المنشورات

حديث الجاحظ عن قتلى الحب

ومن ذلك ما أخبرني أبو العيناء قال: حدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: ذكرت لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب ولده، فلما نظر إليّ استبشع منظري، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وصرفني فخرجت، فلقيت محمد ابن إبراهيم، وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام، فعرض علي الانحدار معه، وقربت حراقته، ودعا بطعامه وشرابه، ونصب ستارته، وأمر بالغناء فاندفعت عوادة له تتغنى:
كل يوم قطيعة وعتاب، ينقضي دهرنا، ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
ثم سكتت، وأمر طنبورية، فغنت:
وارحمتي للعاشقينا ... ما إن أرى لهم معينا
كم يهجرون، ويظلمو ... ن، ويقطعون فيصبرونا
وتراهم مما بهم ... بين البرية خاشعينا
يتجلدون، ويظهرو ... ن تجلداً للشامتينا
قالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، وضربت بيدها على الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فزجت بنفسها إلى الماء. قال: وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مدية، فلما رآها وما صنعت ألقاها من يده، وأتى إلى حيث رمت بنفسها، فنظر إليها وهي تمور بين الماء فأنشأ يقول:
أنت التي غرقتني، ... بعد القضا، لو تعلمينا
وزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصا، ولم يريا. فهال ذلك محمداً، واستفظعه، وقال للجاحظ: يا عمرو لتحدثني بحديث يسكن عني فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما. قال الجاحظ: فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم، وعرضت عليه القصص، فمرّت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يخرج إلي فلانة، يعني جارية من جواريه، حتى تغنيني ثلاث أصوات، فعل. فاغتاظ من ذلك سليمان، وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول برسول آخر، فأمر أن يدخل الرجل إليه، فأدخل؛ فلما مثل الرجل بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالقعود، حتى لم يبق أحد من بني أمية، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، ثم قال له: اختر! قال له: قل لها تغني بقول قيس بن الملوح:
تعلق روحي روحها قبل خلقها ... ومن بعد ما كنا نطاقاً، وفي المهد
فعاش كما عشنا، فأصبح نامياً، ... وليس، وإن متنا، بمنقضب العهد
ولكنه باق على كل حالة، ... وسائرنا في ظلمة القبر واللحد
يكاد فضيض الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد
وإني لمشتاق إلى ريح جيبها، ... كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد
فغنته، فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فشربه، ثم قال: تغني بقول جميل:
علقت الهوى منها وليداً، فلم تزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري بانتظاري نوالها، ... وأبلت بذاك الدهر، وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً؛ ... ولا جبها فيما يبيد يبيد
إذا قلت: ما بي، يا بثينة، قاتلي ... من الحب، قالت: ثابت ويزيد
فتغضب فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فأتي برطل، فشربه، ثم قال: تغني بقول قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام ودها ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى، ... بأحسن حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
فتغنت، فقال له: قل! قال: تأمر لي برطل، فما استتمه حتى وثب إلى أعلى قبة سليمان، ثم زج بنفسه على دماغه، فمات، فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الجاهل ظن أنني أخرج إليه جاريتي، فأردها إلى ملكي!
خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله، إن كان له أهل، وإلا فبيعوها، وتصدقوا بها عنه، فلما انطلقوا بها نظرت إلى حُفرة في دار قد أُعيدت للمَطر، فجذَبت نفسها، وأنشأت تقول:
من مات عِشقاً فَلْتَمُتْ هكذا، ... لا خيرَ في العِشقِ بلا مَوتِ
وزجّت بنفسها في الحُفرة على دماغها، فماتت. فسُرّيُ عن محمد، وأحسنَ صِلةً الجاحظ.















مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید