المنشورات

التفاح وما كره الأدباء من أكله

اعلم أن التفاح عن ذوي الظرف والعشّاق، وذوي الاشتياق، لا يعدله شيء من الثمر، ولا النور والزَّهر. كيف وبه تهدأ أشجانهم، وبوروده تسكن أحزانهم، وعنده يضعون أسرارهم، وإليه يبدون أخبارهم، إذ كان عندهم بمنزلة الحبيب والأنيس، وبموضع الصاحب والجليس، وليس في هداياهم ما يُعادله، ولا في ألطافهم ما يُشاكله، لغلبة شَبَهه بالخدود المورَّدة، والوجنات المُضرَّجة، وهو عندهم رهينة أحبابهم، وتذكُّر أصحابهم، إلى وردته يتطرّبون، وبرؤيته يستبشرون، ولهم عند نظرهم إليه أنينٌ، وعند استنشاق رائحته حنين، حتى إن أحدهم، إذا غلب عليه القلق، وأزعجه الأرق، لم يكن له مُعوَّلٌ إلا عليه، ولا مُشتكىً إلا إليه. وأندشني بعض أهل الأدب:
لمّا نأى عن مجلسي وجهه، ... ودارتِ الكأسُ بمجراها
صيّرتُهُ تفاحةً بيننا، ... إذا ذكرناه شممناها
واهاً لها تفاحةً أشبهَت ... خديه في بهجتها، واها
وقال الحَكَمي:
تفاحةٌ جاءت، وقد عُلّقتْ، ... ورُكّبَت بالورد والآس
أشرب من كأسي على ريحها، ... بالرغم من أهلي وجُلاّسي
وقال آخر:
تفاحةٌ أُهديت، ظَرفاً، معضَّضةً، ... وقد جرى ماءٌ ثغري في ضواحيها
بيضاء في حمرةٍ عُلّت بغاليةٍ، ... كأنما جُنِيَت من خدّ مُهديها
قد أتحفتني بها في النوم جاريةٌ، ... رُوحي من السوء والأسقام تفديها
لو كنتُ ميتاً، ونادتني بنغمتها ... لخِلتُ للصوت من لَحْدي ألبّيها
وقال آخر:
حيّاه من يهوى بتفاحةٍ، ... قد عضّ أعلاها بأسنانه
جاد، ولم يبخل بها، بعدما ... عذّبه دهراً بهِجرانه
وقال آخر:
تفاحةٌ تأكل تفاحةً، ... يا ليتني كنتُ الذي يوكَلُ
فألثم الثغر لكي أشتفي ... بعلّة الأكل ولا أُوكَلُ
وقال آخر:
تفاحةٌ من عند تفاحةٍ ... قريبةُ العهد بكفّيها
أحبِب بها تفاحةً أشبهَتْ ... حمرتها حُمرة خدّيها
وقال آخر:
تفاحةٌ حمراءُ منقوشةٌ ... ركّبتها في خُضرة الآسِ
فلم تزل في كفّ ندماننا ... تدور من كأسٍ إلى كأسِ
وقال آخر:
تفاحة من عند تفاحةٍ ... ضمّخها المهدي لها بالعبيرْ
يا مُهديَ الحسرة يا قاتلي ... أهديتَ لي والله قَصمَ الظهورْ
قد كنتُ في بحرين من حبّكم ... فصرتُ مذ أُهديتها في بُحورْ
وقال آخر:
فلو أني اشتكيتُ لأجل حُزني ... وما ألقاه في دار الخُلودِ
وكان طعامنا فيها جَنيّاً ... من التفاح والورد النضيدِ
لقلتُ دعوا لها حِصَصي فإني ... أشبّهها بألوان الخدودِ
وقال آخر:
حيّاه مَن يهوى بتفاحةٍ ... قد جُنيَت باللحظ من خدّهِ
معضوضةٍ باللحظ محفوفةٍ ... بعسكر الآجال من صدّهِ
لو شمّها الخلْق لماتوا معاً ... لعُسر ما يلقاه من جُهدهِ
وقد مضى من هذا الباب مقنِعٌ، وهو كثير مُتّسعٌ، ولهم أشياء من زيّهم جليلةٌ، ونُتَفٌ من مناقبهم نبيلةٌ، أنا أصفها لك في موضعها، وأقطعها من مقاطعها، منها السِّواك الذي صيّروه كأحد الفُروض الواجبة والأمور الإرادية، وقد شرحتُ فيه باباً لتقف عليه، إن شاء الله.












مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید