المنشورات

النهي عن الهوى والتعرّض لأسباب الضنى

اعلم أنه يقبُح بالرجل الأديب، والعاقل اللبيب، أن يستخذي في هواه، ويُملِّك قلبه سواه، ويكون خادم قلبه، وأسير حبّه، لا سيما مع تغيُّر الزمان، وغدر الأحباب والخلاّن، ما يجد فيهم خليلاً صادقاً، ولا يصاحب إلا ماذقاً. ثم إن أجهل الجَهالة، وأضلَّ الضلالة، صبْرُ الفتى الأديب، على غدر الحبيب، فإنّ الصبر على الخيانة والغدر، يضع من المُرُوّة والقدْر؛ وقد قال بعض الشعراء فأحسن:
وإني، وإن حنّت إليكم ضمائري، ... فما قدرُ حيٍّ أن يذلّ له قَدري
فلا ينبغي لأحد أن يذلّ لهواه، فيُشمتَ بنفسه أعداه، ولا يركُنَ إلى واحدةٍ من النساء الحرائر والإماء، فكلّهن في الغدر سواء، وما لواحدة منهن عهد ولا وفاء؛ ولقد أحسن عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:
ألا أيّها القومُ المحبّون ويحكُم، ... تعزّوا عن الأحباب، واحتسبوا الأجْرا
فما واحدٌ منهم بوافٍ لواحدٍ، ... وصاحبتي تجزي وفائي لها غَدْرا
فلو كنتُ من صخرٍ لما كنتُ صابراً، ... وما أنا من صخر، وما أترك الصبرا
وقد بلغنا أن ببعض بلاد الهند قوماً لا يعشقون، ويَرونه من السحر والجنون، وذلك لمن فيهم الفلسفة، ولهم الحكمة والتجربة، وزعموا أن سبب العشق سبب النوى وفيه المذلّة والعَناء، ومنه يكون السقم والضنى، وأكثر من في النساء وفاء، أسرعهنّ خيانةً وجفاء، وأعطاهن حَلْفاً وإيماناً، أسرعهن خُبثاً وسُلواناً، فيا رحمتي للأدباء، وشفقتي على الظرفاء، فما أطول بلاءهم، وأكثر شقاءهم، وأسخن عيونهم، يُبتلى العزيز منهم بالذليلة، والكثير منهم بالقليلة، والشريف بالدَّنيّة، والنبيل بالزريّة، فيطول في عشقها سهره، ويكثُرُ في أمورها فكره، وتنهلّ عليها إذا نأت دموعه، ويطول لديها إذا قرُبت خضوعه، وهي تُظهر له المحبّة، وتُبدي له الرغبة، وتحلف بالأيمان المُحرِّجات، والعُهود الموكِّدات، أنه حظّها من الآدميين، وشغلها دون سائر العالمين، وتُريه الجزَع عند الفراق، والفرح عند التلاق، فتملأ قلبه همّاً، وتورثه ضنىً وسُقماً، وهي تكاتب سواه، ولا تعبأ بهواه، لها في كل زاوية رَبيط، وفي كل محلّةٍ خليط، لم يعدُها قول الشاعر:
فيا من ليس يُقنعها محبٌّ، ... ولا ألفا نحبٍّ كل عامِ
أظنّكِ من بقيّة قومِ موسى، ... فهم لا يصبرون علة طعامِ
أتيتُ فؤادها أشكو إليه، ... فلم أخلُص إليه من الزحامِ
ولا قول الذي أنشدني قوله أيضاً:
الخان يعجز عن قومٍ إذا كثُروا، ... لكنّ قلبك مثل الخان أضعافُ
في كلّ يومٍ له خمسون يعشقهم، ... في كل شهرٍ له ألفٌ وآلافُ
وحكى الهيثم بن عديّ أن رجلاً من العرب هوي جاريةً، فتمسك بودّها، وركَنَ إلى محبّتها، ثم اطّلع على أنها لا تردّ يد لامِس، فقطعها، وأنشأ يقول:
ألا حَيِّ أطلالاً لواسعة الحبْلِ ... ألوفٍ تُسوّي صالح القوم بالرَّذْلِ
فلو أن من أضحى بمنعرجِ اللِّوى ... إلى الرملة القُصوى بساقطة النَّعلِ
جلوساً إلى أن يَقصرَ الظّلَّ عندها ... لراحوا، وكل القوم منها على وَصلِ
ومن أكثر المحال، وأحمق المَقال، قناعة المرأة بصديقٍ، وصبرها على رفيق، أحسنُ من فيهن حالاً، وأقلهنّ أشغالاً، من لها صاحبٌ مشهورٌ، وخليل مستور، وربيطٌ تُراسله، وصديق تجامله، وإن كان ذلك لا لمالٍ، ولا لطمع وآمال، فقد كنا تقدّمنا في باب صفة القينات، وما طُبهن عليه من المكر والخيانات، أنهن يكتسبن بالهوى والعشق، ويُدارين بالتملّق والرفق، وليس بنات البيوت في الخُدور، وربّات الحِجال والقُصور، كذوات المَذْق من القينات، وكذوات التكسُّب من المتقيِّنات، فإن هؤلاء معروفات بطلب الدراهم والأموال، منسوبات إلى التكسُّب بتعشّق الرجال، لا يُقدم عليهن إلا مغرورٌ، ولا يثق بهم إلا مسحورٌ، وإنما يذهب على أهل الألباب، وأهل التظرُّف والآداب، مكر البنات المخدَّرات، والغواني المحجَّبات، اللواتي لم ترهنَّ العيون، ولم تكثر فيهن القالة والظنون، اللواتي يبذلن نفيس الأموال لمن يتعشّقْنه، وينّين من راسلنه وكاتبنه، وتزعُم أنهن وراء الحجاب، ودون الأقفال والأبواب، وأنهن لا فرج لهن إلا في المكاتبة، ولا فرح إلا في المراسلة، ولا سرور إلا في النظر من بعيد، ولا يقدرن على اللقاء إلا في الخروج في كل عيد، وأولئك اللواتي تخفُّ أمورهن، وتُعنّى سرائرهنُ، ويطمع الجاهل فيهن، ويصبو النَّزِق إليهن، ويثق بحبّهن الأحداث والأطفال، ولا يتمسّك بمودّتهن إلا الجهّال، مع أن مكرهن أخفى من الخيال، وأعظم من راسيات الجبال، تنفذ حيلهن على الرجال، ويتمكّن كيدهنّ من الأبطال، وفيما خبر الله، جل ثناؤه، في بعض القرآن، من عظيم كيدهن، ولطف حيلهن، ما يُغني عن شرح كثير من سرهن، وإن في قصة زُليخا ويوسف ما يستغني به ذوو العقل والأفهام من مكرهن القوي، وكيدهن الخفي، ولن يحترز منهن إلا المجرّب، ويتّقي منهن إلا المدرّب، فإن ذا الحِنكة، إذا كان بهن عليماً، وكان في أمورهن حكيماً، أخذ من حبّهن عفوة، وشرب من هواهن صَفوه، ولن يعلَق بهن فؤاده، ولم يملكن قياده، وذلك الحسن الحال، الرَّخيّ البال، لم تؤرّقه الغُموم، ولم تُنضجه الهموم، لا كالذي غلب عليه الشقاء، وأُتيح له البلاء، فركن إلى حبهن، ودعَته الرغبة إلى ودّهن، فتمكّن منه الهوى، وتفرّد به الضنى، وتلك لا تشعر بسهره، ولا تعبأ بفكره، وبالله أقسم صادقاً، لو حلفْتُ أنهن لا يعرفن شيئاً من الوفاء، ما حنثْتُ، ولو بحث المغرور بهن، المخدوع بحبهن، عن صحيح أخبارهن، وفحص عن مكنون أسرارهن، لوقَف على صورة غدرهن، ولَبان له جملةٌ من مكرهن، ولهنّ عليه بعد الكرامة، ولرجع على نفسه بالملامة، كما أنشدني بعض الأدباء لنفسه:
أوَصْلَك أرجو، بعد أن رثّ حبله، ... لقد ضلّ سعيي، إذ رجونُ ملولا
أتوب إليك اليوم من كل توبةٍ، ... فقد هُنتَ في عيني، وكنتَ جليلا
إذا لم يجد إلفي عن الغدر مذهباً، ... وجدتُ إلى حسن العَزاء سبيلا
فوالله لا أرضيتُ داعيةَ الهوى ... إليكَ، ولا أغضبتُ فيك عَذولا
وأنشدني أيضاً:
سأغدر، حتى تعجبوا من خيانتي، ... فما ليّ ذنبٌ غير حسن وفائي
ولولا أمورٌ عارضتَ ما سبقتني ... إلى الغدر حقاّ، لو تُركتَ ورائي
سأُنزف دمعي حَسرةً وتندُّماً، ... على ما مضى صَبوتي وعَنائي
وأنشدني للحسين الخليع:
تُراك على الأيام تنجو مسلَّماً، ... ولستَ ترى من غدرةٍ أبداً بُدّا
ألستَ الذي آليتَ بالله جاهداً ... يميناً، وخُنتَ الله مَوثقَه عَمدا
ألا في سبيل الله وُدٌّ بذلتُه ... لمن خانني وُدّي، ولم يَرْعَ لي عهدا
عدمتُك من قلبٍ أقام لغادرٍ ... على العهد، حتى كاد يقتلني جِدّا
ومن ذلك قول الحَكَمي:
ألا في سبيل الله ودٌّ بذلتٌه ... لمن لم يكن مني لمِعشاره أهلا
سوى ما إذا فكَّرتُ فيه وحدتُني ... أفوز به أنى اكتسبتُ به عقلا
وأنشدني بعض الأدباء لنفسه:
توافيتَ لي، حتى حسبتُك مُغرماً، ... وأعرضتَ، حتى خلتُ نفسي مجرِما
وما لك شيءٌ منهما غير أنني ... أراك ترى نقضَ المواثيق مغَنما
وما كنتُ أدري كيف يصبر عاشقٌ، ... ولا كيف يَسلى بعد أن يتتيّما
فأنقذتَني بالغدر من غمرة الهوى، ... وعلّمتَ قلبي الصبر، حتى تعلّما
ولو لم تخلّصني بغدرك لم أجد ... إلى سلوةٍ، حتى القيامة، سُلَّما
فلم تَرَ عيني، قبل شخصك، ظالماً، ... تعمد أن يجبي، فأصبح منعِما
فجّوزيتَ عني بالذي أنت أهله، ... فكلّ امرئٍ يُجزى بما قد تيمّما
سيندم إنسانٌ لعهد خليله، ... وقلّ لمن لم يًرْعَ أن يتندّما
وأنشدني أيضاً:
يا قلب قد بان كم كلفتَ به، ... فخلِّ عنك البُكاء من أثرهْ
شغلُك بالفكر في تغيُّره ... أعظم مما لقيتَ من حَذَرهْ
قد يسلم العاجز الضعيف، وقد ... تتْلَف روح القويّ من غيرهْ
وقد يفوت القريبَ مطلبه، ... وقد يؤوب البعيد من سفرهْ
فإن يُذقْكَ الوصال حسرته، ... فقد جنيتَ اللذيذ من ثمرهْ
فارحلْ، فمن لا يحلّ مورده ... يُفضِ به صفوَه إلى كَدَرِهْ
ولقد أحسن الحكَمي حيث يقول:
أيها المنتاب عن عُفُرِهْ، ... لستَ من ليلي، ولا سَمَرِهْ
لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بَلَوتُ المُرَّ من ثمرِهْ
وأنشدني محمد بن خلف أحد الفقهاء، وأحسن في قوله:
إذا كنتُ لا أنفكُّ منك مروَّعاً ... بغدرٍ، فإنّ الهَجرَ ليس برائع
إذا خانني من كنتُ أهوى وِصالَه، ... فلستُ بجنّات الخلود بقانعِ
أبَتْ عَزَماتي أن يقود زِمامها ... إلى غادِرٍ بالعهد ذُلُّ المطامع
فيا من به كانت حياتي حبيبةً ... إليّ، ومن لولاه قلّتْ روائعي
تَعزَّ بيأسٍ عن تذكُّر ما مضى، ... فلستُ لمن لم يَرْعَ عهدي بتابعِ
وإني، وإن يَرْقَ دمعي تأسُّفاً ... عليك، فما قلبي إليك براجعِ
وأجود ما قيل في هذا الباب قول أبي ذؤيب الهُذَليّ:
فإن تُعرضي عني، وإن تتبدّلي ... خليلاً، وإحداكنّ سوءٌ قُصارها
فإني، إذا ما خُلَّةٌ رثَّ حبلها، ... وجدْتُ لصُرمي، واستمرّ عِذارهُا
وحالت كحول القوس طُلّتْ وعُطّلت ... ثلاثاً، فأعيا ردُّها وظُهارها
فإني قَمينٌ أن أودّعَ عهدها ... بحمدٍ، ولم يُرفع إلينا شَنارها
وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:
ألم ترَ أن المرء تَدوي يمينه ... فيقطعها عمداً، ليسلم سائرُهْ
وكيف تُراه، بعد يُمناه، صانعاً ... بمن ليس منه حين تَدوى سرائرهْ
فهكذا لعَمري ينبغي أن يفعل الأدباء، وبمثل هذا فليتّعِظ الظُّرفاء. وقد يجب على العاقل المتأدّب، وذي الحِنكة والتجارب، أن يجعل المرأة بمنزلة الريحانة، يتنعّم بنَضرتها، ويتمتّع بزهرتها، حتى إذا جاء أوان جَفافها، وحالت عن حالها في وقت قَطافها، نبذها من يده وألقاها، وباعدها من مجلسه وقَلاها، إذا لم يبق فيها بقيةٌ لمستمتع، ولا لذّةٌ لمتمتِّعٍ؛ ولله دَرُّ الذي يقول:
تمتّع بها ما ساعفَتْكَ، ولا تكُن ... عليك شجاً في الحلق، حين تَبينُ
وإن هي أعطتْكَ اللِّيانَ، فإنها ... لآخرَ من خُلاّنها ستلين
وإن أقسمتْ لا ينقض النأيُ عهدها ... فليس لمخضوب البَنان يمينُ
ومثل ذلك قول النَّمِر بن تَولَب:
وكلّ خليلٍ علتْهُ الرِّعا ... ثُ والحُبُلاتُ كذوبٌ مَلِقْ
ومن جيّد ما قيل في هذا الباب، مما يجب قبوله على ذوي الألباب، قول الحكَم بن مَعْمَرٍ الخُضري أحدِ بني حِصن بن مُحارب:
وبعض الهوى داءٌ وفي اليأس راحةٌ، ... إذا انبتّ وصلٌ أو نَبا بكَ منزلُ
وذو العقل لا يأسى على وصل خُلّةٍ ... إذا لم يكن يوماً عليها مُعَوَّلُ
فلا ترضَ بالأمر الذي ليس بالرضى، ... إذا كنتَ تعتام الأمورَ وتفصِلُ
إذا المرءُ لم يحببك إلا تكرُّهاً، ... فدعه، ولا يعجز عليك التحوُّلُ
وفي الأرض أكفاءٌ، وفيها مُراغَمٌ ... عريضٌ لمن خاف الهَوانَ ومَرحَلُ
وأن يقطعَ الأمرَ االذي أنت قادرٌ ... على جَذِّه منه، أعفُّ وأجملُ
والكلام في هذا الباب مطّرِد، والقول فيه منسَرِد، ولكن كرهتُ به إطالة الكتاب، واقتصرت على قليل من الخِطاب، وأبديتُ نصيحتي للأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وأخبرت بما صحّ عندي، وبالغتَ في النصيحة جُهدي، فإن رغب فيها اغبٌ فغير مَلوم، وإن زهد فيها زاهد فغير مَذْموم. وأنا أعود إلى ذكر الظَّرف والهوى، فقد مضى من هذا الباب ما كفى.
واعلم أن للعشق سُنّةً مَقصودةً، وللظرف شرائعَ محدودة، ورأينا أربابه وأهله وطُلاّبه مُتّبعين لسُبلها، متمسّكين بحبلها، متى حالوا عنها سُمّوا بغير اسم الظرفاء عند أهل الظرف، ودُعوا إلى غير سُنّة العشّاق والأدباء، ولهم فيما استحسنوه من الزّيّ والطيب والثياب والهدايا والطعام والشراب حدٌّ محدودٌ مستحسنٌ معلومٌ، وزيُّ بين الطائفتين مقسوم، لا الرجال يتجاوزون ما حُدّ لهم إلى متظرفات النساء، ولا النساء يتجاوزن حَدّهن إلى حدّ الرجال الظرفاء، وأنا أصف لك زيَّ الفريقين من الظرفاء والمتظرفات، وأشرح لك ما عليه هؤلاء وهؤلاء من الزيّ والهيئات، إن شاء الله.












مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید