المنشورات

صفة ذوي التظرف ومباينتهم لذوي التكلّف

اعلم أن من كمال أدب الأدباء، وحُسن تظرُّف الظرفاء، صبرهم على ما تولّدت به المكارم، واجتنابهم لخسيس المآثم، وأخذهم بالشّيم السَّنيّة والأخلاق الرضيّة، وأنهم لا يُداخلون أحداً في حديثه، ولا يتطلّعون على قارٍ في كتابه، ولا يقطعون على متكلِّمٍ كلامه، ولا يستمعون على مُسِرّ سره، ولا يسألون عما وُرّي عنهم عِلمه، ولا يتكلمون فيما حُجب عنهم فهمه، يتسرّعون إلى الأمور الجليلة، ويتبطّؤون عند الأشياء الرذيلة، فهم أمراء مجالسهم، بهم يُفتح عَسِر الأغلاق، وبهم يتألّف مُتنافِر الأخلاق، تسمو إليهم الآماق، وتنثني عليهم الأعناق، ولا يطمع في عيبهم العائب، ولا يقدر على مَثالبهم الطالب، ألا ترى أنهم لا يتنخّعون، ولا يتبصّقون، ولا يتثاءبون، ولا يستنثرون، ولا يتجشّؤون، ولا ينمطّون، ولك عيبٌ عند الظرفاء، مكروه عند العلماء، وفيه حديثٌ مأثورٌ حدّثنيه عُبيد بن شريك قال: حدثنا ابن أبي مَرْيَم قال: أخبرني يحيى بن أيوب قال: أخبرني ابن عجلان عن سعيد المَقْبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله يحبّ العُطاس، ويكره التثاؤب، وإن أحدكم إذا قال هاها، فإن ذلك الشيطان يضحك في جَوفه.
والظرفاء لا يتثاءبون، ولا يتمطّون، ولا يوقّعون أكفّهم، ولا يُشبّكون أصابعهم، ولا يمدّون أرجلهم، ولا يحكّون أجسادهم، ولا يمسّون آنافهم، خاصةً إذا كان أحدهم بين يدي خليله، أو ربيطه، أو حبيبه، أو من يحتشمه، ومن يُكرمه.
ولا يدخل أحدهم الخلاء من حيث يراه أحدٌ، ولا يَبول بين يدي أحدٍ. وليس من زيّهم الإقعاء في الجِلسة، ولا السرعة في المِشية، ولا الالتفاف في طريقٍ قصدوه، ولا الرجوع في طريق سَلَكوه. ولا ينفضون الغُبار عن أرجلهم في المواضع المكنوسة، ولا يستريحون في الأماكن المرشوشة، ولا يجلسون في مجلس فينتقلون منه، ولا يقعدون بحيث يُقامون عنه، ولا يشربون ماء الأحباب، ولا الماء في دكاكين الشراب، ولا ماء المساجد والسبيل، وذلك مُشنّى عند ذوي العقول، ولا يدخلون دكّان هرّاس، ولا دكّان روّاس. ولا يجتازون بدُكّان مرّاق، ولا يأكلون شيئاً مما يُتخذ في الأسواق، ولا يأكلون على قارعة الطريق، ولا في مسجد، ولا في سوق، وفي ذلك حديثٌ مأثورٌ، وخَبرٌ مشهورٌ، حدّثنيه أحمد بن الهيثم المُعدَّل قال: حدّثني سهل بن نصر وإسحاق بن المنذر قالا: حدّثنا محمد بن الفُرات قال: حدثني سعيد بن لُقمان بن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الأكل في السوق دَناءةٌ، والظريف لا يأخذ شَعْره في دُكّان حجّام، ولا يدخُل بغير مِئزرٍ إلى الحمّام ".
وقد حدثني أحمد بن محمد بن غالب، صاحب الخليل قال: حدثني أحمد بن عبد الله بن هَشيم عن مُغيرة عن إبراهيم قال: النظر في مرآة الحجّام دناءةٌ.
وحدثنا أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن راشد بن سعيد عن عِكرمة عن ابن عباس قال: من قلّة مُرُوّة الرجل نظره في مرآة الحجّام، واطلاعه في بيت الحائك. وقد ينبغي للظريف أن يدخل الحمّام على خَلوةٍ، لئلا ينظر فيه إلى سَوءةٍ، ولا يمدّ عينه إلى أحد، ولا يُعلّق ثوبه على وتد، ولا يُدلّي رجله في البئر التي ينصبّ إليها الماء، فإن ذلك مما يفعله الأدنياء، ولا يَدلُك يديه بخرقةٍ، فإن ذلك مما يستعمله السخفاء، ولا يتمرّغ على حرارة أرض الحمّام، فإن ذلك مما يفعله سِفلة العوامّ، بل ينبغي له أن يَدخله مُتّزراً، ويقعد فيه معتزلاً، ولا يقعد مستوفزاً على رجله، فإن ذلك طَعْن على عقله، ولا يميل مضطجعاً، بل ينتصب متربعاً، حتى إذا نضب العرق من بدنه، وتحدّر على جسده، وكان عرقه بين الكثير والقليل، نشّفه عن بدنه بمنديلٍ، ثم دعا لرأسه بالغَسول، والأُشنان، فإن كان من أهل المُرُوّات والنعم، وأهل البُيُوتات والقدر ممن لا يُنسب في فعله إلى شيء ليس من شكله، فليبتدئ دخوله الحمّام بالإمساك عن الكلام، والتجرّع من الماء الحارّ ثلاث جُرعٍ، وليقعد للعرق فوق نِطْعِ، حتى إذا عرق بدنه، وجمع عرقه فوزنه، وهذا الفعل لا يُصلح إلا لذي نعمةٍ، أو شريفٍ، أم متأدّب فيلسوف، وأما سائر الناس من أهل الظرف، فإنهم يُنسَبون بهذا الفعل إلى السُّخف.
ولا ينبغي لظريفٍ أن يمشي بلا سراويل، ولا يتّزر بمنديلٍ، ولا يمشي محلول الإزار، ولا مسبل الإزار، ولا يماكس في الشِّرى، ولا يركب حمار الكِرى، ولا ينزل في خراب، ولا يقبض على كِتاب، ولا يُشارط صانعاً، ولا يُصاحب وضيعاً، ولا يُشاتم رفيقاً، ولا يغتاب أحداً، ولا يذكر بسوء أخاً، ولا ينُمّ بسريرةٍ، ولا يُظهر حَبيئة، ولا يخون عهداً، ولا يُخلف وعداً، ولا يُضرّب بين اثنين، ولا يُفسد بين خليلين، ولا يسعى إلى سلطانٍ، ولا يغمز بإنسان، ولا يَهتك حُرمةً، ولا يتعرّض لسرقة، ولا يتحلّى بالكذب، ولا يستهدف للريب، ولا يجاهر بالزنى، ولا ينطق بالخَنى، ولا يُفسد حُرمة الأخ الصديق، ولا حُرمة الجار اللزيق. وأجود ما في هذا المعنى قول الأحوص بن محمد الأنصاري:
قالت وقلتُ: تحرَّجي وصلي ... حبل امرئٍ بوصالكم صَبِّ
صاحبْ إذاً بُعلي! فقلتُ لها: ... الغدر مني ليس من شِعبي
ثِنتان لا أدنو لوصلهما: ... عِرسُ الخليل وجارة الجَنبِ
أما الخليل فلستُ مُخلفه ... والجارُ أوصاني به ربّي
ومن تكامل ظَرف الظريف ظهور بزّته، وظهور طيب رائحته، ونقاء درنه، ونظافة بدنه، ولا يتّسخ له ثوبٌ، ولا يَدرَن له جيب، ولا ينفتق له ذيل، ولا يُرى في دخاريصه مَيل، ولا في سَراويله ثقب، ولا يطول له ظَفْرٌ، ولا يَكثُر له شَعر، ولا يفوح لإبطه دَفَر، ولا لبدنه غَمَر، ولا يسيل له أنف، ولا يَسود له كفّ، ولا يظهر له شُقاق، ولا يَرشَّش له بصاق، ولا يقف في مأقِه رَمَد، ولا صِوارِه زَبَد.
ومن زيّهم في مُصاحبة الأودّاء، ومعاشرة الأخلاّء، حفظ العهود، وإنجاز الوعود، والدوام على الوفاء، وقلّة الرغبة في الجفاء؛ وحسن المؤاتاة لأودّائهم، والمساعدة لأخلاّئهم، والبِشر بمن لَقوا، والتفقّد لمن فقدوا، والمساعفة بأبدانهم، والمعونة بأموالهم، وتخفيف المُؤن على إخوانهم، وكفّ الأذى عن جيرانهم، والصفح عن المسيء لهم عند إساءته، ومقابلة المحسن بإحسانه، والترحيب بالصغير، والتبجيل بالكبير.
وقد حدّثني محمد بن يونس القيسي قال: حدثنا يزيد بن بيان قال: حدثنا أبو الرجال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " ما من شابّ أكرم شيخاً عند سنّه إلا قيّض الله له من يُكرمه عند سنّه ".
وقد يجب أيضاً على أهل المُرُوّة مثل الذي يجب على أهل الظرف، والفُتُوّة والأدب، لأنهما ليسا باللذاذة والقصف، ولا بالمفاخرة والحسب، وإنما هما بكمال المُرُوّة والأدب، ولن يعرف الفتى جميل مواهب الفُتُوّة، إلا بسُلوك طرائق المُرُوّة، وقد ذُكرت الفتوّة عند بعض العلماء فقال: إن الفتوة ليست بالفسق والفجور، ولكنها طعامٌ موضوعٌ، وأذىً مرفوع، ونائلٌ مبذولٌ، وبِشرٌ مقبول، وغَفافٌ معروفٌ، واجتنابٌ للقبيح، وأدبٌ ظاهرٌ، وخُلق طاهر، وتركُ مجالسة أهل الشرور، والسموُّ إلى معالي الأمور، والإحسان إلى من أساء، ومكافأة من أحسن، وقضاء حوائج الناس، فهذه جملة من زيّهم في حُسن مناقبهم، ومستحسَن جميل مذاهبهم، ولهم أيضاً رقة الطبع، والتلطّف في كل الأمور، والمداراة، والتملّق، والتأنّي، والترفّق، ومن ذلك قولهم: من حَبّ طَبّ، أي رَفِق ودارى، ومن ذلك سُمّي الطبيبُ طبيباً لترفّقه ومداراته؛ والعرب تقول: هو طَبٌّ بالأمور، أي عالمٌ رفيقٌ؛ قال عمر بن أبي ربيعة:
فأتتْها طَبّةٌ عالمةٌ ... تخلِط الجِدّ مِراراً باللعبْ
ترفع الصوت إذا لانت لها ... وتراخى عند سَوراتِ الغضبْ
ولهم حسن التأني فيما يُريدونه، ولطيف الحيَل فيما يحاولونه، وخفيُّ التلّطف لما يطالبونه؛ حوائجُهُم سريّةٌ، وسرائرهم مخفية، وأمورهم باطنةٌ، وحيلهم لطيفة، يُورِدون الأمور مواردها، ويُصدرونها مصادرها. ولهم فيما استحسنوا من الهدايا بينهم، والبرّ والمُلاطفة والمُكاتبة، والتُّحفة من غيرهم، ما يُستصغر؛ ومن ذلك أنهم ربما أهْدوا الأُتْرُجة الواحدة، والتفاحة الواحدة، والدَّسْتَبويَة اللطيفة، والشَّمَّامة اللطيفة، والغُصن من الريحان، والطاقة من النرجِس، والرطلَ من الشراب، والقطعة من العُود، والمَخْزَنة من الطيب، والشيء اليسير، والوَهْط الصغير، ونظير ذلك من الأشياء القليلة، الحقيرة والذليلة، التي لا قدر لها عند ذوي العقول، فيُستكثر ذلك منهم، ويُتلقّى بالقَبول، وتُستحسن هداياهم وتُستظرف، ويُفرَحُ بها وتُستظرف. ورغبة غيرهم من الناس في الأشياء الجليلة، والهدايا النبيلة، والطُّرف السريّة، والتُحف السنيّة، غير أهل الظرف، فإنهم اقتصروا على اللطف اللطيف، والبرّ الخفيف.
ومن ذلك كُتُبُهم المِلاح، وألفاظهم الصحاح، التي يستعطفون بها القلوب، ويسترون بها العيوب، ويستقيلون بها العثرات، ويستدركون بها الهفَوات، التي قد استخلصوها من بديع الحرير الصيني، ومليح المُلحَم النيسابوري، وصفيق الدَّبيقي الحَفي، ونقي التاختَج والقوهي. وتغلغلوا إلى الكتابة في ذلك بالذهب والمِسك والزعفران، والسُّكّ، واتّخذوا لها طَرائف المناديل الرِّقاق، وجِياد الزنانير الدقاق، وطيّبوها بالمِسك والذرائر، وعَنْونوها بمُتظرّفات الأمثال والنوادر، وخَتموها بالغالية المستمسِكة، وطبعوها بنُتَف الألفاظ المهلِكة؛ وقد ضُمّنَت من مَليح المُكاتبة، وطرائف المُعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة، ما يُقرّبون به البعيد، ويُهوّنون بن الشديد.
وقد بيّنت ذلك أحسن البيان، وشحتُه بأخصّ المعاني، ووصفتُ ما يتوصّلون به من الوسائل، وما يُضمّنونه كتبهم من الرسائل، في كتابٍ مفرَدٍ، وكلام مجرَّدٌ، ترجمته: كتاب فرح المُهَج، وجعلتُ ما فيه ذَريعةً إلى الفَرج، فأغنى عن تطويل هذا الباب، ما مرّ في ذلك الكتاب. وأنا أصف لك أيضاً في كتابنا هذا جُملة ما استحسنوه بينهم من المُكاتبة، وما استعملوه بينهم من المعاتبة، وأقصد في ذلك إلى مُداعبة الكُتّاب، ومعاتبة الأحباب، وما تعاتبوا به من الأبيات، واختاروه من المُقطّعات، وما ذكروا على العُنوانات من الكلام، وما ضَمّنوه في كتبهم من السلام، على غير نقصٍ مني لكل ما في ذلك من الأشعار، إذ كان قصدي في كلّ أبواب الكتاب إلى الاختصار. وبالله أستعين وأستكفي، وإياه أسترشد وأستهدي.













مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید