المنشورات

ما سئل عنه أهل الصدق من تمام خَلاّت العشق

قال الأصمعي لأبي وائل الإضاخي: ما تقول في العشق؟ فقال: إن لم يكن عُصارة من الشجر، فهو ضَرب من الجنون؛ وأنشأ يقول:
بقلبي شيءٌ لستُ أعرف وصفَه، ... على أنه، ما كان، فهو شديد
تمرّ به الأيام تسحب ذيلها، ... فتَبلى به الأيام، وهو جديد
لعَمَري إن بذلك ما وجب لهم الدعاء، فصار مفترضاً على الأدباء كالفرض اللازب، والحقّ الواجب، لجليل الخطب وفادح الأمر.
أخبرني أحمد بن عُبيد قال: أخبرني الأصمعي قال: رأيت أبا السائب المخزومي متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهمّ ارحمِ العاشقين، واعطفْ عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة، يا أرحم الراحمين. فقلت: يا أبا السائب، أفي هذا المقام تقول هذا المقال؟ قال: إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجّةٍ بعمرةٍ. ثم أنشأ يقول:
يا هجر كُفّ عن الهوى، ودع الهوى ... للعاشقين يطيب، يا هجر
ماذا تريد من الذين جفونهم ... قَرحى، وحشو صدورهم جمر
وسوابق العَبرات فوق خدودهم، ... هُطلاً تلوح كأنها القطْر
صرعى على جسر الهوى لشقائهم، ... بنفوسهم يتلاعب الدهر
قال: وخُبّرت عن الأصمعي أيضاً أنه قال: رأيت جاريةً وهي تقول: اللهمّ، مالك يوم القضاء وخالق الأرض والسماء، ارحم أهل الهوى، واستنقذهم من عظيم البلاء، واعطف عليهم قلوب أودّائهم بالصفاء، فإنك سميع النجوى، قريبٌ لمن دعا؛ ثم أنشأت تقول:
يا ربّ! إنك ذو منٍّ ومغفرةٍ، ... بيِّتْ بعافيةٍ منك المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما سهروا، ... حتى يظلوا على الأيدي مكبّينا
فقلت: يا هذه، أتُغنّين وأنت في الطواف؟ فقالت: إليك عني، لا يُهقك الحب! فقلت لها: وما الحب؟ وأنا به أعرف منها. فقالت: جلّ أن يخفى ودقّ عن أن يُرى له كمونٌ ككمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتى عرفت منزلها، فلما كان من الغد جاء مطر شديد، فمررت ببابها، وهي قاعدةٌ مع أتراب لها زُهرٍ، يقلن لها: لقد أضرّ بنا المطر، ولولا ذلك لخرجنا إلى التطواف؛ فأنشأت تقول:
قالوا أضرّ بنا السحاب بقطره، ... لما رأوه لعبرتي يحكي
لا تعجبوا مما ترون، وإنما ... هذا السحاب لرحمتي يبكي
وزعم قومٌ أنه لا ذنب على أهل الهوى ولا وزر، وأن خطاياهم تُمحّص عنهم بطول بلائهم، وكثرة زفراتهم وما لقوا من الشقاء بأودائهم.
وأخبرني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شَبيب عن رجل ذكره قال:
كنت عند مالك بن أنس، فأتاه شابٌّ، فقال: إني قد قلت أبياتاً ذكرتُك فيها، فاسمعها. قال: لا حاجة لي فيها. فقال لي: أحبّ أن تفعل، قال: هات. فقال:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والصِّبي، ... وحب الحِسان المغنجات الفَواركِ
يخبركُمُ أني مصيبٌ، وإنما ... أُسلّي هموم النفس عني بذلك
فهل في محبٍّ يكتم الحب والهوى ... أثامٌ، وهل في ضَمّة المتهالك
فسرّي عن مالك، وقال: إن شاء الله. وكان ظنّ أنه هجاه.
أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن عبد الله بن شَبيب عن شيخ من عاملة قال: مرّ ابن مَرجانة الشاعر بسعيد بن المسيَّب فقال: هذا ابن مَرجانة؟ قالوا: نعم. قال: هذا الذي يقول:
سألتُ سعيد بن المسيَّب مفتي ال ... مدينة: هل في حب دهماء من وِزر
فقال سعيد بن المسيَّب: إنما ... تُلام على ما تستطيع من الأمر
والله ما سأني إنسان عن شيء من هذا، ولو سألني لأجبت.
قال: وسئل شريك بن عبد الله القاضي عن العشّاق، فقال: أشدّهم حباً أعظمهم أجراً.
وأنشدني محمد بن يحيى لمسلم:
فوالله ما أدري، وإني لسائلٌ ... بمكة أهل العلم: هل في الهوى وِزر
وهل في اكتحال العين بالعين ريبةٌ ... إذا ما التقى الإلفان، لا بل به أجر
وأنشدني إبراهيم الأزدي لنفسه:
ما العشق في الأحرار مستنكرٌ، ... وما على العاشق من وِزر
قال وأنشدني الجمّاش:
إذا قبّل الإنسان إنسان يشتهي ... ثناياه لم يأثم، وكان له أجرا
فإن زاد زادَ الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا
وقال سائب راوية كُثيّر: حضرتُ مع كثيّر عند ابن أبي عتيق، فأنشدنا أبيات ابن قيس الرُّقيَّات التي يقول فيها:
خبّروني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قبلةٍ حرج
فقال كُثيّر: لا! إن شاء الله، ونهض.
وأنشدني علي بن العباس بن رومي:
أيها العاشق المعذَّب إصبر، ... فخَطيّات ذي الهوى مغفوره
زفرةٌ في الهوى أحطّ لذنبٍ، ... من غزاةٍ وحجّةٍ مبروره
وقال المؤمَّل، وأحسن، والله، في قوله:
صِفْ للأحبة ما لقِّيتَ من سهرٍ، ... إن الأحبة لا يدرون ما السهر
حسْبُ المحبين في الدنيا عذابهمُ، ... والله لا عذّبتْهم بعدها سَقَرُ
وقال الأصمعي: رأيتُ جاريةً بالطواف وهي تقول:
لن يقبل الله من معشوقةٍ عملاً ... يوماً، وعاشقها حَيرانُ مهجور
وليس يأجرها في قتل عاشقها، ... لكنّ عاشقها لا شكّ مأجور
فقلت: يا جارية! أفي هذا المقام، أما حياء فيردعك؟ فأنشأت تقول:
بيضٌ أوانس ما هممن بريبةٍ، ... كظباء مكة صيدهنّ حرام
يُحسَبْن من لين الكلام زوانياً، ... ويصدّهنّ عن الخَنى الإسلام











مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید