المنشورات

تعريف الظرف

واعلم أن الظرف ليس بمستغنى عنه، ولا هو مما يخل منه، ولا يعنف فيه صاحبه، ولا يفند عليه طالبه، بل هو أنبل ما استعمله العلماء وصبا إليه الأدباء وتزينوا به عند أودائهم، وتحلوا به عند أخلائهم، وربما تكلفه قوم ليس من أهله فظرف، وعاناه فلطف، وأنه من المطبوعين أحسن منه من المتكلفين، وللمتكلف علامات تظهر في حركاته وتبين في لحظاته، لا يسترها بتصنعه، ولا تتغيب بتستره، وإن المطبوع على الظرف ليشهد له القلب، عند معاينته، بحلاوته، وتسكن النفس عند لقائه إلى مجالسته، وتصبو إلى محادثته، وترتاح إلى مشاهدته، وهو بين في شمائله، ظاهر في خلائقه،بين في منطقه، غير مستتر عند صمته، دلائله واضحة في مشيته وزيه ولفظه، يستدل عليه بظاهر حركة الملاحة دون اختبار باطن الحلاوة، ألا ترى أن من زيهم التقزز، والنظافة، والملاحة واللطافة، وإظهار البزة، وطيب الرائحة، فالنفوس إليهم تائقة، والقلوب وامقة، والعيون رامقة، والأرواح عاشقة.
وإن من زيهم الوقار، والخشوع، والسكون، والخضوع، والتصنع بالأخلاق الوضية، والشيم السنية، والمذاهب الجميلة، والهمم الجليلة. ومما يستدل به على كمال أدبهم، ويعرف به رجحان هممهم، كثرة استعمالهم الهوى، وطول معاناتهم الجوى، وهو من أحسن مذاهبهم، وأجل مناقبهم. ولسنا نقول إن الهوى ليس بفرض على ذوي العقل، كما قال ذو التقصير والجهل، بل هو من أوكد الفرض عليهم، وأثبت الحجة للمتفرس الناظر إليهم على حسن تركيب الطباع والغرائز، وصفاء جواهر الهمم والنحائز، إذ هو عند ذوي العلوم والأحكام من أجمل مذاهب الأدباء والكرام، وقال محمود الوراق في ذلك، إذ كان الحب عنده كذلك:
ألم تعلم، فداك أبي وأمي، ... بأن الحب من شيم الكرام
وليس يخلو أديب من هوى، ولا يعرى من ضنىً، لأن الهوى كما وصفته العلماء، وكما قال فيه الحكماء، إنه هو أول باب تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، وله سورة في القلب يحيا بها اللب، وقد يشجع الجبان، ويسخي البخيل، ويطلق لسان العي، ويقوي حزم العاجز، ليأنس به الجليس، ويمتنع به الأنيس، ويذل له العزيز، ويخضع له المتجبر، ويبرز له كل محتجب، وينقاد له كل ممتنع، وهو أمير مطاع، وقائد متبع، وليس بأديب عندهم من خرج من حدّ الهوى. وقد قال الأحوص بن محمد الأنصاري:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان، وفندا















مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید