المنشورات

النهي عن ممازحة الأخلاء والنهي عن مفاكهة الأوداء

اعلم أن من زي الأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وذوي المروءة والظرفاء، قلة الكلام في غير أرب، والتجاهل عن المداعبة واللعب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمزاح، لأن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة، ويفسد الأخوة، ويجرئ على الشريف الحر، أهل الدناءة والشر. وقد أخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني الأصمعي عن رجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم، فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا أما لك زاجر من عقل، إذا لم يكن لك واعظ من دين؟ قلت: والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: يا هذا فأين مكوكبها؟ فقلت: إنما كنت أمزح. فقالت:
فإياك، إياك المزاح، فإنه ... يجري عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد وضاته، ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا
وقال سليمان بن داود، عليهما السلام: المزاح يستخف فؤاد الحليم، ويذهب ببهاء ذي القدرة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أكثر من شيء عرف به، ومن مازح استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته. وكان يقال: لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: امنعوا الناس من المزاح، فإنه يذهب المروءة، ويوغر الصدر.
وقال بعض الشعراء:
مازح أخاك إذا أردت مزاحاً، ... وتوق منه المزاح جماحا
فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لباب عداوة مفتاحا
وقال عمر بن عبد العزيز: امتنعوا من المزاح تسلم لكم الأعراض. قال خلف بن صفوان: المزاح سباب النوكى.
وقال محمود الوراق:
تلقى الفتى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر
ويقول: كنت ممازحاً وملاعباً ... هيهات نارك في الحشا تستسعر
ألهبتها وطفقت تضحك لاهياً، ... عما به، وفؤاده يتفطر
أو ما علمت، ومثل جهلك غالب، ... أن المزاح هو السباب الأصغر؟
وقال بعض الحكماء: الخصومة تمرض القلوب وتثّبت فيها النفاق. والمزاح يذهب ببهاء العز.
وحدثني الباغندي قال: حدثنا الحميدي عن سفيان عن ابن المنكدر قال: قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النبي، صلى الله عليه وسلم.
وأوصى يعلى بن منبه بنيه فقال: يا بني، إياكم والمزاح فإنه يذهب بالبهاء، ويعقب الندامة، ويزري بالمروءة.
وقال مسعر بن كدام الهلالي لابنه:
ولقد منحتك، يا كدام، نصيحتي، ... فاسمع لقول أب عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما، ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إني بلوتهما، فلم أحمدهما ... لمجاور جاورته، ورفيق
وكان سعيد بن العاص يقول: لا تمازحن الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك.
وقد تواترت بالنهي عن ذلك الأخبار، وتكاثفت فيه الأشعار، ولعمري إن ترك ما نهى عنه ذوو الأدب، من المداعبة واللعب، أولى بذي النهية والأرب. وقد يجب على العاقل الأديب أن ينتقي إخوانه، ويتخير أخدانه، ويفتش عن الأصحاب، ويجالس ذوي الألباب، ويستخلص أهل الفضل، وأهل المروءات والعقل، فإنها محنة الأدباء، وفراسة العلماء، وإنما يعرف الرجل بأشكاله، ويقاس بأمثاله، ويوسم بأخدانه، وينسب إلى أقرانه. وقد شرحت في ذلك جملة من الآثار، وما روي فيه من النتف والأخبار، فقف عليه يبن لك ما فيه، إن شاء الله تعالى.











مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید