المنشورات

صفة ذم القيان ونفوذ حيلتهن في الفتيان

اعلم أنه لم يُبتلَ أحدٌ من أهل المروءات والأدب، وأهل التظرُّف والأرَب، ولا امتُحن سَراة الفتيان ببليّة هي أعظم من هوى القيان، لأن حبهن جب كذوبٌ، وعشقهن عشق مشوب، وهواهنّ منسوبٌ إلى الملل، ليس بثابتٍ ولا متّصلٍ، وإنما هو لطمعٍ وعرَضٍ، وهنّ سريعات الغرض، يُستدلّ على ذلك بأفعالهن الردية، وأخلاقهن السيئة، وأنهن لن يقصدن إلا أهل النشث، ويُصدُفن عن ذوي الحسب، وأن محبّتهن تظهر ما ظهرت علامات اليسار والمال، وتنتقل عند الإفلاس والإقلال. وليس إظهارهن للمحبة مما ينعقد عليه منهن ذوو الآداب، ولا بما ينخدع به لهن ذوو الألباب. وكل ذلك منهن غرورٌ، وخداع وزور، ولا مرجع له ولا محصول، وإنما أمرهنّ عند ذوي الجهالة مجهول. وما رأيت لكثيرٍ من الأدباء الذين سلكوا سبيل التشبيث بالنساء، رغبةً في تعشُّق الإماء، وقد أنشدني بعض الظرفاء:
ليس عشقُ الإماء من شكل مثلي، ... إنما يعشق الإماء العبيدُ
صِلْ، إذا ما وصلتَ، حُرّة قوم، ... قد حماها آباؤها والجدود
ومن أدلّ الأشياء على خُبث سرائر الإماء أن الواحدة منهن، إذا رأت في مجلس فتىً له غنىً وكثرة مال، ويسار وحسن حال، مالت إليه لتخدعه، وأقبلت عليه لتصرعه، ومنحته نظرها، وأبدته بصرها، وغمزتْه بطَرْفها، وأشارت إليه بكفها، وغنّت على كاساته، ومالت إلى مَرضاته، وشربت من فَضلة كأسه، وأومأت إلى تقبيل رأسه، حتى تُوقِع المسكين في حبالها، وترهقه باحتيالها، وتُعلّق قلبه بحبها، وتُطعمه من قربها، وتحويه بلطف تملُّقها، وتستبيه ببديع تقنُّعها، وبالمكر والخداع، وتطلُّبها للاجتماع، وتباكيها لفرقته، وتحازنها عند روحته، ثم ترسل بالرسل، وتُعاديه بالخَتل، وتخبره عن سهرها، وتُنبئه عن فكرها، وتشكو إليه القلق وتُخبره بالأرق،وتبعث إليه بخاتمها، وفضلةٍ من شعرها، وقُلامةٍ من ظفرها، وشظيّة من مِضرابها، وقطعةٍ من مِسواكها، ولُبانٍ قد جعلته عوضاً من قُبلتها، ومُضغةٍ لتخبره عن نكهتها، وكتابٍ قد نمّقته بظَرفها، وطيّبته بكفها، وسَحته بوترٍ من عودها، ونقّطت عليه قطراتٍ من دمعها، وختمته بغاليةٍ قد عُدّل بالعنبر متنها، واستمسك تحت الخاتم عجنها، وطبعت عليه بفَصّ قد نقشت عليه مداعبتها، وتمثّلت عليه ببعض مَجانتها، وضمّنت الكتاب شكوى شوق مريضٍ، وصفة شوق ممرِّض، تسأله المؤاتاة على حبها، والإعانة على كربها، وأن يبعث يطلب زيارتها، لتقرّ بالنظر إليه عينها، وينفرج عنها حزنها، فيُطمع الغمز في قربها، ولا يشَّ في الكلام في إخلاص حبها، فيميل إليها بودّه، وتُصفيه بمكنون حبه، حتى إذا حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبّه، وسلبت قلبه، واستمكنت من قربه، ووثقت بصحيح حبه، وعلمت أنه غريقٌ في بحر البلية، أخذت في طلب الهدايا السرية، وتشهّت الثياب العَدَنية، والأزر النيسابورية، والأشقاق الأنجاجية، والأردية الرشيدية، والعمائم السوسية، والشكك الإبريسمية، والخفاف الرُّنانية، والنعال الكَنباتية، والحلق المحشوية، والعصائب المرصّعة، والدَّستينجات المفصّلة، وخواتيم الياقوت المُثمِنة، وتمارضت من غير سقم، وشكت من غير ألم، وفُصدت من غير علة وداء، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء، لتجيشها هدايا ذوي الوَجد، في المرض والفصد، من القُمُص المعنبَرة، والغلائل الممسَّكة، والأردية المرشوشة، واللخالخ المعجونة، ومخانق الكافور المنظومة، ومراسل القرنفل المخمّر، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والنَّدّ الخَزائني، والماورد الجوري، والحُملان الحَوْلية، والجداء الرُّضَّع، والبطّ الصيني، والفراريج الكسكرية، والدجاج الفائق، والفراخ المسمَّنة، والنبانيج المنضَّدة بأنواع الرياحين والفاكهة، يتبعها صنوفٌ من الشراب المعسَّل، والدوشاب المطبوخ والمشمَّس، ونبيذ السكر والقِشمِش، ثم الدنانير الجُدد الشهرية، والدراهم المسيَّفة الداريّة، في خرائط الديباج الإبريسَمية، ومناديل الوشي الأنجمية.
فلا تزال في هدايا متواترة وألطاف متتابعة، وفي خلال ذلك العيدان العَرْعر الموزونة، والمضار بالمدهونة، والأوتار الصينية، حتى إذا نفذ اليسار، وذهب الإكثار، وأُتلف المال، وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس، وتفريغ الأكياس، أظهرت الملل، وأعلنت البدل، وتبرّمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وطلبت عليه العلل، وتفقدت من الزلل، وتتبّعت عليه سقطاته، وتيمّمت عثراته، وأخذت في الجَفاء والعِتاب، والقِلى، والإبعاد، وصرفت عنها هواه، ومالت إلى سواه، ونفرت بعد القرب، وأبغضته بعد الحب، فحينئذ يُدرك المغرور الندم، ويلحقه الأسف، حين لا تغني عنه الحيلة ولا يُجدي عليه اللهف، ويقع بيت ليت ولو وهيهات ولات حين مَناص، ولا يقدر على استئناف ما سلف من الأيام بعد الإشراف على ورود حياضِ الحِمام، وقد أنشدني بعض الأدباء لبعض المحدثين:
صحوتُ فأبصرت الغَواية من رُشدي، ... وأيقنتُ أني كنت جُرْتُ عن القَصدِ 
فلا يعشقَنْ من كان يعشق قينةً، ... فما هو منها في سعيدٍ ولا سعدِ
تودُّك ما دامت هداياك جمّةً، ... وترفدك عِشقاً ما غَنيتَ أخا رفدِ
إذا ما رأت في مجلسٍ من تخاله ... غنيّاً، حَبَتْه بالتحية والودّ
وغَنّت على أقداحه كل ما اشتهى، ... وقالت له: ما تريد أنا أفدي
وتومي إليه اشربِ الرطلَ واسقني، ... فقد حُزتَ قلبي واشتملتَ على وُدّي
فيمتلئ المغرور، عند مَقالها، ... سروراً يرى أن المقال على جدّ
فإن جاء وقت الانصراف تحازنت ... لفُرقته، حتى يقوم على وعْدِ
ويغدو إليه في الفراش رسولها ... تُسائله: ما كان حالُك من بعدي
ويا ليت شعري كيف بتَّ فإنني ... رعيتُ نجوم الليل كفّي على خدّي
فلا يجد المغرور من دفعِ جُدْرها ... سروراً بتعجيل الزيارة من بُدّ
وتُسرع في إتيانه ليظنّها ... حَبَته بتعجيل المجيء على عَمدِ
فإن هي جاءت عانقته، وقبّلت ... يديه، وأبدت فرحةً قلّ ما تُجدي
وتخدمه عمداً، فإن قال: إنه ... ليحزُنُني أن تصنعي هكذا عندي
تقول له: ذا البيت بيتي، وإنما ... أُؤمِّل أنْ يبتاعني سيدي وحدي
فتصبيحَ عيني بالوِصال قريرةً ... وآمنَ من سَومِ التفرّق والبُعدِ
فذا دأبها، حتى يعود من الهوى ... سقيمَ فؤادٍ ما يُعيد ولا يُبدي
فتُفصد لا مِنْ حاجةٍ لفِصادها، ... ولكن لتكليف الهديّة في الفَصد
فمن بين خَلخالٍ يُصاغ وخاتمٍ، ... ومن دُمْلُج يُهدى على أثر العِقدِ
ومن ثوبٍ خزٍّ بعد وشيٍ ومُلْحَمٍ، ... ومن مُصْمتٍ يُشرى على أثر البُرد
ويا لك من مِسكِ ذكيٍّ وعَنبرٍ، ... وعودٍ، وكافورٍ نقيٍّ، ومن نَدّ
فذا فعلها، حتى إذا عاد مُفلساً ... تجنّت، وأبدت جانب الهجر والصَّدّ
فقولا لمن يخوى القيان تفهّموا ... مقالي، فإني قد نصحتُ لكم جَهدي
وأنشدني بعض المحدثين لنفسه:
يا صاح إن القِيان للغَمَر ال ... غِرّ شباكٌ يَصدنَ بالمَلَقِ
يهوين هذا، ويشتكين لذا ... وجداً ويرمقن ذاك بالحَدَقِ
حتى إذا ما اقتنصْن ذا حُمقٍ، ... مستهتراً واستمال للوَمَق
نفضْنه، واستلخْنَ جِلدته ... سلخاً بطيب الدلال والفَنَق
وصار كالآس في غَضارته ... صِفراً، بلا طارفٍ من الوَرَق
ناولنه المِسحَ ثم قُلن له: ... جئنا به في البياض كاليَقَقِ
وأنشدني بعض الكتّاب لفضل الشاعرة:
يا حَسَن الوجه، سيِّء الأدب، ... شِبتَ، وأنت الغلام باللعب
يا ويك إن القيان كالشَّرك ال ... منصوب بين الغُرور والعَطَب
لا يتصدّين للفقير، ولا ... يَرمقن إلا معادن الذهب
يلحظن هذا وذا وذاك وذا، ... لحظَ محبٍّ بطَرف مكتسِبِ
بينا تشكّى إليك، إذا خرجت ... من زَفَرات الشكوى إلى الطَّلَب
وأنشدني أحمد بن غزال لنفسه:
إذا تعرّضتَ للقيان، ... فمثّل الفقْرَ بالعِيان
واعزم على فلسةٍ أسافاً، ... امض من طعنة السنان
كم من تُراثٍ ومن تليدٍ ... وطارفٍ وادّخار تانِ
أتلفه مُتلِفٌ عليهم، ... بالجَذر والبذل والتواني
ما زال يصبو إلى خَلوبٍ، ... تغنى به فوق كل غانِ
اتخذَته عشيق مالٍ، ... أضحت تهاواه باللسان
حتى إذا اختلّ ثمّ حسّت ... بفقد فِعلاته الحِسان
غنّته صوتاً لها عتيداً، ... مُصرِّحاً ليس بالمعاني
قد نَفِذ الكيسُ، فاسلُ عني، ... واشتقْ، إذا اشتقتَ، بالأماني
وأنشدني أيضاً:
ومُسمِعةٍ غنّت، فمِلتُ بمهجتي ... إليها لألهو، والمُزاج بسيطُ
فقالت: على اسم الله ثِقْ بمودّتي ... وصافِ كما صافى الخليط خليط
فأعرضتُ عنها وانقبضتُ كأنما ... عَلَتني لديها نَعسةٌ وغَطيط
فقالت، وقد أخجلتها لتغرّني ... ورقة فهمي بالقيان محيط:
أراكَ نشيطاً للسماع تحبه، ... ولستَ إلى غير السماع نشيطُ
فقلت: تُراني، ويكَ، أعشق قينةً ... لها كل يومٍ صاحبٌ ورَبيطُ
إذا خرجَت من مجلسٍ، وتبدّلت ... سواه بديلاً أوّلون نَبيطُ
وإن ذُكروا قالت ومن كان حائكٌ، ... وأخر منكود المعاشِ يَخيطُ
لعمركِ ما تهوين إلا دراهماً، ... ومن دونها حَزْمٌ عليّ سَليطُ
وإني، ورب البيت، والله راحم، ... أفكّر فيه هل هواه قميط
بعيني لينجُ قبل يَنفُضَ ريشه، ... وقبل يراه الناس، وهو سقيطُ
هو أنا هوىً يزوي عن المرء نِعمةً، ... ويَترك ربَّ القوم وهو حَطيط
فيعشقنا من في يديه بضاعةٌ، ... سفيفٌ، إذا بان الرجا، وشَريطُ
وقال أيضاً في قصيدة له:
حتى إذا صارت ولّت الدراهم غنّت ... هـ وقد أزمعتْ على الانقطاع
أُسلُ عني، فلستُ أصلح للضي ... ق، ولا يَحسُنُ الهوى بالجِياعِ
عندنا يأكُلُ المفرِّط كفّي ... هـ ويأوي إلى أخسّ البِقاع
وأنشد للحَكَمي في مثل ذلك:
قولا لمن يعشقه قينةٌ ... يستفّ حُزناً قبل إفلاسه
فقد ثوى في كفّها نيّةٌ ... مُسرعةٌ في قَلع أضراسه
تواصلُ العاشقَ، حتى إذا ... ما أخذ العشق بأنفاسه
ولّت بغدرٍ، وقُرونُ الفتى ... تهتزّ بالكَشْخِ على رأسه
ومن أحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر:
ما للأحبة في التخشُّع عارُ، ... فاخشع وإن حافوا عليك وجاروا
سقياً ورعياً للذين تحمّلوا، ... ونأوا، وما شُدّت لهم أكوار
لكنّهم غدروا بعهدك في الهوى، ... وأخو القَطيعة جائرٌ غدّارُ
ما إن يُلبوا إن جَفوكَ وعرَجوا ... نحو المدينة أوطنوا، أو ساروا
لا بل أشدهما عليك مصيبةً ... أنْ يفعلوا بك إذ هُمُ حُضّار
لا تعتبنّ على القيان، ولا على ... زهو القيان، فإنهن تجار
قدّمْ لهنّ مَلاهياً ومَضارباً، ... ومَلاوياً يحظى بها الزُّوّار
إن كنتَ صاحب لُطفةٍ وهديةٍ، ... فلك الهوى منهنّ والإيثار
أو كنت صاحب كيف أنت؟ ومرحباً! ... فارحل فعيشُك عندهنّ بَوار
لا بدّ من شيءٍ، وإلا لم يكن ... لك ثم إقبالٌ، ولا إدبار
لو كنتَ يوسُفَ في الجمال، فإنه ... ما مثله في حُسنه ديّارُ
ثم امتنعتَ من الهديّة أنكروا ... منك الذي لا يُنكر الأحرارُ
عندي من الفتيات خبُرٌ بَيّنٌ، ... ومن الهديّة مُسنَدٌ آثار
زار ابنُ أحمر ذات يومٍ قَينةً، ... في فتيةٍ لهمْ ندىً ووقار
حتى إذا غنّتهمُ وسقتْهُمُ، ... وتجاوبت في كفّها الأوتارُ
قالت لأولهم: أما لك ضيعةٌ؟ ... فأجابها: إني فتىً سمسارُ
قالت: فأهد لنا إزاراً معلَماً، ... فأبو فلانٍ ما عليه إزار
ثم انثنت لسؤال آخر منهمُ: ... أصدق! فقال مجيبها: عطّارُ
قالت: فليس يهمُّنا ما زرتنا ... أدهاننا والقِسط والأظفار
وإذا ابن أحمر قد أعدّ جوابها ... حذر السؤال كأنه قَسطار
ثم انثنت لسؤاله، فأجابها: ... لا سوق لي، لكنّني حفّار
فإذا هممْتَ بحفر قبرك، فابعثي ... بقُضيِّبٍ كي أعرف المقدار
فتلجلجَتَ خجلاً، وطاطت رأسها، ... وأصابها عند الجواب حصار
وكذا القيان، ولا أقول جماعةً، ... فالناس في أخلاقهم أطوار
ولابن أحمر أيضاً:
عذّبني ذو الجلال بالنار، ... إن هام قلبي بذات أُسوارِ
ولا تعشّقت قينةً أبداً، ... حتى تراني رهين أحجار
كم من غنيٍّ تركْنَ ذا عَدَمٍ ... أورثته الذلّ بعد إكثار
سلبن منه الفؤاد بالنظر ال ... رطب، وغنجٍ وغمزِ أبصار
وبالتشاجي أتْلَفن مهجته، ... وحُسنِ لحنٍ وقرع أوتارِ
حتى إذا ما مضت دراهمه ... وصار ذا فكرةٍ وتسهار
ناولنه المسح ثم قُلن له: ... بيِّضه بالنهر بشّارِ
فلا تغُرنّك قينةٌ أبداً، ... ودعْ وِصال القيان في التار
فليس في الغدر عندهنّ إذا ... هوين أو شئن ذاك من عارِ
وأحسن ابنُ الجهيم حيث يقول:
فأطلق يداً في بيته بتفضُّلِ، ... وعَدِّ عن المولى، وما شئت فافعلِ
أشِر بيدٍ واغمز بطرفٍ ولا تَخَفْ ... رقيباً، إذا ما كنت غير مبخَّلِ
وولّ عن المصباح، والحَ، وذمّهُ، ... فإن خمد المصباح، فادنُ وقبِّلِ
وسل غير ممنوعٍ وقلْ غير مسكَتٍ، ... ونم غير مذعورٍ وقُم غير معجَلِ
لك البيت ما دامت هداياك جمَّةً، ... وكنتَ مليّاً بالشراب المعسَّل
تُصان لك الأبصار عن كل نظرةٍ، ... ويُصغى إليكم بالحديث المقاقَلِ
واعلم أنه لا وفاء لهن، ولا حفاظ عندهن، ولا يدُ من على ودّ، ولا يفينَ لعاشقٍ بعهد، وهواهن مشتركٌ، وحبهن مقتسَمُ. وقد أنشدني بعض الأدباء:
استخبرا زينبَ عن قولها ... في رجلٍ يعبُدُ ربّيْنِ
أذاك منه حسنٌ جائزٌ، ... أم ليس يرضى الله دينين
حسبك يا زينبُ من هُجنةٍ، ... يُستزرق الدهر على اسمين
فلا تُريدي جمع هذا وذا، ... فالغمد لا يجمع سيفين
وأنشدي الأمر إلى واحدٍ، ... ولا تكوني ذات بعلين
لا يحمل المنبر ردفاً، ولا ... يصلح مِلكاً بين اثنين
وعادة السوء، إذا استحكمت ... على امرئٍ شرٌّ من الدين
لستُ، وإن كان الهوى غالبي، ... أقنعُ بالشين على الشين
يحلُبُ غيري، وأكون الذي ... يرضى من العَنز بقرنين
وأحسن أبو ذؤيب حيث يقول:
تريدين كيما تجمعيني وخالداً، ... وهل يُجمع السيفان ويحك في غمد
وكنتِ كرقراق السراب، إذا جرى ... بقومٍ، وقد بات المَطيُّ بهم تخذي
وقال آخر:
ألا يا عاشق القينات جهلاً، ... أردتَ بأنْ تكون أبا البُغولِ
أترضى للهوى من ليس يرضى، ... على ضيق الهوى، ألْفيْ خليلِ؟
ولي سهوى القيان بمحمودٍ عندي، ولا عند ذوي الأدب، وأهل النُّهى والأرَب، ولا لأكثرهم ميلٌ إليه، ولا حرصٌ عليه، وإن كان قد أنشدني صديقٌ لي قوله فيهن:
زعموا خلّة القِيان غُرورُ، ... كلُّ زعمٍ من المقالة زورُ
قسماً لَلْقيانُ بالعهد أوفى ... من جوارٍ تضُمّهنّ الخُدور
إنما زخرف المفاليس هذا ... حين قلّت صحاحُهمْ والكسور
أهل هذا الزمان أطرى من الآ ... س، وكلُّ مموَّهٌ، مستورُ
واحتجّ في ذلك بأنّ هوى القيان، على ما فيهن من العيوب، أسرع إلى النفوس، وأوقع في القلوب، وأعْلَقُ بالأرواح، وأخلقُ للنجاح، وهن أقرب أملاً، وأقلّ عللاً، والظفر بهنّ أسرع من الظفر بربّات الخدور، والمحتجبات وراء الستور، وأنهن مزوراتٌ، وأولئك معدومات،وزعم من طلب القينة الجَدْوَ لمولاها من عشقها وكثرة مؤونتها عليه، وطلبها لِما لديه ومسألتها الهدايا، واللُّطَفَ، والبرّ، والتحف، إنما هو من رغبتها في هواه، وميلها إلى رضاه، ولأنها تؤثره على العالمين، وتشتهي قربه دون سائر المحبين، لأنه إذا وافى جدوها من عند عشيقها مع تتابع ألطافه، وكثرة برّه وإسلافه، رغب المولى في صفائه، وطمع في استصفائه، فأخْلاها معه الأيام الكثيرة، والليالي المتتابعة؛ فهذه جملةٌ من القيان لمن عشق، ورغبةٌ فيمن ومَقَ، وليس ذاك عندنا كذلك، وإنما هي حيلة ممن احتجّ لهنّ بالوفاء، وهم معروفاتٌ بالغدر والجفاء، ولو كان ذلك كما زعموا، لم تتغير له عند اختلاله ولا قلَتْه عند إقلاله، بل كان يكون منها عند ذلك الإسعاف على هواه، والمؤاساة في نفسها في الحياة، ولكن هو كما قال المؤمَّل بن أميل:
والغانيات كذاك هن غوادرٌ ... أبداً، حبالُ وصالهنّ تُجذَّمُ
يخلبن بالنظر الفتى، ويَعِدنه ... نيلاً، ودون عداتهنّ الأنجمُ
وكما قال بشار بن بُرد:
فوالله ما أدري، وكلٌّ مصيبةٌ، ... بأي مكيداتِ النساء أكاد
غُرور مواعيدٍ كأنّ جَداءها ... جَدى بارقاتٍ مُزْنُهنّ جَمادُ
ومع ذلك، فلا نفاق للشيوخ عندهن، ولا لذوي القبح والعُدْم مطمع لديهن، على أنهن يحتملن القبح والشيب مع اليَسار، ويكرهنهما مع الفقر والإقتار، فإذا اجتمع القبح والشيب مع الإفلاس في أي إنسان كان من الناس، فليس عندهن مطلب، ولا لديهن سببٌ، ولذلك قال العَطَوي:
تاهت عليّ بحُسنها وجمالها ... وتقول لي: يا شيخ أنت مخادِعُ
شيخٌ، وإفلاسٌ، وقُبحٌ ظاهرٌ، ... أطمعتَ فينا؟ أخْلفَتْكَ مطامعُ
فأجبتها: الإفلاس يُذهبه الغِنى ... والشيب يُذهبه الخِضاب الناصع
قالت: فقبحُ الوجه فيه حيلةٌ؟ ... والقُبح ليس له دواءٌ نافعُ
يا صِدقها ما كان أوضح حُجّتي، ... لو كان يَدفع قُبحَ وجهي دافعُ
وقال بعض الأعراب:
طويلاتُ أعناقٍ، سِباطٌ أكفُّها، ... رقيقاتُ أوساطٍ نِبال المآكمِ
تأزّرْنَ رَملاً، وارتدين بحُلّةٍ ... من الروض، ريّا زهرها جِدُّ ناعمِ
وتَصرِفُ وُدّي نحوهن صبابةٌ، ... ويصرِفن عنّي الوجه نحو الدراهم
ومثل ذلك ما رُوي عن نُصَيب أنه قال: لَقيتني بالطواف امرأةٌ دَحْداحة، مزّاحة، فقالت: أأنت نُصَيب؟ فقلت: نعم! قالت: ألستَ القائل:
إذا البيضُ لا يأتين في الحبّ رقةً، ... يُعابُ، ولا يأخُذنَ في الودّ درهما
وإذاْ هنّ يُدنين الكريم بوُدّه ... لهنّ، ويرفُضْن الدقيق الملَوَّما
قالت: لا أراك تكتب إلاّ درهمك فاغضض ببَظْر أمّك! من أين تمتشِط إحدانا إذن؟ وأنشدني بعض الأدباء:
وإذا قلتُ لها: جُودي لمن ... قد براه الحب، قالت لي: أجلْ
أنت صرّافٌ، فآتيك له، ... أم بكفّيك نقودٌ تُحتملْ
قلت: ما تهوين إلا موسِراً، ... ذا هِباتٍ وعطاءٍ وحُلَلْ
فأجابتني بصوت مسمَعٍ: ... كُفّ عنا! أنت، والله، مُقِلّ
أيها الناس! ألا أخبركم؟ ... ليس للحب مع الفقر عملْ
ولقد أحسن أبو الشيص حيث يقول:
حسَرَ المَشيبُ قِناعه عن رأسه ... فرمينه بالصدّ والإعراضِ
ثِنتانِ لا تصبو النساء إليهما: ... حَلْيُ المشيب وحُلّةُ الإنفاضِ
فوعودهنّ، إذا وعدنك، باطلٌ، ... وبُروقهنّ كَواذِبُ الإيماضِ
وروى عمر بن شبة عن موسى بن إسماعيل المِنقري قال: كان المُخَبَّل السعدي يعشق امرأةٌ من قومه، فأتلف عليها كلّ ما يملكه، حتى صار يبيع البَعر، فأتاها يوماً، فزبرته وطردته، فانصرف وأنشأ يقول:
إذا قلّ مالُ المرء قلّ صديقه، ... وأومَت إليه بالعيوب الأصابعُ
وقال الأصمعي: عشق رجلٌ امرأة، وأظهرت له مثل ذلك، فبعثت إليه يوماً تستهديه مالاً، فتعذّر عليه، ووجّه بنصف ما طلبت، فغضبت وهجرته، فكتب إليه:
يا أيها الغضبان أن سامني ... ما مثله ثِقلٌ على الموسِرِ
فجّدتُ بالنصف له كاملاً، ... فقال ليس الحب للمقتِرِ
هبني غريماً لك يا مُنيتي، ... ما يُقبل النص من المُعسِرِ
فكتبت إليه:
إن كنتَ في حالك ذا عُسرةٍ، ... فدع طِلاب الشادن الأحور
ما إن منحناك الذي نلته، ... دون ذوي البهجة من معْشَرِ
إلا لتقضي حاجتي كلّها ... في حال ذي العُسرة واليُسُرِ
وقال الأخطل يصف نفورهن عن المشيب، وغدرهن بالكهول والشيب:
وإذا دعونك عمّهُنّ، فإنه ... نَسَبٌ يزيدك عندهنّ خَبالا
وإذا وعدنك نائلاً أخلفْنَه، ... ووجدْتَ عند عِداتهمّ مِطالا
وقال القَطامي أيضاً:
وإذا دعونك عمّهنّ فلا تُجب، ... فهناك لا يجد الصفاء مكانا
وإذا رأين من الشباب لُدونةً، ... فعسى حبالك أن تكون مِتانا
وقال جرير:
رأت مرّ السنين أخذن مني، ... كما أخذ السِّرارُ من الهلال
فقالت: فيم أنت من التصابي، ... متى عهدُ التشوُّق والدلالِ
فما ترجو، وليس هوى الغواني ... لأصحاب التنحنح والسُّعال
وقال أيضاً:
وإذا الشيوخ تعرّضوا لمودّة، ... قلن: التراب لكلّ شيخٍ أدْرَدا
تلقى الفتاة من الشيوخ بليّةً، ... إن البليّة كلّ شيخٍ أرْمدا
وقال امرؤ القيس:
أراهنّ لا يُحببن من قلّ ماله، ... ولا مَن رأين الشيب فيه وقوّسا
وأنشدني بعض الكتّاب لأبي الشبل:
عذيري من جَواري الح ... يّ، إذ يرغبن عن وصلي
رأين الشيب قد ألب ... سني أبّهةَ الكهلِ
فأعرضن، وقد كنّ، ... إذا قيل: أبو الشبل
تساعين، فرقّعن ال ... كُوى بالأعين النُّجلِ
وأنشدتُ لغيره:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي، ... فأعرضْن عني بالخدود النواضِرِ
وكنّ إذا أبصرتني أو سمعن بي ... سعين، فرقّعن الكُوى بالمَحاجِرِ
وهن على ما فيهن من سُرعة الملل، وما طُبعن عليه من البدل، متمكّناتٌ من القلوب، مُبَرَّآتٌ عند محبّتهن من العيوب.
وإن من محمود مذاهب الظرفاء الميل إلى مغازلة النساء ومداعبة القينات، وحبّ النساء عندهم من حسن الاختيار، وهو أشبه بمذاهب ذوي الأخطار، وليس هوى الغِلمان عندهم بمحمودٍ، ولا هو في سيرهم موجود، وإنما آثروا هوى النساء على الغلمان، ومدحوهن بكل لسان، لمليح براعتهنّ، وتكامُل مَلاحتهن،وعجيب شكْلهن، وبديع دلّهنّ، وفيهنّ أيضاً خِصالٌ محمودةٌ، ومَلاحة موجودة، إن عُدمت من الجمال وُجدت في العقل، وإن عُدمت من العقل وُجدت في الدلال، وروائحهن أذكى، وهواهن للقلوب أنكى، والعشق بهن أليق، وهنّ للرجال أوفق، وقد قال بعض الشعراء في ذلك وملُح:
أحب النساء وذكْر النساء، ... ويُعجِبُ قلبي لذيذ الغناء
وهل لَذّة العيش إلا النساء، ... وحسن الغناء، وشُربُ الطلاء
وقال الفرزدق:
منع الحياة من الرجال وطيبها ... حَدَقٌ يُقلّبها النساء مِراضُ
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حَدَقَ النساء لنَبلها أغراضُ
وقال دِعبِلُ بن علي الخُزاعي:
أَحَبُّ ذخيرةٍ، وأحبُّ عِلقٍ ... إليّ الغانيات، وإن غنينا
وكلّ بُكاء ربعٍ، أو مَشيبٍ ... نُبَكّيه، فهنّ به عُنينا
وقال بعض الأدباء:
فلو أني رأيتُ الناس يوماً، ... ووُليبتُ الحكومة والخِصاما
لقرّت عين من يهوى الجَواري، ... وعاقبتُ الذي يهوى الغُلاما
سألتمَ أيُّما أحلى حديثاً، ... وأطيب، حين تعشَقه التزاما
أجاريةٌ منعَّمةٌ رَداحٌ، ... تزيدك للغرام بها غراما
أو امردُ منتن الإبطين منه، ... له رمحٌ كرمحك حين قاما
يُريدك للدراهم لا لحبٍّ، ... وتلك تذوب من كلفٍ سَقاما
وأنشدني علي بن العباس الرومي لنفسه:
نيكك الغِلمان ما أم ... كنك النسوان أفْنُ
إنما يُمشَقُ في الظه ... ر، إذا ما أعوز بطنُ
وما رأينا أحداً من العرب المتقدّمين والشعراء المفضَّلين صمّدوا في أشعارهم إلى غير ذكر النساء ولا صدّروا قصائدهم إلا بالتشبيب بوصف النساء، هذا حسّان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:
يال قومٍ! هل يَقتل المرءَ مثلي، ... واهنُ البطش والعِظامِ، سؤومُ
همُّها العطر والفِراش، ويعلو ... ها لُجينٌ، ولؤلؤٌ منظوم
لو يدبّ الحوليُّ من ولد الذَّ ... رّ عليها لأندبتها الكُلوم
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينصب له مِنبراً في مسجده، ويدعو الناس إلى استماع شعره، وهو يشبّب في قصائده بهذا وما أشبهه من ذكر النساء، وهذا كعب بن زهير ينشد النبي، صلى الله عليه وسلم، في مسجده:
بانت سعاد، وقلبي اليوم مَتبولُ، ... مُتيَّمٌ عندها لا يُفدَ مغلولُ
أكرمْ بها خُلّةً لو أنها صدقت ... موعودها ولو أن النُّصح مقبول
ويمدح النبي، صلى الله عليه وسلم، في قصيدته هذه، فيقول فيها:
إن الرسول لَنورٌ يُستضاء به، ... وصارمٌ من سيوف الله مسلول
والنبي، صلى الله عليه وسلم، يومئ إلى الناس في مسجده أن اسمعوا شعره، ولو كان ذكر النساء في الشعر منكراً، لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أوّل من أنكره، ولو كان ذكر غير النساء أولى بالتقدمة في الشعر من ذكرهن لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أول من أمر بذلك واستقبحه، ولو كان أيضاً في الشعر ذكر النساء من الرفث والفُحش والخنى لكان ما قيل في رسول الله من المديح أحقّ بأن يُسقط منه ذكر القبيح كما أُسقط ذكر الذكورة ووصفُ نعشّقهم من هذه الأشعار ومن نظائرها، من مديح ذوي الأخطار، وما وجدت ذلك في شيء من أشعار المتقدّمين وإنما عُرف الآن في شعر المُحدَثين، وأين ظَرف النساء وحسنهن من غيرهنّ، وأين ملاحة سَلامهن، وحلاوة كلامهن، ومستحسن مداعبتهن، ومحبوب معاتبتهن، ومليح مراسلتهن، لا سيما إن شُبْن هواهن بالغَيرة على محبيهن، والتدلل على متعشقيهن، وصددن من غير زلل، وهجرن من غير ملل، وهنّ والله في كل أحوالهن القاتلات بأفعالهن، وصالهن خَتلٌ، وصدُّعن قتلٌ، وهن المالكات للقلوب، السالبات للعقول، إذا خلون موحْن، وإن ظهرْن نظرن، فقتلن بلحظ عيونهن، وصرعن بكسر جفونهن، وأحيين بقولهن الكاذب، ووعدهن الخائب، فلا شيء أحسن من مطْلهن، ولا ألذ من خُلف وعدهن، وقد استحسنت الشعراء ذلك منهن، ومدحته في كثير من الأشعار فيهن.
أخبرني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عيّاش السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني السائب راوية كُثيّر قال: كان كُثيّر رجلاً مذنوباً، لا يستقرُّ في مكان، فقال لي ذات يوم: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده، فأتيناه، فاستنشد ابن أبي عتيق كُثيّراً فأنشده:
أبائنةٌ سُعدى؟ نعم ستبين، ... كما انبتَّ من حبل القرين قرينُ
أأن زُمّ أجمالٌ، وفارقَ جيرةٌ، ... وصاح غُراب البين أنت حزينُ
كأنك لم تسمعْ، ولن ترَ قبلها ... تفرُّق أُلاّفٍ لهن حنينُ
حنينٌ إلى أُلاّفهنّ، وقد بدا ... لهن من الشكّ الغداة يقينُ
حتى إذا بلغ إلى قوله:
فأخلفن ميعادي، وخُنّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة جينُ
قال ابن أبي عتيق: أو على الدين صُحبتهن، يا ابن أبي جُمعة، ذلك أملح لهن، وأدعى للقلوب إليهن، عبيد الله بن قيس الرًّقيّات أشعر منك حي يقول:
حبذا الإدلال والغنُجُ، ... والتي في طرفها دَعَجُ
والتي إن حدّثت كذَبت، ... والتي في وصلها خَلَجُ
وترى في البيت صورتها، ... مثل ما في البيعة السُّرج
خبّروني: عل على رجلٍ ... عاشقٍ في قبلةٍ حرجُ
فقال: لا! إن شاء الله، وانصرف. وقال القطامي يستحسن ذلك من أفعالهن، ويصف مَلاحة اعتلالهنّ:
وأرى الغواني إنما هي جنّةٌ، ... شبه الرياح نلوِّن الألوانا
وإذا حلفن فهن أكذب حالفٍ ... حَلِفاً، وأملح كاذبٍ إيمانا
وقد أحسن محمود الورّاق حيث يقول:
اصطبح كأس شراب، ... واغتنبق كأس تَصابي
واجعل الأيام قَسماً ... بين عتبٍ وعِتاب
ووصالٍ، اهتجارٍ، ... وبُعادٍ، واقترابِ
واجتنابٍ في دُنوٍّ، ... ودنوٍّ في اجتناب
ورسولٍ بكتابٍ، ... وانتظار لجوابِ
وقُنوعٍ من حبيبٍ ... بالمواعيد الكِذاب
ليس في الحب ولا الصب ... وة حظّ للصوابِ
وقال بعض المحدثين:
ليس يُستحسن في حكم الهوى ... عاشقٌ يُحسِن تأليف الحججْ
بُني الحبّ على الجَور، فلو ... أنصف المعشوق فيه لسَمُجْ
وقال آخر وأحسن في قوله:
ألا إنني راضٍ بما حكمت جملُ، ... وإن كان لي فيه البليّة والقتلُ
فكرّوا عليّ العذل فيها، فإنني ... رأيتُ الهوى فيها يُجدّده العذلُ
وما جئتها يوماً لبذلٍ رجوته ... لديها، فأخشى أن يُعيّره البخلُ
ومن ذلك قول جميل بن معمر العُذري:
ولستُ على بذل الصفاء هويتها، ... ولكن سبتني بالدلال مع البخل
وقال أيضاً:
ويقلن: إنك يا بُشَين بخيلةٌ، ... نفسي فداؤك من ضنينٍ باخل
ويقلن: إنك قد رضيتَ بباطلٍ ... منها، فهل لك في اعتزال الباطل
ولَباطلٌ ممن ألذُّ وأشتهي، ... أدنى إليّ من البغيض الباذل
ودخلتْ عزّةُ على هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال: يا عَزّة! أتعرفين قول كُثيّر:
وقد زعمت أني تغيّرتُ بعدها، ... ومن ذا الذي، يا عَزَّ، لا يتغيّرُ
تغيَّر جسمي، والخليفة كالذي ... عهدتِ، ولم يُخبر بسرّك مخبِرُ
فقالت: ما أعرف هذا ولكني أعرف قوله:
كأني أُناجي صخرةً، حين أعرضَت، ... من الصمّ لو يمشي بها العُصم زلّتِ
صَفوحٌ، فما تلقاك إلا بخيلةً، ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّتِ
وأنشدني أحمد بن عبيد لرِفاعة الفَقْعسي:
ألم تعلما أمْ لا، وكل بليّةٍ ... من الدهر يفنى بؤسها ونعيمها
ولم تجدا بلجاءَ إلا بخيلةً، ... وإن أيسرتْ واحتاج يوماً غريمها
وأنشدني محمد بن يزيد لكثيّر عزّة:
وكم من خليلِ قال لي: هل سألتها؟ ... فقلت: نعم! ليلى أضنّ خليلِ
وأبعده نيلاً، وأسرعه قلىً، ... وإن سُئلت نيلاً، فشرُّ منيلِ
وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر العُذري:
وهجرك من تيما بلاءٌ وشِقوةٌ ... عليك مع الشوق الذي لا يُفارق
ألا إنها ليست تجود لذي الهوى، ... بل البخل منها شيمةٌ وخَلائقُ
وأنشدني ابن أبي خَيشمة لعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود:
وزادك إغراءً بها طول بخلها ... عليك وأعرى لحم أعظُمك الهمُّ
ومثله قول الأحوص بن محمد الأنصاري:
وزادني كًلَفاً بالحب أن مَنَعت، ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا
كم من دنيٍّ لها قد كنت أتبعه، ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبِعا
وقال جرير يذكر طول المَطل والخُلْف:
وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه، ... وإذا طُلبن لوين كلّ غريمِ
يرمين من خَلَل الستور بأعينٍ ... فيها السقام وبرءُ كل سقيمِ
وقال أيضاً:
لعمْرُ الغواني ما جزين صبابتي ... بهنّ، ولا يُحببن نسج القصائدِ
رأيت الغواني مولعاتٍ بذي الهوى، ... بطول المنى، والخُلف عند المواعدِ
وقال أيضاً:
ألم ترني بذلتُ لهنّ وُدّي، ... وكذّبتُ الوُشاةَ، فما جَزينا
إذا ما قلت جاز لنا التقاضي ... بخلن بعاجلٍ، ومَطلن دَينا
وقال أيضاً:
يقلن إذا ما حلّ دينك عندنا، ... وخير الذي يُقضى من الدين عاجله
لك الخير لا نقضيك إلا نسيّةً ... من الدين، أو عَرْضاً، فهل أنت قابله
وقال أيضاً:
وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه، ... وجعلن ذلك مثل برق الخُلَّبِ
إن الغواني قد قطعن مودّتي، ... بعد الصفا، ومنعن طِيبَ المَشربِ
وقال كعب بن زهير:
كانت مواعيد عُرقوبٍ لها مثلاً، ... وما مواعيدها إلاّ الأباطيلُ
فلا يغرّنْك ما منّتْ، وما وعدتْ، ... إن الأماني والأحلام تضليلُ
وقال نُصَيب:
أللبين، يل ليلى، جِمالك ترحل، ... ليقطع منا البينُ ما كان يوصلُ
تُعلّلنا بالوعد ليلى، وتنثني ... بموعودها، حتى يموت المعلَّلُ
وقال كثيرٌ:
وإني لأرضى من نوالك بالذي ... لو أبصره الواشي لقّت بلابلهْ
بلا وبأن لا أستطيع وبالمُنى، ... وبالوعد والتسويف قد ملّ آملهْ
وقال آخر:
يا ربّ خذ لي من الملاح فقد ... هجن لقلبي من الهوى خَبَلا
من اللواتي يقلن: لنْ، ونعم، ... وها، وحتى، وقد، وسوف، ولا
والذي جاء في ذلك كثيرٌ يطول شرحه ويُعيي وصفه، وقد مضى من الفصل ما فيه لذوي العقل، وقد أفردنا كتاب القيان لذمّ عُظم القيان، فأغنى ما في ذلك الكتاب عن تكثير هذا الباب، فاعرفه إن شاء الله.












مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید