المنشورات

سقراط

قَالَ القَاضِي صاعد فِي طَبَقَات الْأُمَم
أَن سقراط كَانَ من تلاميذ فيثاغورس
اقْتصر من الفلسفة على الْعُلُوم الإلهية وَأعْرض عَن ملاذ الدُّنْيَا ورفضها وأعلن بمخالفة اليونانيين فِي عِبَادَتهم الْأَصْنَام وقابل رؤساءهم بالحجاج والأدلة الألهية فثوروا الْعَامَّة عَلَيْهِ واضطروا ملكهم إِلَى قَتله فأودعه الْملك الْحَبْس تحمدا إِلَيْهِم ثمَّ سقَاهُ السم تفاديا من شرهم
وَمن آثاره مناظرات جرت لَهُ مَعَ الْملك مَحْفُوظَة وَله وَصَايَا شريفة وآداب فاضلة وَحكم مَشْهُورَة ومذاهب فِي الصِّفَات قريبَة من مَذَاهِب فيثاغورس وبندقليس إِلَّا أَن لَهُ فِي شَأْن الْمعَاد آراء ضَعِيفَة بعيدَة عَن مَحْض الفلسفة خَارِجَة عَن الْمذَاهب المحققة
وَقَالَ الْأَمِير المبشر بن قاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم معنى سقراطيس باليونانية المعتصم بِالْعَدْلِ وَهُوَ ابْن سفرونسقس ومولده ومنشأه ومنبته بأثينية
وَخلف من الْوَلَد ثَلَاثَة ذُكُور وَلما ألزم التَّزْوِيج على عاداتهم الْجَارِيَة فِي إِلْزَام الأفاضل بِالتَّزْوِيجِ ليبقى نَسْله بَينهم طلب تَزْوِيجه الْمَرْأَة السفيهة الَّتِي لم يكن فِي بَلَده أسلط مِنْهَا ليعتاد جهلها وَالصَّبْر على سوء خلقهَا ليقدر أَن يحْتَمل جهل الْعَامَّة والخاصة
وَبلغ من تَعْظِيمه الْحِكْمَة مبلغا أضرّ بِمن بعده من محبي الْحِكْمَة لِأَنَّهُ كَانَ من رَأْيه أَن لَا تستودع الْحِكْمَة الصُّحُف والقراطيس تَنْزِيها لَهَا عَن ذَلِك
وَيَقُول أَن الْحِكْمَة طَاهِرَة مُقَدَّسَة غير فَاسِدَة وَلَا دنسة فَلَا يَنْبَغِي لنا أَن نستودعها إِلَّا الْأَنْفس الْحَيَّة وننزهها عَن الْجُلُود الْميتَة ونصونها عَن الْقُلُوب المتمردة
وَلم يصنف كتابا وَلَا أمْلى على أحد من تلاميذه مَا أثْبته فِي قرطاس وَإِنَّمَا كَانَ يلقنهم علمه تلقينا لَا غير
وَتعلم ذَلِك من أستاذه طيماتاوس فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ فِي صباه
لم لَا تدعني أدون مَا أسمع مِنْك من الْحِكْمَة فَقَالَ لَهُ مَا أوثقك بجلود الْبَهَائِم الْميتَة وأزهدك فِي الخواطر الْحَيَّة هَب أَن إِنْسَان لقيك فِي طَرِيق فسألك عَن شَيْء من الْعلم هَل كَانَ يحسن أَن تحيله على الرُّجُوع إِلَى مَنْزِلك وَالنَّظَر فِي كتبك فَإِن كَانَ لَا يحسن فَالْزَمْ الْحِفْظ
فلزمها سقراط
وَكَانَ سقراط زاهدا فِي الدُّنْيَا قَلِيل المبالاة بهَا وَكَانَ من رسوم مُلُوك اليونانيين إِذا حَاربُوا أخرجُوا حكماءهم مَعَهم فِي أسفارهم
فَأخْرج الْملك سقراط مَعَه فِي سفرة خرج فِيهَا لبَعض مهماته فَكَانَ سقراط يأوي فِي عَسْكَر ذَلِك الْملك إِلَى زير مكسور يسكن فِيهِ من الْبرد وَإِذا طلعت الشَّمْس خرج مِنْهُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ يستدفئ بالشمس
وَلأَجل ذَلِك سمي سقراط الْحبّ
فَمر بِهِ الْملك يَوْمًا وَهُوَ على ذَلِك الزير فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ مَا لنا لَا نرَاك يَا سقراط وَمَا يمنعك من الْمصير إِلَيْنَا فَقَالَ الشّغل أَيهَا الْملك فَقَالَ بِمَاذَا قَالَ بِمَا يُقيم الْحَيَاة قَالَ فصر إِلَيْنَا فَإِن هَذَا لَك عندنَا معد أبدا
قَالَ لَو عملت أَيهَا الْملك أَنِّي أجد ذَلِك عنْدك لم أَدَعهُ
قَالَ بَلغنِي أَنَّك تَقول أَن عبَادَة الْأَصْنَام ضارة
قَالَ لم أقل هَكَذَا قَالَ فَكيف قلت قَالَ إِنَّمَا قلت إِن عبَادَة الْأَصْنَام نافعة للْملك ضارة لسقراط لِأَن الْملك يصلح بهَا رَعيته ويستخرج بهَا خراجه وسقراط يعلم أَنَّهَا لَا تضره وَلَا تَنْفَعهُ إِذْ كَانَ مقرا بِأَن لَهُ خَالِقًا يرزقه ويجزيه بِمَا قدم من سيء أَو حسن
قَالَ فَهَل لَك من حَاجَة قَالَ نعم
تصرف عنان دابتك عني فقد سترتني جيوشك من ضوء الشَّمْس
قد دَعَا الْملك بكسوة فاخرة من ديباج وَغَيره وبجوهر ودنانير كَثِيرَة ليجيزه بذلك
فَقَالَ لَهُ سقراط أَيهَا الْملك وعدت بِمَا يُقيم الْحَيَاة وبذلت مَا يُقيم الْمَوْت لَيْسَ لسقراط حَاجَة إِلَى حِجَارَة الأَرْض وهشيم النبت ولعاب الدُّود
وَالَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ سقراط هُوَ مَعَه حَيْثُ توجه
وَكَانَ سقراط يرمز فِي كَلَامه مثل مَا كَانَ يفعل فيثاغورس
فَمن كَلَامه المرموز قَوْله
عِنْدَمَا فتشت عَن عِلّة الْحَيَاة ألفيت الْمَوْت وعندما وجدت الْمَوْت عرفت حِينَئِذٍ كَيفَ يَنْبَغِي لي أَن أعيش
أَي أَن الَّذِي يُرِيد أَن يحيا حَيَاة إلهية يَنْبَغِي أَن يُمِيت جِسْمه من جَمِيع الْأَفْعَال الحسية على قدر الْقُوَّة الَّتِي منحها فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يتهيأ لَهُ بِأَن يعِيش حَيَاة الْحق
وَقَالَ تكلم بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يكون أعشاش الخفافيش
أَي يَنْبَغِي أَن يكون كلامك عِنْد خلوتك لنَفسك وَأَن تجمع فكرك وامنع نَفسك أَن تتطلع فِي شَيْء من أُمُور الهيولانيات
وَقَالَ أسدد الْخمس الكوى ليضيء مسكن الْعلَّة أَي اغمض حواسك الْخمس عَن الجولان فِيمَا لَا يجدي لتضيء نَفسك
وَقَالَ املأ الْوِعَاء طيبا
أَي أوع عقلك بَيَانا وفهما وَحِكْمَة
وَقَالَ افرغ الْحَوْض المثلث من القلال الفارغة
أَي اقص عَن قَلْبك جَمِيع الآلام الْعَارِضَة فِي الثَّلَاثَة الْأَجْنَاس من قوى النَّفس الَّتِي هِيَ أصل جَمِيع الْبشر
وَقَالَ لَا تَأْكُل الْأسود الذَّنب
أَي احذر الْخَطِيئَة
وَقَالَ لَا تتجاوز الْمِيزَان أَي لَا تتجاوز الْحق
وَقَالَ عِنْد الْمَمَات لَا تكن نملة أَي فِي وَقت أمانتك لنَفسك لَا تقن ذخائر الْحس
وَقَالَ يَنْبَغِي أَن تعلم أَنه لَيْسَ زمَان من الأزمنه يفقد فِيهِ زمَان الرّبيع
أَي لَا مَانع لَك فِي كل زمَان من اكْتِسَاب الْفَضَائِل
وَقَالَ افحص عَن ثَلَاثَة سبل فَإِذا لم تجدها فأرض أَن تنام لَهَا نومَة الْمُسْتَغْرق
أَي افحص عَن علم الْأَجْسَام وَعلم مَا لَا جسم لَهُ وَعلم الَّذِي وَإِن كَانَ لَا جسم لَهُ فَهُوَ مَوْجُود مَعَ الْأَجْسَام وَمَا اعتاص مِنْهَا عَلَيْك فارض بالإمساك عَنهُ
وَقَالَ لَيست التِّسْعَة بأكمل من وَاحِد
أَي الْعشْرَة هِيَ عقد من الْعدَد وَهِي أَكثر من تِسْعَة وَإِنَّمَا تكمل التِّسْعَة لتَكون عشرَة بِالْوَاحِدِ وَكَذَلِكَ الْفَضَائِل التسع تتمّ وتكمل بخوف الله عز وَجل ومحبنه ومراقبته
وَقَالَ اقتن بالاثنى عشر إثنى عشر
يَعْنِي بالاثنى عشر عضوا الَّتِي بهَا يكْتَسب الْبر وَالْإِثْم اكْتسب الْفَضَائِل وَهِي العينان والأذنان والمنخران وَاللِّسَان وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ والفرج وَأَيْضًا بالاثنى عشر شهرا اكْتسب أَنْوَاع الْأَشْيَاء المحمودة المكملة للْإنْسَان فِي تَدْبيره ومعرفته فِي هَذَا الْعَالم
وَقَالَ ازرع بالأسود وأحصد بالأبيض
أَي ازرع بالبكاء واحصد بالسرور
وَقَالَ لَا تشيلن الإكليل وتهتكه أَي للسنن الجميلة لَا ترفضها لِأَنَّهَا تحوط جَمِيع الْأُمَم كحياطة الإكليل للرأس
وَكَانَ أهل دهره لما سَأَلُوهُ عَن عبَادَة الْأَصْنَام صدهم عَنْهَا وأبطلها وَنهى النَّاس عَن عبادتها
وَأمرهمْ بِعبَادة الْإِلَه الْوَاحِد الصَّمد البارئ الْخَالِق للْعَالم بِمَا فِيهِ الْحَكِيم الْقَدِير لَا الْحجر المنحوت الَّذِي لَا ينْطق وَلَا يسمع وَلَا يحس بِشَيْء من الْآلَات
وحض النَّاس على الْبر وَفعل الْخيرَات
وَأمرهمْ بِالْمَعْرُوفِ ونهاهم عَن الْفَوَاحِش والمنكرات فِي ثقته من أهل زَمَانه وَلم يقْصد استكمال صَوَاب التدابير لعلمه بِأَنَّهُم لَا يقبلُونَ ذَلِك منَّة
فَلَمَّا علم الرؤساء فِي وقته من الكهنة والأراكنة مَا رامه من دَعوته وَأَن رَأْيه نفي الْأَصْنَام ورد النَّاس عَن عبادتها شهدُوا عَلَيْهِ بِوُجُوب الْقَتْل
وَكَانَ الموجبون عَلَيْهِ الْقَتْل قُضَاة أثينس الْأَحَد عشر
وَسقي السم الَّذِي يُقَال لَهُ قونيون لِأَن الْملك لما أوجب الْقُضَاة عَلَيْهِ الْقَتْل سَاءَهُ ذَلِك وَلم يُمكنهُ مخالفتهم فَقَالَ لَهُ اختر أَي قتلة شِئْت فَقَالَ لَهُ بالسم فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك
وَالَّذِي أخر قتل سقراط شهورا بَعْدَمَا أوجبوه عَلَيْهِ مِنْهُ أَن الْمركب الَّذِي كَانَ يبْعَث بِهِ فِي كل سنة إِلَى هيكل أفولون وَيحمل إِلَيْهِ مَا يحمل عرض لَهُ حبس شَدِيد لتعذر الرِّيَاح فَأَبْطَأَ شهورا
وَكَانَ من عَادَتهم أَن لَا يراق دم وَلَا غَيره حَتَّى يرجع الْمركب من الهيكل إِلَى أثينس
وَكَانَ أَصْحَابه يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ فِي الْحَبْس طول تِلْكَ الْمدَّة فَدَخَلُوا إِلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ أقريطون مِنْهُم أَن الْمركب دَاخل غَدا أَو بعد غَد وَقد اجتهدنا فِي أَن ندفع عَنْك مَالا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَتخرج سرا فنصير إِلَى رُومِية فتقيم بهَا حَيْثُ لَا سَبِيل لَهُم عَلَيْك فَقَالَ لَهُ قد تعلم أَنه لَا يبلغ ملكي أَرْبَعمِائَة دِرْهَم
فَقَالَ لَهُ أقريطون لم أقل لَك هَذَا القَوْل على أَنَّك تغرم شَيْئا لأَنا نعلم أَنه لَيْسَ فِي وسعك مَا سَأَلَ الْقَوْم وَلَكِن فِي أَمْوَالنَا سَعَة لذَلِك وأضعافه وأنفسنا طيبَة بِأَدَائِهِ لنجاتك وَأَن لَا نفجع بك
قَالَ لَهُ سقراط يَا أقريطون هَذَا الْبَلَد الَّذِي فعل بِي مَا فعل هُوَ بلدي وبلد جنسي وَقد نالني فِيهِ من حبسي مَا رَأَيْت وَأوجب عَليّ فِيهِ الْقَتْل
وَلم يُوجب ذَلِك عَليّ لأمر استحققته بل لمخالفتي الْجور وطعني على الْأَفْعَال الجائرة وَأَهْلهَا من كفرهم بالباري سُبْحَانَهُ وعبادتهم الْأَوْثَان من دونه
وَالْحَال الَّتِي أوجب عَليّ بهَا عِنْدهم الْقَتْل هِيَ معي حَيْثُ تَوَجَّهت
وَإِنِّي لَا أدع نصْرَة الْحق والطعن على الْبَاطِل والمبطلين حَيْثُ كنت
وَأهل رُومِية أبعد مني رحما من أهل مدينتي
فَهَذَا الْأَمر إِذا كَانَ باعثه عَليّ الْحق ونصرة الْحق حَيْثُ تَوَجَّهت فَغير مَأْمُون عَليّ هُنَاكَ مثل الَّذِي أَنا فِيهِ
قَالَ لَهُ أقريطون فَتذكر ولدك وَعِيَالك وَمَا تخلف عَلَيْهِم من الضَّيْعَة
فَقَالَ لَهُ الَّذِي يلحقهم برومية مثل ذَلِك إِلَّا أَنكُمْ هَهُنَا فهم أَحْرَى أَن لَا يضيعوا مَعكُمْ
وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّالِث بكر تلاميذه إِلَيْهِ على الْعَادة وَجَاء قيم السجْن فَفتح الْبَاب وَجَاء الْقُضَاة الْأَحَد عشر فَدَخَلُوا إِلَيْهِ وَأَقَامُوا مَلِيًّا
ثمَّ خَرجُوا من عِنْده وَقد أزالوا الْحَدِيد عَن رجلَيْهِ
وَخرج السجان إِلَى تلاميذه فَأدْخل بهم إِلَيْهِ فَسَلمُوا عَلَيْهِ وجلسوا عِنْده
فَنزل سقراط عَن السرير وَقعد على الأَرْض ثمَّ كشف عَن سَاقيه فمسحهما وحكهما وَقَالَ مَا أعجب فعل السياسة الإلهية حَيْثُ قرنت الأضداد بَعْضهَا بِبَعْض فَإِنَّهُ لَا يكَاد أَن تكون لَذَّة إِلَّا يتبعهَا ألم وَلَا ألم إِلَّا يتبعهُ لَذَّة
وَصَارَ هَذَا القَوْل سَببا لدوران الْكَلَام بَينهم فَسَأَلَهُ سيمياس وفيدون عَن شَيْء من الْأَفْعَال النفسية
وَكَثُرت المذاكرة بَينهم حَتَّى استوعب الْكَلَام فِي النَّفس بالْقَوْل المتقن المستقصى
وَهُوَ على مَا كَانَ يعْهَد عَلَيْهِ فِي حَال سروره وبهجته ومرحه فِي بعض الْمَوَاضِع
وَالْجَمَاعَة يتعجبون من صرامته وَشدَّة استهانته بِالْمَوْتِ
وَلم ينكل عَن تقصي الْحق فِي مَوْضِعه وَلم يتْرك شَيْئا من أخلاقه وأحوال نَفسه الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي زمَان أَمنه من الْمَوْت
وهم من الكمد والحزن لفراقه على حَال عَظِيمَة
فَقَالَ لَهُ سيمياس
إِن فِي التَّقَصِّي فِي السُّؤَال عَلَيْك مَعَ هَذِه الْحَال لثقلا علينا شَدِيدا وقبحا فِي الْعشْرَة وَأَن الْإِمْسَاك عَن التَّقَصِّي فِي الْبَحْث لحسرة غَدا عَظِيمَة مَعَ مَا نعدم فِي الأَرْض من وجود الفاتح لما نُرِيد
قَالَ لَهُ سقراط يَا سيمياس لَا تدعن التَّقَصِّي لشَيْء أردته فَإِن تقصيك لذَلِك هُوَ الَّذِي أسر بِهِ وَلَيْسَ بَين هَذِه الْحَال عِنْدِي وَبَين الْحَال الْأُخْرَى فرق فِي الْحِرْص على تقصي الْحق فَإنَّا وَإِن كُنَّا نعدم أصحابا ورفقاء أشرافا محمودين فاضلين فَإنَّا أَيْضا إِذْ كُنَّا معتقدين ومتيقنين للأقاويل الَّتِي لم تزل تسمع منا فَإنَّا أَيْضا نصير إِلَى إخْوَان أخر فاضلين أَشْرَاف محمودين مِنْهُم أسلاوس وأيارس وأرقيلس وَجَمِيع من سلف من ذَوي الْفَضَائِل النفسانية
وَلما تصرم القَوْل فِي النَّفس وبلغوا فِيهَا الْغَرَض الَّذِي أَرَادَ وسألوه عَن هَيْئَة الْعَالم وحركات الأفلاك وتركيب الأسطقسات فأجابهم عَن جَمِيعه
ثمَّ قصّ عَلَيْهِم قصصا كَثِيرَة من الْعُلُوم الإلهية والأسرار الربانية
وَلما فرغ من ذَلِك قَالَ
أما الْآن فأظنه قد حضر الْوَقْت الَّذِي يَنْبَغِي لنا أَن نستحم فِيهِ وَنُصَلِّي مَا أمكننا وَلَا نكلف أحدا إحمام الْمَوْتَى فَإِن الأرماماني قد دَعَانَا وَنحن ماضون إِلَى زواس وَأما أَنْتُم فتنصرفون إِلَى أهاليكم
ثمَّ نَهَضَ وَدخل بَيْتا واستحم فِيهِ وَصلى وَأطَال اللّّبْث وَالْقَوْم يتذاكرون عَظِيم الْمُصِيبَة بِمَا نزل بِهِ وبهم من فَقده وَأَنَّهُمْ يفقدون فِيهِ حكيما عَظِيما وَأَبا شفيقا ويبقون بعده كاليتامى
ثمَّ خرج فَدَعَا بولده ونسائه وَكَانَ لَهُ ابْن كَبِير وابنان صغيران فودعهم ووصاهم وصرفهم
فَقَالَ لَهُ أقريطون
فَمَا الَّذِي تَأْمُرنَا أَن نفعله فِي أهلك وولدك وَغير ذَلِك من أَمرك قَالَ لست آمركُم بِشَيْء جَدِيد بل هُوَ الَّذِي لم أزل آمركُم بِهِ قَدِيما من الِاجْتِهَاد فِي إصْلَاح أَنفسكُم فَإِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك فقد سررتموني وسررتم كل من هُوَ مني بسبيل
ثمَّ سكت مَلِيًّا وسكتت الْجَمَاعَة
وَأَقْبل خَادِم الْأَحَد عشر قَاضِيا فَقَالَ لَهُ يَا سقراط إِنَّك جريء مَعَ مَا أرَاهُ مِنْك وَإنَّك لتعلم إِنِّي لست عِلّة موتك وَإِن عِلّة موتك الْقُضَاة الْأَحَد عشر وَأَنا مَأْمُور بذلك مُضْطَر إِلَيْهِ وَإنَّك أفضل من جَمِيع من صَار إِلَى هَذَا الْموضع فَاشْرَبْ الدَّوَاء بِطيبَة نفس واصبر على الِاضْطِرَار اللَّازِم
ثمَّ ذرفت عَيناهُ وَانْصَرف
فَقَالَ سقراط نَفْعل وَلَيْسَ أَنْت بملوم
ثمَّ سكت هنيهة والتفت إِلَى أقريطون فَقَالَ مر الرجل أَن يأتيني بِشَربَة موتِي
فَقَالَ للغلام ادْع الرجل فَدَعَاهُ فَدخل وَمَعَهُ الشربة مِنْهُ فَشربهَا
فَلَمَّا رَأَوْهُ قد شربهَا غلبهم من الْبكاء والأسف مَا لم يملكُوا مَعَه أنفسهم فعلت أَصْوَاتهم بالبكاء فَأقبل عَلَيْهِم سقراط يلومهم ويعظهم وَقَالَ
إِنَّمَا صرفنَا النِّسَاء لِئَلَّا يكون مِنْهُنَّ مثل هَذَا
فأمسكوا استحياء مِنْهُ وقصدا للطاعة لَهُ على مضض شَدِيد مِنْهُم فِي فقد مثله
وَأخذ سقراط فِي الْمَشْي والتردد هنيهة ثمَّ قَالَ للخادم قد ثقلت رجلاي عَليّ
فَقَالَ لَهُ استلق
فاستلقى وَجعل الْغُلَام يجس قَدَمَيْهِ ويغمزهما وَيَقُول لَهُ هَل تحس غمزي لَهما قَالَ لَا
ثمَّ غمز غمزا شَدِيدا فَقَالَ لَهُ هَل تحس فَقَالَ لَا
ثمَّ غمز سَاقيه وَجعل يسْأَله سَاعَة بعد سَاعَة وَهُوَ يَقُول لَا وَأخذ يجمد أَولا فأولا ويشتد برده حَتَّى انْتهى ذَلِك إِلَى حقْوَيْهِ فَقَالَ الْخَادِم لنا إِذا انْتهى الْبرد إِلَى قلبه مضى
فَقَالَ لَهُ أقريطون يَا إِمَام الْحِكْمَة مَا أرى عقولنا لَا تبعد عَن عقلك فاعهد لنا
فَقَالَ عَلَيْكُم بِمَا أَمرتكُم بِهِ أَولا ثمَّ مد يَده إِلَى يَد أقريطون فوضعها على خَدّه فَقَالَ لَهُ مرني بِمَا تحب
فَلم يجبهُ بِشَيْء ثمَّ شخص ببصره وَقَالَ أسلمت نَفسِي إِلَى قَابض أنفس الْحُكَمَاء
وَمَات
فأطبق أقريطون عَيْنَيْهِ وَشد لحييْهِ وَلم يكن أفلاطون حَاضرا مَعَهم لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضا
وَذكر أَن سقراط هلك عَن اثْنَي عشر ألف تلميذ وتلميذ تلميذ
قَالَ المبشر بن فاتك وَكَانَ سقراط رجلا أَبيض أشقر أَزْرَق جيد الْعِظَام قَبِيح الْوَجْه ضيق مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ بطيء الْحَرَكَة سريع الْجَواب شعث اللِّحْيَة غير طَوِيل إِذا سُئِلَ أطرق حينا ثمَّ يُجيب بِأَلْفَاظ مقنعة
كثير التوحد قَلِيل الْأكل وَالشرب
شَدِيد التَّعَبُّد يكثر ذكر الْمَوْت قَلِيل الْأَسْفَار مجدا لرياضة بدنه خسيس الملبس مهيبا حسن الْمنطق لَا يُوجد فِيهِ خلل
مَاتَ بالسم وَله مائَة سنة وبضع سِنِين أَقُول وَوجدت فِي كتاب أفلاطن الْمُسَمّى احتجاج سقراط على أهل أثينية وَهُوَ يَحْكِي قَول سقراط بِهَذَا اللَّفْظ قَالَ مَا تمنيت مجْلِس الحكم قطّ قبل هَذِه الْمرة على أَنِّي قد بلغت من السن سبعين سنة وَهَذَا الِاحْتِجَاج الَّذِي كَانَ بَينه وَبَين أهل أثينية إِنَّمَا كَانَ قبل مَوته بِمدَّة يسيرَة
وَمن خطّ إِسْحَاق بن حنين عَاشَ سقراط قَرِيبا مِمَّا عَاشَ أفلاطن
وَمن خطّ إِسْحَاق عَاشَ أفلاطون ثَمَانِينَ سنة
وَقَالَ حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة وَالْحكمَة أَنه كَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم سقراط من غلب عقله هَوَاهُ افتضح












مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید