المنشورات

بمن يحسن العشق

واعلم أن الهوى، والحب، والبخل، والعشق، والغزل يحسن بأهل النعمة واليَسار، ويُزري بأهل الإملاق والإقتار، ولسنا نقول إنه محرَّمٌ على هؤلاء لإعسارهم، ولا محلل لأولئك ليسارهم، وليس بالغنى ما يُدخل أهل الجهالة في الوصف، ولا بالفقر ما يُخرج أهل الأجب من الظرف، وقد قال بعض الشعراء:
قد يُدرك الشرف الفتى، ورداؤه ... خَلَقٌ، وجَيبُ قميصه مرقوعُ
وليس أسباب الهوى مبيَّنة عن اليسار، والسعة، والغَناء، والبذل، والعطاء، والنفقات الغزيرة، والصلات الكثيرة، والهبات الهنيّة، والهدايا السرية، والمختلُّ المعدِمُ، والمقلّ المعسِر لا حيلة له في ذلك، فمن تعرّض للهوى، ومال إلى الصّبى، لم يحسن ذلك به لإفلاسه، وقلّة ذات يده وإقلاله، وما هلك امروٌّ عرف قدره، وأجهل الناس من عدا طوره، وقد قال بعض السخفاء بعيب بجهله على الظرفاء: ألم يُعلم أنه لا يكون لفقيرٍ، ولا يُرفع إليه طَرفٌ، ولا يقع عليه وصفٌ، والفقير مذمومٌ بكلّ لسانٍ، والغنيّ محبَّب إلى كل إنسانٍ، وأنشد قول عُروة بن الورد:
ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيتُ الناس شرُّهُمُ الفقيرُ
وأحقرهم، وأهونهم عليهم، ... وإن أمسى له كرمٌ وخير
يباعده الدنيُّ، وتزدريه ... حليلته، وينهره الصغيرُ
وقد أخطأ العائب لهم في مقاله، وتكسع في حيرته وضلالته، لأن عُروة لم يذهب إلى ثلب الأدباء، ولا إلى تعنيف الظرفاء، وإنما عنف على طول الإهمال، وحثّ على تكسُّب الأموال، وهذا مثل قول الآخر:
لعمرك! إن المال قد يجعل الفتى ... نسيباً، وإن الفقر بالحُرّ قد يُزري
وما رفع النفس الدنيّة كالغنى، ... ولا وضع النفس الكريمة كالفقر
ومثل ذلك قول الآخر:
الفقر يُزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وقد يُسَوِّد غير السيد المالُ
وكقول الآخر:
أجلَّك قومٌ حين صرتَ إلى الغنى، ... وكل غنيٍّ في العيون جليلُ
إذا مالت الدنيا إلى المرء حَوَلت ... إليه، ومال الناس حيث تميلُ
فهؤلاء لو يذهبوا إلى تفنيد المتظرفين، ولا الطعن على المتفننين، وكيف، والتظرّف بهم أليق، وسمةُ الظرف عليهم أصدق.
وهذا الباب قد ذكرته على جملته في كتاب " نظام التاج في صفة الأنْوِك المرزوق والظريف المحتاج " وجعلنا جملة ما مرّ في كتابنا نَصَفة بيننا وبين من زعم أن الأمر ليس كذلك.
والذي زعم أنه لا يكون للفقير ظرفٌ قد تجاوز في الجَهالة والسُّخف؛ بلى إن الظرف بذي التقلل مليح، ولكن الهوى والعشق بهم قبيحٌ، وذلك أن الفقير إن طلب لم ينل، وإن رام بلوغاً لم يصل، وإن استوصل لم يوصل، فهو كمد القلب، عازب اللب، حزين النفس، ميت الحس، ذاهل العقل،
بعيد الوصل، فتركه التعرّض لما لا يقدر على بلوغ إتمامه أولى من تلبّسه بما يزيده في اغتمامه، وقد يجوز أن يكون ظريفاً بغير عشق، كما كان عاشقاً بغير فسق، لأنه لا تُهيأ له إقامة حدود العشق والظرف بلباقته، ونظافته، وتخلّفه، وتملّقه، ومداراته، ومساعدته، ولا يتهيأ له القيام بحدود العشق إذ لا مال له فيُعينه على هواه، ولا مقدرة له فتبلغه رضاه، وإن بلي بمن يستهديه ويستكسبه ويطلب بره، ويريد فضله، وهو لا يقدر على ذلك فهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، والحسرة التي تبقى، والكمد الذي لا يفنى. فليتحرّز الأديب من الهوى قبل وقوعه في العَطَب، وليتحفّظ منه قبل طلبه التخلّص من شَركه، فلا يقدر على الهرب، وقلّ من رأيت وقع في هوىً فنجا من غُلّه، أو أمكنه التخلّص من حبله، ولن يقدر على التخلُّص من الهوى بعد الوقوع في درك البلا، إلا مالكٌ لقلبه، مانعٌ لغربه، حازمٌ في فعله، جامع لعقله، فإن الأديب إذا كان بهذه الصفة، ورأى آيات الملل، وعلامات الذُّلّ، وأمارات الغدر، ودلالات الهجر، بادر فريسته، وتخلّص مهجته، وزجر قلبه، وصرف حبّه، ولم يُقم على طول الجفاء، ولم يُعرّض نفسه لطول البلاء، ولم يستعبدها بالتذلل، والخشوع، والتضرّع، ولكنه يصرفها صرف مقتدرٍ عيوفٍ، ويمنعها منع مالكٍ عزوفٍ. وقد شرحت لك ما قيل في المُصارمة باباً لتقف عليه، يبين لك صحةً ما فيه، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.














مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید