المنشورات

قبح خلف المواعيد وما يلحق صاحبّه من اللّوم والتفنيد

اعلم أن أقبح ما استعمله أهل الأدب مطل العدات. وقال المثنى ابن خارجة: لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أخلف موعداً. وروينا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ثلاث علامات في المنافق، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف. وروي عنه أنه قال: عدة المؤمن أخذ بالكف. وقال بعض الأعراب: وعد الكريم تعجيل، ووعد اللئيم مطلٌ وتسويف. وكان يقال: اليأس إحدى الراحتين. وأنشدني يعقوب بن يزيد التمار:
متى ما أقل يوماً لطالب حاجة: ... نعم، يا فتى، أفعل، وذلك من شكلي
وإن قلت: لا، بينتها من مكانها، ... ولم أوذه فيها بجر، ولا مطل
وأنشدني آخر:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا استراح وأرح بها ... لكي لا يقول الناس إنك كاذب
وأنشدني آخر:
لا تقولن، إذا ما لم ترد ... أن يتم الوعد في شيء نعم
وإذا قلت: نعم، فامض بها ... بنجاح الوعد إن الخلف ذم
وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي:
أنت الفتى كل الفتى، ... لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا ... د وحبذا صدق البخيل
وكان يقال: اعتذار من منع أجمل من وعد ممطول. وقال علي بن هشام: أمرني المأمون بحاجة، فأخرتها، فكتب إلي:
تعجيل جود المرء أكرومة، ... تنشر عنه أحسن الذكر
والحر لا يمطل معروفه، ... ولا يليق المطل بالحر
وكان يقال: المعروف يحتاج إلى ثلاث: تعجيله وكتمانه وإتمامه. وأنشدنا ليزيد بن جبل:
يا صانع المعروف كن تاركاً ... ترداد ذي الحاجة في حاجته
فشرُّ معروفك ممطوله، ... وخيره ما كان من ساعته
لكل شيء يُرتجى آفة، ... وحسبك المعروف من آفته
وقال آخر:
صل من أردت وصاله، وإخاءه، ... إن الأخوة خيرها موصولها
وإذا ضمنت لصاحب لك حاجة، ... فاعلم بأن تمامها تعجيلها
وقال آخر:
لا تنشرن مواعيداً، وتسندها ... إلى المطال، فما يرضى به الأدب
لا تطلبن بمنع المال محمدة ... إن المحامد بالأموال تكتسب
وكان يقال: لكل شيء آفة، وآفة المعروف المطل. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله.
وفي وصية عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني، لا تعدوا الناس بما لا تناله أيديكم.
ويقال: إذا وعدت الرجل نائلاً ثم مطلته به، فقد أوفاك ثمن معروفك عنده. وأنشدونا لدعبل بن علي الخزاعي:
إياك والمطل أن تفارقه، ... فإنه آفة لكل يد
إذا مطلت امرأً بحاجته، ... فامض على مطله ولا تجد
فلست تلقاه شاكراً ليدٍ، ... قد كدها المطل، آخر الأبد
وللفقيمي أيضاً في مثله:
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها، ... ولا تجود يد إلا بما تجد
فلا تعد عدة إلا وفيت بها، ... ولا تكونن مخلافاً لما تعد
ولدعبل أيضاً في مثله:
وأرى النوال يزينه تعجيله، ... والمطل آفة نائل الوهاب
وكان يقال: بذل جاه السائل ثمن معروف المساءل. وقال أكثم بن صيفي: السؤال وإن قل ثمن لكل معروف وإن جل.
أنشدني محمد بن إبراهيم الهمداني لعلي بن ثابت الكاتب:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... بذلاً، ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته، ... رجح السؤال، وخف كل نوال
وقال بعض الحكماء: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بتصغيرك له. أنشدني أبو العباس ثعلب لأبي يعقوب الخريمي:
زاد معروفك عندي عظماً، ... أنه عندك مستور حقير
وتناساه كأن لم تأته، ... وهو عند الناس مشهور كبير
وقال عدي بن حاتم: لا يصلح المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وكتمانه، وتصغيره، لأنك إذا عجلته هنَّيته، وإذا كتمته استهنته، وإذا صغرته عظمته.
وشرح كل ما جاء في ذلك يطول والاختصار أحسن من الإكثار، وقد ذكرت معنى هذا الباب مع ما يلائمه من الأخبار في كتاب لطيف التأليف والاختصار، هو كتاب البث والحث، غنينا بما فيه عن الزيادة، وعن التطويل والإعادة، ونحن نتتبع هذا الباب بما ضمنّاه من

الحث على كتمان السر ليرغب فيه ذوو الأدب والقدرة، إن شاء الله تعالى.














مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید