المنشورات

مصارمة ذوي الغدر والمبادرة عند الملل والهجر

اعلم أن صبر المحب على هجر الحبيب، وتجرّعه للغُضض والتعذيب، ومعالجة الزفير والنحيب، وتقلقل لفرق الوجيب، من الهجر الظاهر والموت الحاضر. والمبادرة بالانصراف بعد تغيُّر الأُلاّف من الحزم المكين، والرأي الرصين، وإن من أحسن ما قيل في المصارمة قول زهير ابن أبي سُلمى حيث يقول:
ألا يالَ قومٍ للصِّبى إذا يقودني، ... وللوصل من أسماء إذ أنا طالبهْ
فليتك قاليني، فلا وصل بيننا، ... كذلك من يستغنِ يُستغنَ صاحبه
ومما يتعلق بهذا قول المتلمّس:
فإن تُقبلي بالوُدّ نُقبلْ بمثله، ... وإلا فإنا نحن أنأى وأشمسُ
ومثله قول نافع بن خليفة:
بآية ما قالت: غنيت بغيرنا، ... ونحن سنغنى عنك مثلاً، ونَصدفُ
وقال آخر:
فإنْ تُقبلي بالوُدّ نُقبل بمثله، ... وإن تُدبري أُدبر إلى حال باليا
ألمْ تعلمي أني قليلٌ لُبانتي، ... إذا لم يكن شيءٌ لشيءٍ مؤاتيا
وقال آخر:
فإن تُقبلي بالودّ نُقبل بمثله، ... وإن تؤذيننا بالصريمة نَصرِمِ
ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا، ... فإن كرهته، فالسلام على أخرى
ومثله قول الآخر:
وكنتُ، إذا خليلٌ رامَ صَرمي، ... وجدتُ لديّ منفسَخاً عريضا
وأجاد أبو ذؤيبٍ الهُذلي حيث يقول:
فإنْ وصلت حبل الصفاء فدُم لها، ... وإن صرمَته، فانصرفْ عن تحاملِ
ومثله قول إبراهيم بن العباس:
بقلبي من هوى البيض انصراف، ... وتعجبني من البيض القِصافُ
فإن أنصفن في ودّي، وإلا ... فليس عليّ من قلبي خلافُ
وقد أحسن الذي يقول:
كم من أخي قد كنتُ آمله، ... هبّت عليه رياح الغدر، فانتقضا
أهملتُه، حين لم أملك صيانته، ... ثم انقبضتُ بودّي مثل ما انقبضا
وقلت للنفس عُدّيه فتىً نوحَت ... به النوى أو من القَرض الذي انقرضا
فما بكَيتُ عليه، حين فارقني، ... ولا وجدتُ له بين الحشا مَضضا
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أميطي الهوى، إن شئتِ، عنّي فانقُضي ... عهود الهوى، واسترزقي الله في سيّرِ
فلو كنتِ لي عيناً، إذاً لفقأتُها، ... ولو كنتِ لي أُذناً رميتُك بالوَقْرِ
ولو كنتِ لي كفّاً، إذاً لقطعتها، ... ولو كنتِ لي قلباً نزعتك من صدري
سألتكِ هل للناقضِ العهد والذي ... يخونُ سوى الإعراض والصّدّ والهجر
فإن شئتِ فاقْليني، وإن شئتِ فاعرضي، ... فوالله ما أمسيتِ مني على أمر
ولقد أحسن الخليع حين يقول:
هويتكمُ جَهدي وزدتُ على الجهد ... ولم أرَ فيكم من يُقيم على العهدِ
فإن أُمسِ فيكم زاهداً بعد رغبةٍ، ... فبعد اختبار كان في وصلكم زُهدي
لعمري، لقد أغضيتُ فيكم على التي ... تُجرّعني المكروه من غُصص الحقدِ
تأنّيتُكم بُقيا الصديق لتقصدوا، ... وتأبَون إلا أن تَجوروا عن القصدِ
تعزّوا بيأسٍ عن هواي، فإنني ... إذا انصرفَت نفسي، فهيهات من ردّي
أبى القلب إلا نبوةً عن جميعكم، ... كنَبوتكم عني ففي السُّحق والبعد
أرى الغدر ضدّاً للوفاء، وإنني ... لأعلم أن الضدّ ينبو عن الضّدّ
إذا خُنتمُ بالغيب عهدي، فما لكم ... تدلّون إدلال المقيم على العهد
صلوا، فافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلا فصُدّوا، وافعلوا فعل ذي الصدّ
فكم من نذيرٍ كان لي قبلُ فيكمُ، ... وها أنا ذا فيكم نذيرٌ لمن بعدي
فوا أسفاً من صبوةٍ ضاع شكرها، ... مضت سلفاً في غير أجرٍ ولا حَمد
وأنشدني بعض المحدّثين:
هجرتُ حبيباً كنتُ أحسب أنني ... سأقضي حياتي، قبل هِجرانه، وَجدا
وذلك أني كنتُ صبّاً بحبه، ... أجاوز للإفراط في حبه الحدّا
فقابلني من قلّة الحفظ للسوفا، ... بأن خانني ودّي، ولم يَرعَ لي عهدا
فقلتُ لقلبي بالملامة فاصطبر، ... ورُمّ سلوةً تلقَى بسلوتك الرُّشدا
فطاوعني قلبي، فبتُّ مسلَّماً، ... أفتّش عن ودّي فلا أجد الوُدّا
وأنشد أبو الطيب لنفسه في مثل ذلك:
عتبتُ عليكم مرةً بعد مرةٍ، ... وأفرطتُ في التعذال، واللوم، والزجرِ
فلما رأيتُ القول ليس بنافعي، ... ولا النهيَ مقبولاً لديّ، ولا أمري
زجرتُ فؤادي زجرة عن هواكمُ ... وقلتُ له سرّاً، فأصغَى إلى سرّي:
أفقْ كم يكون الهجر ممن تحبُه، ... وهجرُ الذي تهوى أحرُّ من الجمر
وصبرك لو تدري على الهجر ساعةً، ... وقد كنتَ ترجوه أحرّ من الجمرِ
تَعزَّ، فإنّ الغدر منه سجينةٌ، ... ولا داء أدوى من معالجة الغدر
تَعزَّ، فإن اليأس يذهب بالهوى ... ولا شيء أشفى للفؤاد من الهجرِ
تَعزَّ وداوِ القلب منك بهجره، ... ففي الهجر، لو يأتي، شفا غُلّةِ الصدر
فطاوعني قلبي، فبتُّ أرى الهوى، ... وما كنتُ فيه كالجنون، أوِ السحر
وأصبح قلبي فارغاً من هواكمُ، ... كأنْ لم يكن عاناه في سالف الدهر
وأضحى، وما فيه من الحب والهوى ... إذا قيس، مقدار العَشير من الذَّرِّ
ولقد أحسن الذي يقول:
وددتُك لمّا كان ودُّك خالصاً، ... وأعرضتُ لمّا صار نهباً مقسَّما
ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه، ... على كثرة الوُرّاد، أن يتهدّما
وقال آخر:
لا أشتهي رَنْقَ الحِياض، ولا التي ... تُخاض ويغشاها المطرَّحة الجُربُ
ولا أشتهي إلا مشارب أُحرزَت ... عن الناس، حتى ليس في مائها عَبُّ
وأنشدني أحمد بن يحيى:
وإني لأستحيي من الله أن أرى ... رديف وصالٍ أو عليَّ رَديفُ
وأشرب رَنْقاً منكِ بعد مودّةٍ، ... وأرضى بحبلٍ منك، وهو ضعيفُ
وإني للماء المخالط للقَذى، ... إذا كثُرت وُرّاده، لعيوفُ
ومثله قول الآخر:
لقد زعمت ريّاكَ أنك غادرٌ، ... وأنك للشُّرب، الغَداة، عيوفُ
لقد كذَبت، ما إن أعوجُ بمشربٍ ... أُجاجٍ، وما لي في الوِصال رديفُ
وأخبرني أحمد بن يحيى عن الزُّبير بن بكّار قال: كان نُصيبٌ يأتي خُلّةً له بالأبواء، وكان إذا أتاها رحّبت به أمها، وأكرمته وفرشت له إلى جنب ابنتها، فجاء يوماً، وعندها فتىً أصفر كأنه مُحّةٌ، يتولّج عليهم بيتهم بغير إذنٍ، ويختلط بهم اختلاطاً يكرهه نُصَيب، فوثب إلى رحله، فشدّه على راحلته، فعلقت به الجارية وقالت: ألا تَبوء عندنا يا أبا مِحْجَن كعادتك؟ فقال:
أراكِ طَموحَ العين، طارفةَ الهوى ... لهذا، وهذا منكِ وُدٌّ مؤالفُ
فإن تحملي رِدفين لا أكُ منهما، ... فجيئي بفردٍ إنني لا أُرادفُ
وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي لنفسه:
يا من توهّم أننا نَهواه، ... ونذوب شوقاً إن نأى مَثواهُ
كذبتْكَ نفسك في بُعادكَ راحةٌ ... إن كنتَ ممن مُهجتي تَسلاهُ
لا يجمع القلب القريح صَبابةً ... وتأذّياً منه بمن يهواه
لكنْ، إذا حلّ الأذى صَرَفَ الهوى، ... فانزاح عن قلبِ المحبّ هواه
ومثل ذلك قول أسماء بن خارجة الفَزاري:
خذي العفوَ مني تستديمي مودّتي، ... ولا تَنطقي في سَورتي حين أغضبُ
فإني رأيتُ الحبّ في القلب والأذى ... إذا اجتمعا، لم يلبثِ الحبُّ يذهبُ
ومثله قول الآخر:
وصلْتُك لما أن رأيتُك واصلاً، ... وباعدتُ حبل الوَصل لما بدا لكا
توهّمتُ منكَ الحفظَ والرعي للهَوى ... يكون، فلمّا أن رأيتُ فِعالكا
زَجَرتُ فؤادي، واجتنبتُكَ بعد ما ... رأيتُ، ونحّيتُ الهوى عن إنائِكا
فإن قال قومٌ: إن في الناس عاشقاَ، ... سلا سرعةً يوماً، فإني ذالكا
وأنشدني غيره أيضاً:
منحتُكُمُ صفوَ المودّة والهوى ... وأفْرطتُ حتى جُزتُ في ذلك الحدّا
وأعطيتكم مني القِياد، ولم أكُن ... لأعطيه من أهوى، ولو شَفَّني وجدا
فقابلتموني ضدّ ما قد منحتُكُم، ... وما كان حقّي أن أقابله ضدّا
فقد نلتُ مما كان منّي من الهوى ... وآليتُ ألاّ أُخلِصَ الحبّ والودّا
فإن شئتُمُ جُذّوا الوِصال من الهوى، ... وإن شئتُمُ خونوا القَطيعة والعهدا
فإني بريٌّ لا ذكرتُ مودّةً، ... ولا عشتُ إلا سامريّاً كذا فَردا
وأنشدني أيضاً لنفسه:
من سلا عنكَ، فاسله، ... لك في الناس مثله
لا تقولنَّ: لِمْ، وكم، ... وعسى، أو لعله
فالعسى يعقِد الهوى، ... والتعزّي يحلّه
كلُّ حبٍّ إذا انقضى ... بعضه، هان كُلُّهُ
وأنشدني أبو عبد الله بن مُسرِف لنفسه:
ادنُ من كلّ صاحبٍ يدنُ شِبراً ... منك بالوصل، والوِداد ذراعا
وإذا ما نأى ذراعاً، فزِدْه ... أنت بالهجر والقطيعة باعا
ثم لا تطعننّ يوماً عليه ... بعيوبٍ، وإن شَناك سماعا
وهذا الباب على كثرته واتساع القول في صحّته يعزّ على الأديب فعله، ويمنعه من إتيانه شغله، لأنه لا يقدر أحد على التخلّص من الهوى بعد الوقوع في شَركه، وإشرافه على مَهول مَهْلكه، وإلا بعد همٍّ دَخيلٍ، وسُقم طويل، وفِكر قاتل، وشُغل شاغل، فتحرُّز ذوي النُّهى من الهوى بالنزوع، أولى من إعمال الحيلة في طلب التخلّص والرجوع.
واعلم أنه لا يصلح العشق إلا لأربعةٍ: لذي مُرُوةٍ ظاهرةٍ، أو ذي طاهرةٍ، أو ذي مال وساع، أو ذي أدب بارع؛ ويقبُحُ ممن سواهم لأن الفقير إذا تعدّى طوره، ورام أن يجاوز قدره، قبُح ذلك به، كما أنه يقبُح بذي الغنى ترم التعرّض لأسباب الهوى، وذلك لصغر نفسه الدنيّة، وسقوط همّته الردية، لا يمنعه من طلبه قلّة ذات يده، ولا تعذُّر الجدّ، بل فساد الطبع، وعدم الحاسّة، وموت الذات.
وبعد فإن كنا في تقدّمنا في غرض خطابنا، وفصول كتابنا، بإباحة العشق والهوى، ودعونا إليه الأدباء، وحثثنا عليه الظرفاء، وملأنا بذلك كتابنا، فإنا نُفرد للنصيحة فيه باباً يميل إليه أهل التدبير، وأهل المعرفة والتبحّر، ويرغب فيه العاقل، ويزهد فيه الجاهل، لأني أم أُخْلِه من كلامٍ منثور، وشعرٍ مشهور، فقفْ على ما أصّلتُ، يَبِن لك ما فرّعتُ، إن شاء الله.














مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید