المنشورات

شرائع المروة وصفتها

اعلم أن المروة هي عماد الأدباء، وعتاد العقلاء، يرئس بها صاحبها، ويشرف بها كاسبها، ولا شيء أزين بالمرء من المروة، فهي رأس الظرف والفتوة. وقد قال بعض الحكماء: الأدب يحتاج معه إلى المروة والمروة لا يحتاج معها إلى الأدب. وربما رأيت ذا المروة الخامل، وذا السخاء الجاهل، قد غطت مروته على عيوبه، وستره سخاؤه من معيبه. وأهل المروءات محسودة أفعالهم، متبعة أحوالهم. وقل ما رأيت حاسداً على أدب، وراغباً في أرب. من ذلك ما حكي عن محمد بن حرب أنه قال: كنت على شرطة جعفر بالمدينة، فأتيت بأعرابي من بني أسد يستعدى عليه، فرأيت رجلاً له بيان يحتمل الصنيعة، فرغبت في اتخاذها عنده فتخلصته ثم لم يلبث أن ردّ إليَّ، فقلت: حماس؟ فقال لي: حماس، والله؛ قلت: ما أرجعك؟ قال: الشر، وما قاله رجل منا يقال له خالد، فأنشدني:
عادوا مروتنا، فضلل سعيهم، ... ولكل بيت مروة أعداء
لسنا، إذا عد الفخار كمعشر ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء
قال: فتخلّصته ثانية.
وقيل لبعض حكماء الفرس: أي شيء للمروة أشد تهجيناً؟ فقال: للملوك صغر في الهمة، وللعامة الصَّلف، وللفقهاء الهوى، وللنساء قلة الحياء، وللعامة الكذب، والصبر على المروة صعب، وتحملها عبء. وقد قال خالد بن صفوان: لولا أن المروة اشتدت مؤونتها، وثقل حملها ما ترك اللئام للكرام منها شيئاً، ولكنه لما ثقل محملها، واشتدت مؤونتها حاد عنها اللئام، فاحتملها الكرام.
وقال بعضهم: المكارم لا تكون إلا بالمكاره، ولو كانت خفيفة لتناولها السفلة بالغلبة.
وقال ابن عمر: ما حمل رجل حملاً أثقل من المروة، فقال له أصحابه: صف لنا ذلك! فقال: ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء قط علانية، إلا استحييت منه سراً.
وقام رجل من بني مجاشع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي؟ فقال: إن كان لك عقل، فلك فضل، وإن كان لك خلق، فلك مروة، وإن كان لك مال، فلك حسب، وإن كان لك دين، فلك تقى، وإن كان لك تقى، فلك دين.
وروى الهلالي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرجل من ثقيف:ما المروة فيكم؟ قال: الصلاح في الدين، وإصلاح المعيشة، وسخاء النفس، وصلة الرحم. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: كذلك هي فينا.
وقال عمر بن الخطاب: المروة الظاهرة الثياب الطاهرة، يعني النقية من الذنوب.
وقيل للأحنف: ما المروة؟ قال: إصلاح المعيشة، واحتمال الجريرة.
وقال معاوية لصعصعة بن صفوان: ما المروة؟ قال: الصبر على ما ينوبك، والصمت حتى تحتاج إلى الكلام.
وقال محمد بن علي بن الحسين: كمال المروة الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تقدير المعيشة.
وقال معاوية لرجل من عبد القيس: ما تعدون المروة فيكم؟ قال: العفة والحرفة.
وقيل لأبي زهرة: ما المروة؟ قال: إصلاح الحال والرزانة في المجالس، والغداء والعشاء بالأفنية.
وقال عمر بن الخطاب: حسب المرء ماله، وكرمه دينه، وأصله عقله، ومروته خلقه.
وقال علي بن أبي طالب: مروة الرجل حيث يضع نفسه.
وقال عبد الله بن سميط بن عجلان: سمعت أيوب السجستاني يقول: لا ينبل الرجل، حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس، والتجاوز عنهم.
وقال مسلمة بن عبد الملك: مروتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة.
وكان يقال: ثلاث يفسدن المروة: الالتفات في الطريق، والشح، والحرص.
وقال عمر بن هبيرة: عليكم بمباكرة الغداء فإن في مباكرة الغداء ثلاث خلال: يطيب النكهة، ويطفئ المرة، ويعين على المروة،قيل: وما إعانته على المروة؟ قال: لا تتوق النفس إلى طعام غيره.
وقال سلم بن قتيبة: لا تتم مروة الرجل، حتى يصبر على مناجاة الشيوخ الدرد.
وسأل ابن زياد رجلاً من الدهاقين: ما المروة فيكم؟ قال: أربع خصال: أن يعتزل الرجل الريبة فلا يكون في شيء منها، فإنه إذا كان مريباً كان ذليلاً، وأن يصلح ماله، فإن من أفسد ماله لم تكن له مروة، وأن يقوم لأهله بما يحتاجون إليه، حتى يستغنوا به عن غيره، فإن من احتاج أهله إلى الناس لم تكن له مروة، وأن ينظر فيما يوافقه من الطعام والشراب فيلزمه، فإن المروة ألا يخلط على نفسه في مطعمه ولا مشربه.
وكان يقال: ثلاث من المروة: تعاهد الرجل إخوانه، وإصلاح معيشته، وإقالته في منزله.
وسئل العتابي عن المروة، فقال: إخفاء ما لا يستحيا من إظهاره، ومواطأة القلب اللسان.
ويروى عن عبد الله بن بكر السهمي أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فجلس ملياً، ثم انصرف، فقال معاوية: ما أكمل مروة هذا الفتى وأخلقه أن يبلغ. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هذا أخذ بخلائق أربع، وترك ثلاثاً: أخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المؤونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقي، وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.
فهذه جملة شرائع المروة، لا يقدر على القيام بأدنى المفترض فيها إلا ذوو العقول الفاضلة، والآداب الكاملة.
واعلم أن من المروة أيضاً عشر خصال: لا مروة لمن لم يكن فيه الحلم، والحياء، وصدق اللهجة، وترك الغيبة، وحسن الخلق، والعفو عند المقدرة، وبذل المعروف، وإنجاز الوعد. وفي تبيينهن أخبار تحث على استعمالهن، وآثار تدعو إلى المثابرة عليهن، وأنا ذاكر بعض ذلك، إن شاء الله، وبه القوة.













مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید