المنشورات

بعد شوقي *:

كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعم أن شوقي هو يحيى شعره، وهو يرفع منه، وهو يشيع حوله قوة الجذب من مغناطيس الثروة والمكانة، وأن الرجل ما أوفى على الشعراء جميعًا لأنه أفضلهم، بل لأنه أغناهم؛ ولا من أنه أقواهم قوة، بل لأنه أقواهم حيلة؛ وأن الشاعر لو جاء يومه لبطل السحر والساحر، فترجع العصا وهي عصًا بعد أن انقلبت حية، ويؤول هذا الشعر إلى حقيقته، وتتسم الحقيقة بسمتها؛ كأن شوقي كان يعمل لشعره بقوة السموات والأرض لا بقوة رجل من الناس.
فقد ذهب الرجل إلى ربه، وخلا مكانه، وبطلت كل وسائله، ونام عن شعره نومة الأبدية، وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق من الشعر أو باطل، وأصبح الشاعر هو وماله وجاهه وشعره في حكم الكلمة التي يقولها الزمن، ولم تعد هذه الكلمة في حكمه؛ فهل أثبته الزمن أو نفاه، وهل سلم له أو كابره، وهل رده في أغمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟
أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدلالة عليه وأصدق في الشهادة له، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحًا طويلًا لمعنى ذلك الضياء، وإن سطعت فيها الكواكب وتوقد منها شيء وتلألأ شيء؛ فقد دل الزمن على أن ذلك الشأن لم يكن لشاعر كالشعراء يقال في وصفه إنه مفتنٌّ مجيد مبدع؛ ولكنه للذي يقال فيه إنه صوت بلاده وصيحة قومه.
كانت تحدث الحادثة، أو يتخالج الناس معنى من الهم الذي يعمهم، أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن، أو يزول عظيم من العظماء فيزيد صفحة في التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين: إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظه رفي مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعرًا من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوزه فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على الشعر العربي.
واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة، من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع.
ولست أماري في أن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر، ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة: ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه، وأن يخرج له التقليد؛ فهو ينتظر وسينتظر.
وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه -بضروب خفية من الصرفة والعوائق، لا هي كلها من قوة العبقري، ولا هي كلها من عجز الآخرين.
وأعجب من ذا أن "شوقي" كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى باسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز- كأن فيه شيئًا من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين: من محلها ومن نفس الإنسان.
وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعرًا عربيًا يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستجلي حسنها؟
وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على اسمه شهادتها له؛ ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن اسمه في وزن اسم مملكة، فإذا قلت: شكسبير وانجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر.
قالوا: كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب "أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنوق فيه ولا ينقحه"؛ وكان خشب جرير خيرًا من تنقيح الفرزدق ولم يتنبه أحد إلى السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أُمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتي القوة أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه: يجيء دائمًا قريبًا بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به.
وقد كان عمرو بن ذر الواعظ البليغ* إذا تكلم في مجلسه نشر حوله جوًّا من روحه، فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري أنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمرو بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحدًا يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين..
فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه، وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر؛ ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي.
والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة، فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئها لما يراد منها بقدر ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما؛ وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض إلا فروقًا في هذه الكمية ذاتها مقدارًا من مقدار؛ ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء؛ فقد يكون الشاعر كأنه تلميذ في العلم، ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه؛ ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري، لقديمًا عجز في كل أمة. 
وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه اطلاعًا على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسدًا شانئًا قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق؛ فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته، فلا تجد أحدهما إلا عاليًا بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلًا نازلًا بمن يبغض؛ وكان هذا الناقد شاعرًا، فانضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى اطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت وتراخي الزمن؛ وهذه كلها مفرقات نفسية.. بعضها أشد من بعض كالبارود، إلى الديناميت، إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي كان في مرتقى لم يبلغه الناقد، فانقلب جهد هذا عجزًا، وأصبح البارود والتراب في يده بمعنى واحد1..
ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد، أني رأيته يقرر لناس صواب الحقيقة بزعمه، فإذا هو يقرر غلطه وجهله وتعسفه؛ وهو في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العذاب وعمله في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه، فيذهب يعيبه للناس بأنه ليس هو البنزين ... الذي يحرك السيارات والطيارات!
تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية، أي من حاسة الشعر، ومن إدراك السر لا يخلق الشاعر الحق إلا لإدراكه والكشف عن حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن لا يحسن وصف الربيع بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله:
تجد الوحوش بها كفايتها ... والطير فيه عتيدة الطعم
فظباؤه تضحى بمنتطح ... وحمامه يضحى بمختصم
وزعم أن ابن الرومي قد ولد بحاسة لم يولد بها شوقي، ولهذه الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع، وأنه غليان الحياة في الأحياء، فالظباء تنتطح من الأشر ... الخ الخ وبنى على ذلك ناطحة سحاب.. لا ناطحة ظباء*.
أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز لم يولد بمثل تلك الحاسة، فلو أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الإحساس، ولا استطاع أن يجيء هذا القول المعجزة؛ وكل ذلك من هذا الناقد جهل في جهل في جهل، وأعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن الرومي في هذا المعنى لص لا أكثر ولا أقل، فلم يحس شيئًا ولا ابتدع ولا اخترع.
قال الجاحظ: يقال في الخصب "أي الربيع": نفشت العنز لأختها؛ وخلفت أرضًا تظالم معزاها "أي تتظالم"؛ قال: لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذاك من الأثر، "أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها".
فأنت ترى أن ابن الرومي لم يصنع شيئًا إلا أنه سرق المعنى واللفظ جميعًا، ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها الحمام على الظباء والمعزى.. فاستكره الحمام على أن يختصم في زمن بعينه وهو يختصم في كل يوم؛ وإنما شرط الزيادة في السرقة الشعرية أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسه أو كالمخترع.
ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشعري، ثم قدم شوقي للناس تسعًا وتسعين منها، لقال ذلك الناقد المتعنت: لا، إلا الصورة التي لم يقدمها..
وكان شعر شوقي في جزالته وسلاسته كأنما يحمل العصا لبعض الشعراء يردهم بها عن السفسفة والتخليط والاضطراب في اللفظ والتركيب؛ فكثر الاختلال في الناشئين من بعده، وجاءوا بالكلام المخلط الذي تبعث عليه رخاوة الطبع وضعف السليقة، فتراه مكشوفًا سهلًا ولكن سهولته أقبح في الذوق من جفوة الإعراب على كلامهم الوحشي المتروك.
والآفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فرضًا على الشعر العربي، كأنهم يقولون للناس: دعوا اللغة وخذونا نحن! وليس في أذهانهم إلا ما اختلط عليهم من تقليد الأدب الأوروبي، فكل منهم عابد الحياة، مندمج في وحدة الكون، يأخذ الطبيعة من يد الله ويجاري اللانهاية، ويفنى في اللذة، ويعانق الفضاء، ويغني على قيثارته للنجوم؛ وبالاختصار: فكل منهم مجنون لغوي..
وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إلا كالجيف، غير أنهم يقولون: إن الجيفة لا تعد كذلك في الوجود الأعظم، بل هي فيه عمل تحليلي علمي دقيق؛ لقد صدقوا؛ ولكن هل يكذب من يقول: إن الجيفة هي فساد ونتن وقذر في اعتبار وجودنا الشخصي، وجود النظر والشم، والانقباض والانبساط، وسلامة الذوق وفساد الذوق.
وكان حاسدو شوقي يحسبون أنه إذا أزيح من طريقهم ظهر تقدمهم؛ فلما أزيح من الطرق ظهر تأخرهم.. وهذه وحدها من عجائبه -رحمه الله.
وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلاثة ملوك للشعب، فهيهات ينبغ مثله إلا إذا عمل الشعب في خدمة الشعر والأدب عمل ثلاثة ملوك.. وهيهات!














مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید