمَّا تعلم أن هذا هو علم أكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج, فاعلمه. ومتى عمي الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدًا إلا حرية الفكرة المحرَّمة!
قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟
قال: ثم هذا. ودس يده في جيبه فأخرج أوراقًا كتب فيها رواية صغيرة أسماها: "الطائشة". 
الطائشة 2:
وهذا محصل رواية "الطائشة"، نقلناه من خط الكاتب على مساق ما دوّنه في أوراقه، وعلى سرده الذي قص به الخبر؛ وقد أعطانا من البرهان ما نطمئن إليه أن هذه "الطائشة" هي من تأليف الحياة لا من تأليفه، وأنه لم يخترع منها حادثة، ولم يأتفك حديثًا، ولم يزدها بفضيلة، ولم يتنقصها بمعرة؛ ثم أشهد على قوله كتب صاحبته الأدبية المستهترة التي لا تبالي ما قالت ولا ما قيل فيها؛ وهذه الكتب رسائل: منها الموجز ومنها المستفيض، وهي بجملتها تنزل من الرواية منزلة الشروح المفننة، وتنزل الرواية منها منزلة اللُّمَع المقتضبة وكل ذلك يشبه بعضه بعضًا، فكل ذلك بعضه شاهد على بعض.
قال كاتب "الطائشة":
كنت رجلًا غَزِلًا ولم أكن فاسقًا، ولست كهؤلاء الشبان أُصيبوا في إيمانهم بالله فأُصيبوا في إيمانهم بكل فضيلة، وذهبوا يحققون المدينة فحققوا كل شيء إلا المدينة.
ترى أحدهم شريفًا يأنف أن يكون لصًّا وأن يسمى لصًّا، ثم لا يعمل إلا عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهن الاجتماعي، وتراه نجدًا يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع الطريق، ثم يأبى إلا أن يقطع الطريق في حياة العذارى وشرف النساء.
أكثر أولئك الشبان المتعلمين يعرضون للفتيات المتعلمات بوجوه مصقولة تحتمل شيئين: الحب والصفع. ولكن أكثر هؤلاء المتعلمات يضعن القبلة في مكان الصفعة، إذ كان العلم قد حلل الغريزة التي فيهن فعادت بقايا لا تستمسك؛ وبصّرهن بأشياء تزيد قوة الحياة فيهن خطرًا، وتوحي إليهن وحيها من حيث يشعرن ولا يشعرن؛ وصور في أوهامهن صورًا محت الصور التي كانت في عقائدهن؛ وأخرجهن من السلب الطبيعي الذي حماهن الله به، فلهن العفة والحياء، ولكن ليس لهن ذلك العقل الغريزي الذي يجيء من الحياء والعفة؛ وكثيرات منهن يخشين العار وسمته الاجتماعية ولكن خشية فقهاء الحِيَل الشرعية، قد أرصدوا لكل وجه من التحريم وجهًا من التحليل، فأصبح امتناع الإثم هو ألا تكون إليه حاجة.
والعقل الذي به التفكير يكون أحيانًا غير العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون عقل الحياء والعفة والشرف والدين, غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعًا، وهي أبدًا الفكرة والعمل جميعًا لا تتغير ولا تتبدل، ولا يقع فيها التنقيح الشعري ولا الفلسفي. وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشًا؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى.
وشرف المرأة رأس مال للمرأة، ومن ذلك كان له في أوهام العلم اشتراكية بحسبه تنظر فيه نظرها وتزيغ زيغها وتقضي حكمها؛ وأكثر من عرفت من المتعلمين والمتعلمات قد انتهوا بطبيعتهم العلمية إلى الرضى بهذه الاشتراكية، وإلى التسامح في كثير، وإلى وضع الاعتذار فيما لا يُقبل عذرًا، ومن ههنا كان بعض الجاهلات كالحصن المغلق في قمة الجبل الوعر، وكان بعض المتعلمات دون الحصن، ودون القمة، ودون الجبل، حتى تنزل إلى السهل فتراهنَّ ثمة.
لقد غفلت الحكومات عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفت لعرفت أن الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنسانًا عامًّا ونوعًا خاصًّا مذكرًا، وفي المرأة إنسانًا عامًّا كذلك ونوعًا خاصًّا مؤنثًا. والدين وحده هو الذي يصلح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين، وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية، كانت الروحية زيادة في القوة؛ وإن كانت ضعيفة كما هي الحال في هذه المدنية، لم تجمع الروحية على المتعلم ضعفين، يبتلي كلاهما الآخر ويزيده.
فلان وفلان تعلقَّّا فتاتين جاهلة ومتعلمة؛ وكلتاهما قد صدت صاحبها وامتنعت منه؛ فأما الجاهلة فيقول "فلانها": إنها كالوحش، وإن صدودها ليس صدودًا حسب، بل هو ثورة من فضيلتها وإيمانها، فيها المعنى الحربي مجاهدًا متحفزًا للقتل.
وأما المتعلمة فيقول "فلانها": إنها ككل امرأة، وإن صدودها ثورة، ولكن من دلالها ترضي به أول ما ترضي وآخر ما ترضي, كبرياء الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة. فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعًا أو يزيد احتيالًا. 
وفلان هذا يقول لي: إن ضعفاء الإيمان من الشبان المتعلمين -وأكثرهم ضعفاء الإيمان- لو حققتَ أمرهم وبلوت سرائرهم، لتبينت أنهم جميعًا لا يرون قلب الفتاة المتعلمة إلا كالدار الخالية كُتب عليها: "للإيجار"!
يقول كاتب "الطائشة":
أما أنا, فقد صح عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حَذَرًا من الشبان جميعًا؛ وإغماض العين لواحد.
وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة، فإنها بطبيعتها تتقيد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيده لذته، فيتصل وينفصل؛ غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك موضعًا للنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مُظلمة في حياتها، راكدة في طباعها، ثقيلة على نفسها، ما دام "الشعاع" لا يلمسها.
والدين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده، كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها؛ والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفن يوجب أن يكون هو الحب؛ وليس في الحب شروط ولا عهود، إلا وسائل تُختلق لوقتها، وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة؛ ولفظ الحب نفسه لص لغوي خبيث، يسرق المعاني التي ليست له وينفق مما يسرق. وليس من امرأة يخدعها عاشق إلا انكشف لها حبه كما ينكشف اللص حين يُمسَك.
يقول كاتب "الطائشة":
تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن "عزيزتي رغم أنفي". ومن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها, كان خليقا بمن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مُسلَّحة.
لقد تكارهت على بعض ما أرادت مني ما دام الحب "رغم أنفي"، وما دامت السياسة أن أداريها وأتبع محبتها؛ غير أني صارحتها بكلمة شمسية تلمع تحت الشمس، أنها الصداقة لا الحب، وأنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قوي عليه وفي به.
قالت: فليكن، ولكن صداقة أعلى قليلًا من الصداقة, ولو من هذا الحب المتكبر الذي لا يصدق كيلا يكذب. إن هذا النوع من الحب يطيش بعقل المرأة، ولكنه هو أول ما يستهيمها ويعجبها ويُورثها التياع الحنين والشوق.
كتبت لي: "أنا لا أتألم في هواك بالألم، ولكن بأشياء منك أقلها الألم؛ ولا أحزن بالحزن، ولكن بهموم بعضها الحزن".
"إنك صنعت لي بكاء ودموعًا وتنهدات، وجعلت لي ظلامًا منك ونورًا منك يا نهاري وليلي. تُرى ما اسم هذا النوع من الصداقة؟
اسمه الحب؟ لا.
اسمه الكبرياء؟ لا.
اسمه الحنان؟ لا.
اسمه حبك أنت، أنت أيها الغامض المتقلب. ألا ترى ألفاظي تبكي، ألا تسمع قلبي يصرخ، بأي عدلك أو بأي عدل الناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة. هذا قتل، هذا قتل".
فكتبت إليها: "إن لم يكن هذا جنونًا, فإنه لقريب منه".
فردت على هذه الرسالة:
"أتكاتبني بأسلوب التلغراف؟ لو أهديت إلي عِقْدًا من الزمرد حباته بعدد هذه الكلمات لكنت بخيلًا، فكيف وهي ألفاظ؟ إني لأبكي في غمضة واحدة بدموع أكثر عددًا من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك! "
"ما كان ضرك لو كتبت لي بضعة أسطر تنسخها من تلغرافات روتر, ما دمت تسخر مني؟ أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟ ".
لا أدري كيف أحببتُها، ولا كيف دعتني إليها نفسي؛ ولكن الذي أعلمه أني تخادعت لها وقلت: إن المستحيل هو منع الشر، والممكن هو تخفيفه؛ ثم أقبلت أرثي لها، وأخفف عنها، وأقبلت هي تضاعف لي مكرها وخديعتها وكان الأمر بيننا كما قالت: "في الحب والحرب لا يكون الهجوم هجومًا وفيه رفق أو تراجع".
إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاة المستبدين.
سألتني أن أهدي إليها رسمي؛ فاعتللت عليها بأن قلت لها: إن هذا الرسم سيكون تحت عينيك أنت رسم حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسم متهم.
وظننتني أبلغت في الحُجَّة وقطعتها عني؛ فجاءتني من الغد بالرد المفحم؛ جاءتني بإحدى صديقاتها لتظهر في الرسم إلى جانبي كأنني من ذوي قرابتها؛ فيكون الرسم رسم صديقتها، ويكون مهدى منها لا مني، وكأنني فيه حاشية جاءت من عمة أو خالة.
وأصررت على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، ترد علي وأرد عليها، وتغاضبنا وانكسرت حزنًا وذهبت باكية؛ ثم تسببت إلى رضاي فرضيت.
حدثتني أن صديقتها فلانة الأدبية استطاعت أن تستزير صاحبها فلانًا في مخدعِها, في دارها، بين أهلها، منتصف الليل. قلت: وكيف كان ذلك؟
قالت: إنها تحمل شهادة, وهي تلتمس عملًا وقد طال عليها؛ فزعمت لذويها أنها عثرت في كتاب كذا على رقية من رقى السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا مُحق القمر؛ وأنها ستطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تُهمهم بالأسماء والكلمات.
ثم إنها اتعدت وصاحبها ليوم، وأجافت باب دارها ولم تغلقه، وأطلقت البخور في مِجْمَر كبير أثار عاصفة من الدخان المعطر، وجعل مخدعها كمخدع عروس من ملكات التاريخ القديم؛ وبقي صاحبها تحت الضبابة يهمهم وتهمهم. ثم خرج في أغباش السَّحَر.
هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبر عن تلك الصديقة وفلانها، أم هو اقتراح علي أنا من "فلانتي" لأكون لها عفريت الضبابة؟
لم يخفَ عليها أن لَذْعة حبها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجل وامرأة يطمع أحدهما في الآخر. لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئًا منتظرًا بطبيعة السياق. وإلحاح امرأة على رجل قد خلبها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية؛ فإن هي صابرته وأمعنت، فقلما يدعها هذا التعقيد من حل لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيدًا وكان غير مفهوم ولا واضح؛ وقد ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب، وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر؛ وكذلك يقع للرجل إذا أحب المرأة فنبت عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها, وأمعن وثبت وصابر.
رأت الجمرة الأولى في قلبي فأضرمت فيه الثانية، حين جاءتني اليوم بكتاب زعمت أن فلانًا أرسله إليها يطارحها الهوى ويبثها وَلَه الحنين والتياع الحب.
ويقول لها في هذا الكتاب: "أنا لم أشرب خمرًا قط، ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عيني الخمر، وفي عقلي السكر، وفي قلبي العربدة. جعلتِ لي -ويحك- نظرة سكير فيها نسيان الدنيا وما في الدنيا ما عدا الزجاجة".
ويختمه بهذه العبارة:
"آه, لو استطعت أن أجعل كلامي في نفسك ناعمًا، ساحرًا، مسكرًا، مثل كلام الشفة للشفة حين تقبلها! ".
عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وخُتم هذا الفصل بأول قبلة على شفتي "الممثلة".
قالت: هذه القبلة كانت "غلطة مطبعية"، ومضت تسميها كذلك، واستمرت المطبعة تغلط. وما علمت إلا من بعد أن ذلك الكتاب الذي استوقدت به غيرتي إنما كان من عملها ومكرها.
وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت:
أنت رجعي محافظ على التقاليد. قلت: لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر في كل يوم, وهو في كل يوم ضياء ونور.
قالت: أو كالمساء الذي يتكرر, وهو في كل يوم ظلام وسَوَاد!
قلت: ليس هذا إلي ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر.
قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم عِلْمية أوروبية، والزمن حَثِيث في تقدمه، وأصحاب "التقاليد" جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن؛ ولذلك يسمونهم "متأخرين". أما علمت أن الفضيلة قد أصبحت في أوروبا زيًّا قديمًا، فأخذ المقص يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا؟!
اسمع أيها "المتأخر"، وتأمل هذا البرهان الأوروبي العصري: 
أخبرتني صديقتي فلانة حاملة شهادة, أنها كانت في القطار بين الإسكندرية والقاهرة، وكانت معها فتاة من جيرتها تحمل الشهادة الابتدائية؛ فجمعهما السفر بشاب وسيم ظريف يشارك في الأدب، غير أنه رجعي "متأخر"، وصديقتي تعرف من كل شيء شيئًا، وتأخذ من كل فن بطرف؛ فجرى الحديث بينهما مجراه، وتركت الصديقة نفسها لدواعيها، وانطلقت على سَجِيَّتها الظريفة، ووضعت فن لسانها في الكلام فجعلت فيه روح التقبيل!
ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك "المتأخر" ووقعت من نفسه، ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه, فلما همت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟
فأغضَتْ صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياءً، ورأت في السؤال تهمة وريبة، فأنبتها الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة؟ إن لم يسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوروبية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟
ثم ردت على الشاب فأنبأته بمكانها وعنوانها، فأطمعه ردها، فسألها أن تتنزه معه في بعض الحدائق، فأبت صاحبة الابتدائية ولجت عمايتها الشرقية المتأخرة، ورأت في ذلك مسقطة لها، فلَوَت إلى دارها وتركتهما إنسانًا وإنسانًا لا فتى وفتاة؛ وتنزها معًا، وعرف الشاب الرجعي الحب، والخمر التي هي تحية الحب!
ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سكرى كما زعمت للشاب, فأوت إلى فندق، وخُتمت روايتهما بإعراض من الشاب, أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت "متأخرًا"؟
قالت "الطائشة":
نعم يا عزيزي "المتأخر"، إن مذهب المرأة الحرة في الفرق بين الزوج وغير الزوج؛ إن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ. والثابت ثابت معها بحقه هو؛ والطارئ طارئ عليها بحقها هي. فإن كانت حرة فلها حقها.
قال كاتب الطائشة: وهنا، هنا، هنا, كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية "الطائشة".
نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكون قصة أخرى اسمها: "الطائش والطائشة".













مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید