المنشورات

فيمن تعفف في محبته ورعى عقود عهود مودّته

وما وجدنا أحداً من العرب يفعل ذلك، ولا صمد نحوه، وقد كان الواحد منهم يعشق من أول دهره إلى آخره لا يُحاول فِسقاً، ولا يقرب رفثاً، ولم يكن لهم مراد إلا في النظر، ولا حظّ في غير الاجتماع والمؤانسة، والحديث والشعر، كما قال الفرزدق:
وجدتُ الحب لا يشفيه إلاّ ... لقاءٌ يقتل الغُللَ النِّهالا
أُحبّ من النساء، وهنّ شتّى، ... حديث النزْر، والحدقَ الكِلالا
موانعُ للحرام بغير فُحشٍ، ... وتبذل ما يكون لها حلالا
وكان الواحد منهم إذا تعلّق خلّةً لم يفارقها حتى الممات، ولم يشغل قلبه بغيرها، ولم يهمّ بالسلوّ عنها، وقَصَر طرفه عمّن سِواها، وكذلك هي أيضاً كانت له بتلك المنزلة، فأيّهما هلك قبل صاحبه قتلّ الآخرُ نفسه في أثره، أو عاش حافظاً لودّه قائماً بعهده، لا ينسى ذكره، ولا يصل غيره، فاستحسن الناس الملّل والاستبدال، والغدر والانتقال، وصار أشدّهم ظَرْفاً، وأحسنهم يتعشّق السنين الكثيرة، والدهور الطويلة، ويتوهّم بفعله أنه عاشقٌ، فإذا فقد حبيبه يوماً واحداً، استبدل به سواه، ويُنشدن في ذلك:
افخر بآخر من بُليتَ بحبّه، ... لا خر في حب الحبيب الأول
أتشُكّ في أن النبي محمداَ ... ساد البريّة، وهو آخر مُرسَلِ
وأنا أبرأ إلى الله أن يكون هذا من شعرِ ظريفٍ أو من فعل حَصيفٍ، ولكن قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:
البين جرّعني نقيعَ الحَنظَل، ... والبينُ أثكلني، وإن لم أثكل
ما حسرتي أن كِدتُ أقضي، إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعلِ
نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى، ... ما الحب إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، ... وحنينه أبداً لأوّل منزل
على أنه ليس التنقّل من حبيب أول إلى حبيب ثانٍ بحسن، وإنما الحب ما أقام عليه القلب، فلم يجد التخلّص منه إلى غيره كما قال جرير:
أخالدَ! قد هويتُكِ بعد هندٍ، ... فشيّبني الخوالدُ والهنودُ
هوىً بتهامةٍ، وهوىً بنجدٍ، ... فتُبْليني التهائم والنُّجودُ
ولا كقوله أيضاً:
أحبّ ثرى نجدٍ، وبالغَور حاجةٌ، ... فغار الهوى، يا عبد قيسٍ، وأنجدا
ولا كقول الآخر:
إني سأُبدي الحب فيما أُبدي ... لي شَجَنانِ: شَجَنٌ بنجدِ
وشجنٌ لي ببلاد الهِندِ ...
ولا كقول الآخر:
هوىً بالغَور لي، وهوىً بنجدٍ، ... فما أدري أأنجِدُ أم أغورُ
بكُلّ حاجةٌ، وهوىً مقيمٌ ... بقلبك قد تَضَمّنه الضمير
بشرقيّ العراق، بباب عمروٍ، ... وبالغَورين زينبَ والقدور
هذا والله من ألفاظ الشعر أسمجُ جداّ، وقد كذب هؤلاء، وادّعوا وجداً، وهل يجتمع وَجدان في موضع؟ ولكن قد أحسن جميلٌ حيث يقول:
وقلتُ لنسوانٍ تعرّضْن دونها: ... إليكنّ إني غيركُنّ أُريد
وحيث قال أيضاً:
وكم من بديلٍ قد وجدنا وطُرفةٍ، ... فتأبى عليّ النفسُ تلك الطرائفا
فهذا هو الصادق الهوى الخالص الوفاء، لا جرير وصاحبه، ولا الذي يقول:
أرى ذا، فأهواه، وأُبصرُ غيره، ... فأترك ذا ثم استبدُّ بذا عِشقا
ثمانون لي في كل يومٍ أحبّهم، ... وما في فؤادي واحدٌ منهم يبقى
فقبّح الله هذا اللفظ لفضاً، ولا أعطيَ قائله حظّاً، فليس من شعر وامقٍ، بل هو من فعل مُماذق، ولا والله ما التنقّل من شأن الأدباء، ولا الاستبدال من فِعلِ الظرفاء، وإنما الهوى ما حسُن سريرته، وهيهات ذوو الوداد الخالص، والصفاء الدائم، والحب اللازم، ودود الحفاظ، ورعاة العهود، والمتمسكون بالوفاء، والراغبون في صحيح الإخاء إليك. فقد تنقّضت وثائق الحب، وانفصمت عُرى الهوى، وتقطّعت أسباب العشق، وتكدّر صافي المودّة، والناس كما قال الشاعر:
قلّ الثقاتُ، فما أدري ثمن أثق، ... لم يبقَ في الناس إلا الزور والملَقُ















مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید