المنشورات

مسكن جالينوس

وَقَالَ يُوسُف بن الداية فِي تَعْرِيف مَوضِع جالينوس ومسكنه مَا هَذِه حكايته قَالَ سَأَلَ أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي جِبْرَائِيل بن بختيشوع عَن مسكن جالينوس أَيْن كَانَ من أَرض الرّوم فَذكر أَن مَسْكَنه فِي دهره كَانَ متوسطا لأرض الرّوم وَأَنه فِي هَذَا الْوَقْت فِي طرف من أطرافها
وَذكر أَن حد أَرض الرّوم كَانَ فِي أَيَّام جالينوس من نَاحيَة الشرق مِمَّا يَلِي الْفُرَات الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة بنغيا من طوج الأنبار وَكَانَت المسلحة الَّتِي يجْتَمع فِيهَا جند فَارس وَالروم ونواطيرهما فِيهَا
وَكَانَ الْحَد من نَاحيَة دجلة دَارا إِلَّا فِي بعض الْأَوْقَات فَإِن مُلُوك فَارس كَانَت تغلبهم على مَا بَين دَارا وَرَأس الْعين فَكَانَ الْحَد فِيمَا بَين فَارس وَالروم من نَاحيَة الشمَال أرمينية وَمن نَاحيَة الْمغرب مصر إِلَّا أَن الرّوم كَانَت تغلب فِي بعض الْأَوْقَات على مصر وعَلى أرمينية
فَلَمَّا ذكر جبرائل غَلَبَة الرّوم على أرمينية فِي بعض الْأَوْقَات تلقيت قَوْله بالإنكار وجحدت أَن تكون الرّوم غلبت على أرمينية إِلَّا الْموضع الَّذِي يُسمى بِلِسَان الرّوم أرمنيانس فَإِن الرّوم يسمون أهل هَذَا الْبَلَد إِلَى هَذِه الْغَايَة الأرمن فَشهد لَهُ عَليّ أَبُو إِسْحَق بِالصّدقِ وأتى بِدَلِيل على ذَلِك لم أصل إِلَى دَفعه وَهُوَ نمط أرمني كأحسن مَا رَأَيْت من الأرمن صَنْعَة فِيهِ صور جوَار يلعبن فِي بُسْتَان بأصناف الملاهي الرومية وَهُوَ مطرز بالرومية مُسَمّى باسم ملك الرّوم فَسلمت لجبرائيل
وَرجع الحَدِيث إِلَى القَوْل فِي جالينوس قَالَ وَاسم الْبَلَد الَّذِي ولد فِيهِ وَكَانَ مَسْكَنه سمرنا وَكَانَ منزله بِالْقربِ من قَرْيَة بَينه وَبَينهَا فرسخان
قَالَ جِبْرَائِيل فَلَمَّا نزل الرشيد على قُرَّة رَأَيْته طيب النَّفس فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ منزل أستاذي الْأَكْبَر مني على فرسخين فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُطلق لي الذّهاب إِلَيْهِ حَتَّى أطْعم فِيهِ وأشرب فأصول بذلك على متطببي أهل دهري وَأَقُول إِنِّي أكلت وشربت فِي منزل أستاذي فَلْيفْعَل
فاستضحك من قولي ثمَّ قَالَ لي وَيحك يَا جِبْرَائِيل أَتَخَوَّف أَن يخرج جَيش الرّوم أَو منسر فيختطفك
فَقلت لَهُ من الْمحَال أَن يقدم الرّوم على الْقرب من معسكرك هَذَا الْقرب كُله فَأمر بإحضار إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن نهيك وَأمره أَن يضم إِلَيّ خَمْسمِائَة رجل حَتَّى أوافي النَّاحِيَة
فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي خمسين كِفَايَة
فاستضحك ثمَّ قَالَ ضم إِلَيْهِ ألف فَارس فَأَنَّهُ إِنَّمَا كره أَن يُطعمهُمْ ويسقيهم
قَالَ فَقلت مَا لي إِلَى النّظر إِلَى جالينوس حَاجَة فازداد ضحكا ثمَّ قَالَ
وَحقّ الْمهْدي لتنفذن ومعك الْألف فَارس
قَالَ جِبْرَائِيل فَخرجت وَأَنا من أَشد النَّاس غما وأكسفهم بَالا قد أَعدَدْت لنَفْسي مَا لَا يَكْفِي عشرَة أنفس من الطَّعَام وَالشرَاب
قَالَ فَمَا اسْتَقر بِي الْموضع حَتَّى وافاني الْخبز والمساليخ وَالْملح فَعم من معي وَفضل كثير
فأقمت فِي ذَلِك الْموضع فطعمت فِيهِ وَمضى فتيَان الْجند وأغاروا على مَوَاضِع خمور الرّوم ولحومهم فَأَكَلُوا اللَّحْم كبابا بالخبز وَشَرِبُوا عَلَيْهِ الْخمر وانصرفت فِي آخر النَّهَار
فَسَأَلَهُ أَبُو إِسْحَق هَل تبين فِي رسم منزل جالينوس مَا يدل على أَنه كَانَ لَهُ شرف فَقَالَ لَهُ أما الرَّسْم فكثير
وَرَأَيْت لَهُ أبياتا شرقية وأبياتا غربية وأبياتا قبلية وَلم أر لَهُ بَيْتا فراتيا
وَكَذَلِكَ كَانَت فلاسفة الرّوم تجْعَل بيوتها وَكَذَلِكَ كَانَت ترى عُظَمَاء فَارس وَكَذَلِكَ أرى أَنا إِذا أصدقت نَفسِي وعملت بِمَا يجب لِأَن كل بَيت لَا تدخله الشَّمْس يكون وبيئا
وَإِنَّمَا كَانَ جالينوس على حكمته خَادِمًا لملوك الرّوم وملوك الرّوم أهل قصد فِي جَمِيع أُمُورهم فَإِذا قست منزل جالينوس إِلَى منَازِل الرّوم رَأَيْت من كبر خطته وَكَثْرَة بيوته وَإِن كنت لم أرها إِلَّا خرابا على أَنِّي وجدت فِيهَا أبياتا مسقفة استدللت على أَنه كَانَ ذَا مُرُوءَة
فَسكت عَنهُ أَبُو إِسْحَق فَقلت يَا أَبَا عِيسَى إِن مُلُوك الرّوم على مَا وصفت فِي الْقَصْد وَلَيْسَ قصدهم فِي هباتهم وعطاياهم إِلَّا قصدهم فِي مروءات أنفسهم فالنقص يدْخل المخدوم وَالْخَادِم فَإِذا نظرت إِلَى مَوضِع قصر ملك الرّوم وَمَوْضِع جالينوس ثمَّ نظرت إِلَى قصر أَمِير الْمُؤمنِينَ ومنزلك يكون نِسْبَة منزل جالينوس إِلَى منزل ملك الرّوم مثل نِسْبَة مَنْزِلك إِلَى منزل أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَكَانَ جِبْرَائِيل أَحْيَانًا يعجب مني لِكَثْرَة الِاسْتِقْصَاء فِي السُّؤَال ويمدحني عِنْد أبي إِسْحَق وَأَحْيَانا يغْضب مِنْهُ حَتَّى يكَاد أَن يطير غيظا
فَقَالَ لي وَمَا معنى ذكرك النِّسْبَة فَقلت لَهُ أردْت بِذكر النِّسْبَة أَنَّهَا لَفْظَة يتَكَلَّم بهَا حكماء الرّوم وَأَنت رَئِيس تلامذة أُولَئِكَ الْحُكَمَاء فَأَرَدْت التَّقَرُّب إِلَيْك بمخاطبتك بِأَلْفَاظ أستاذيك
وَإِنَّمَا معنى قولي نِسْبَة دَار جالينوس إِلَى دَار ملك الرّوم مثل نِسْبَة دَارك إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه إِن كَانَت دَار جالينوس مثل نصف أَو ثلث أَو ربع أَو خمس أَو قدر من الأقدار من دَار ملك الرّوم هَل يكون قدرهَا من ملك الرّوم مثل قدر دَارك من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو أقل فَإِن دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كَانَت فرسخا فِي فرسح وَقدر دَارك عشر فَرسَخ فِي عشر فَرسَخ وَدَار ملك الرّوم إِن كَانَت عشر فراسخ فِي عشر فراسخ وَدَار جالينوس عشر عشر فَرسَخ فِي عشر عشر فَرسَخ كَانَ قدر دَار جالينوس من دَار ملك الرّوم مثل مِقْدَار دَارك من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ سَوَاء
فَقَالَ لم تكن دَار جالينوس كَذَا وَهِي أقل مِقْدَارًا من دَاري عِنْد دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ بِكَثِير كثير فَقلت لَهُ
تُخبرنِي عَمَّا أسأَل قَالَ لست آبي عَلَيْك
فَقلت لَهُ أَنَّك قد أخْبرت عَن صَاحبك أَنه كَانَ أنقص مُرُوءَة مِنْك
فَغَضب وَقَالَ أَنْت نوماجذ
وَكنت أَحسب هَذِه اللَّفْظَة فِرْيَة فَغضِبت فَلَمَّا رأى غَضَبي قَالَ إِنِّي لم أقذفك بِشَيْء عَلَيْك فِيهِ ضَرَر
ووددت إِنِّي كنت نوماجذ
هَذَا اسْم ركب من حرفين فارسيين وهما الحدة والإتيان
فَإِنَّمَا نوماجذ نوه آمد أَي جَاءَ حِدته فَيُقَال هَذَا للْحَدَث ووددت أَنا كُنَّا أحداثا مثلك
وَإِنَّمَا أَنهَاك أَن تتقفز تقفز الديوك المحتلمة فَإِنَّهَا رُبمَا نازعتها نَفسهَا إِلَى منافرة الديوك الهرمة فينقر الديك الْهَرم الديك المحتلم النقرة فَيظْهر دماغه فَلَا تكون للمحتلم بعد ذَلِك حَيَاة
وَأَنت تعارضني كثيرا الْمجَالِس ثمَّ تحكم وتظلم فِي الحكم
وَإِن عَيْش جِبْرَائِيل وبختيشوع أَبِيه وجورجس جده لم يكن من الْخُلَفَاء وعمومتهم وقراباتهم ووجوه مواليهم وقوادهم وكل هَؤُلَاءِ فَفِي اتساع من النِّعْمَة باتساع قُلُوب الْخُلَفَاء
وَجَمِيع أَصْحَاب ملك الرّوم فَفِي ضنك من الْعَيْش وَقلة ذَات يَد فَكيف يُمكن أَن أكون مثل جالينوس وَلم يكن لَهُ مُتَقَدم نعْمَة لِأَن أَبَاهُ كَانَ زراعا وَصَاحب جنَّات وكروم
فَكيف يُمكن من كَانَ معاشه من أهل هَذَا الْمِقْدَار أَن يكون مثلي ولي أَبَوَانِ قد خدما الْخُلَفَاء وأفضلوا عَلَيْهِمَا وَغَيرهم مِمَّن هُوَ دونهم
وَقد أفضل الْخُلَفَاء عَليّ ورفعوني من حد الطِّبّ إِلَى المعاشرة والمسامرة
فَلَو قلت أَنه لَيْسَ لأمير الْمُؤمنِينَ أَخ وَلَا قرَابَة وَلَا قَائِد وَلَا عَامل إِلَّا وَهُوَ يداريني إِن لم يكن مائلا بمحبته إِلَيّ وَإِن كَانَ ماثلا أَو شاكرا لي على علاج عالجته أَو محْضر جميل حَضرته أَو وصف حسن وَصفته بِهِ عِنْد الْخُلَفَاء فنفعه فَكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ يفضل عَليّ وَيحسن إِلَيّ
وَإِذا كَانَ قدر دَاري من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ على جُزْء من عشرَة أَجزَاء وَكَانَ قدر دَار جالينوس من دَار ملك الرّوم على قدر جُزْء من مائَة جُزْء فَهُوَ أعظم مني مُرُوءَة
فَقَالَ لَهُ أَبُو إِسْحَق أرى حدتك على يُوسُف إِنَّمَا كَانَت لِأَنَّهُ قدمك فِي الْمُرُوءَة على جالينوس فَقَالَ أجل وَالله لعن الله من لَا يشْكر النعم وَلَا يُكَافِئ عَلَيْهَا بِكُل مَا أمكنه
إِنِّي وَالله أغضب أَن أسوى بجالينوس فِي حَال من الْحَالَات واشكر فِي تَقْدِيمه على نَفسِي فِي كل الْأَحْوَال
فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ أَبُو إِسْحَق وَأظْهر استصوابا لَهُ وَقَالَ هَذَا لعمري الَّذِي يحسن بالأحرار والأدباء
فانكب على قدم أبي إِسْحَق ليقبلها فَمَنعه من ذَلِك وضمه إِلَيْهِ
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان وَكَانَ جالينوس فِي دولة نيرون قَيْصر وَهُوَ السَّادِس من القياصرة الَّذِي ملكوا رُومِية وَطَاف جالينوس الْبِلَاد وجالها وَدخل إِلَى مَدِينَة رُومِية مرَّتَيْنِ فسكنها
وغزا مَعَ ملكهَا لتدابير الجرحي
وَكَانَت لَهُ بِمَدِينَة رُومِية مجَالِس عامية خطب فِيهَا وَأظْهر من علمه بالتشريح مَا عرف بِهِ فَضله وَبَان علمه
وَذكر جالينوس فِي كِتَابه محنة الطَّبِيب الْفَاضِل مَا هَذَا حكايته قَالَ إِنِّي مُنْذُ صباي تعلمت طَرِيق الْبُرْهَان
ثمَّ إِنِّي لما ابتدأت بِعلم الطِّبّ رفضت اللَّذَّات واستخففت بِمَا فِيهِ من عرض الدُّنْيَا ورفضته حَتَّى وضعت عَن نَفسِي مؤونة البكور إِلَى أَبْوَاب النَّاس للرُّكُوب مَعَهم من مَنَازِلهمْ وانتظارهم على أَبْوَاب الْمُلُوك للانصراف مَعَهم إِلَى مَنَازِلهمْ وملازمتهم
وَلم أفن دهري واشق نَفسِي فِي هَذَا التطواف على النَّاس الَّذِي يسمونه تَسْلِيمًا
لَكِن اشغلت نَفسِي دهري كُله بأعمال الطِّبّ والروية والفكر فِيهِ
وسهرت عَامَّة ليلِي فِي تقليب الْكُنُوز الَّتِي خلفهَا القدماء لنا
فَمن قدر أَن يَقُول إِنَّه فعل مثل هَذَا الْفِعْل الَّذِي فعلت ثمَّ كَانَت مَعَه طبيعة ذكاء وَفهم سريع يُمكن مَعهَا قبُول هَذَا الْعلم الْعَظِيم فَوَاجِب أَن يوثق بِهِ قبل أَن يجرب قضاياه وَفعله فِي المرضى
وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أفضل مِمَّن لَيْسَ مَعَه مَا وَصفنَا وَلَا فعل مَا عددناه
وَبِهَذَا الطَّرِيق سَار رجل من رُؤَسَاء الكمريين عِنْد رجوعي إِلَى مَدِينَة من الْبلدَانِ الَّتِي كنت نزعت إِلَيْهَا على أَنه لم يكن تمّ لي ثَلَاثُونَ سنة إِلَى أَن ولاني علاج جَمِيع الْمَجْرُوحين من المبارزين فِي الْحَرْب
وَقد كَانَ يولي أَمرهم قبل ذَلِك رجلَانِ أَو ثَلَاثَة من الْمَشَايِخ
فَلَمَّا أَن سُئِلَ ذَلِك الرجل عَن طَرِيق المحنة الَّتِي امتحنني بهَا حَتَّى وثق بِي فولاني أَمرهم قَالَ إِنِّي رَأَيْت الْأَيَّام الَّتِي أفناها هَذَا الرجل فِي التَّعْلِيم أَكثر من الْأَيَّام الَّتِي أفناها غَيره من مَشَايِخ الْأَطِبَّاء فِي تعلم هَذَا الْعلم
وَذَلِكَ أَنِّي رَأَيْت أُولَئِكَ يفنون أعمارهم فِيمَا لَا ينْتَفع بِهِ وَلم أر هَذَا الرجل يفني يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا لَيْلَة من عمره فِي الْبَاطِل
وَلَا يَخْلُو فِي يَوْم من الْأَيَّام وَلَا فِي وَقت من الارتياض فِيمَا ينْتَفع بِهِ
وَقد رَأَيْنَاهُ أَيْضا فعل أفعالا قَرِيبا هِيَ أصح فِي الدّلَالَة على حذقه بِهَذِهِ الصِّنَاعَة من سنى هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ
وَقد كنت حضرت مَجْلِسا عَاما من الْمجَالِس الَّتِي تَجْتَمِع فِيهَا النَّاس لاختبار علم الْأَطِبَّاء فَأريت من حضر أَشْيَاء كَثِيرَة من أَمر التشريح
وَأخذت حَيَوَانا فشققت بَطْنه حَتَّى أخرجت أمعاءه ودعوت من حضر من الْأَطِبَّاء إِلَى ردهَا وخياطة الْبَطن على مَا يَنْبَغِي فَلم يقدم أحد مِنْهُم على ذَلِك
وعالجناه نَحن فَظهر منا فِيهِ حذق ودربة وَسُرْعَة كف
وفجرنا أَيْضا عروقا كبارًا بالتعمد ليجري مِنْهَا الدَّم ودعونا مَشَايِخ من الْأَطِبَّاء إِلَى علاجها فَلم يُوجد عِنْدهم شَيْء
وعالجتها أَنا فَتبين لمن كَانَ لَهُ عقل مِمَّن حضر أَن الَّذِي يَنْبَغِي أَن يتَوَلَّى أَمر الْمَجْرُوحين من كَانَ مَعَه من الحذق مَا معي
فَلَمَّا ولاني ذَلِك الرجل أَمرهم وَهُوَ أول من ولاني هَذَا الْأَمر اغتبط بذلك
وَذَلِكَ أَنه لم يمت من جَمِيع من ولاني أمره إِلَّا رجلَانِ فَقَط
وَقد كَانَ مَاتَ مِمَّن تولى علاجه طَبِيب كَانَ قبلي سِتَّة عشر نفسا
ثمَّ ولاني بعده أَمرهم رجل آخر من رُؤَسَاء الكمريين فَكَانَ بتوليته إيَّايَ أسعد
وَذَلِكَ أَنه لم يمت أحد مِمَّن ولانيه على أَنه قد كَانَت بهم جراحات كَثِيرَة جدا عَظِيمَة
وَإِنَّمَا قلت هَذَا لأدل كَيفَ يقدر الممتحن أَن يمْتَحن ويميز بَين الطَّبِيب الماهر وَبَين غَيره قبل أَن يجرب قَوْله وَعلمه فِي المرضى وَلَا يكون امتحانه لَهُ كَمَا يمْتَحن النَّاس الْيَوْم الْأَطِبَّاء ويقدمون مِنْهُم من ركب مَعَهم واشتغل بخدمتهم الشّغل الَّذِي لَا يُمكن مَعَه الْفَرَاغ لأعمال الطِّبّ
بل يكون تَقْدِيمه واختياره لمن كَانَ على خلاف ذَلِك وَكَانَ شغله فِي دهره كُله فِي أَعمال الطِّبّ لَا غَيرهَا
قَالَ وَإِنِّي لأعرف رجلا من أهل الْعقل والفهم قدمني من فعل وَاحِد رَآنِي فعلته وَهُوَ تشريح حَيَوَان بيّنت بِهِ بِأَيّ الْآلَات يكون الصَّوْت وَبِأَيِّ الْحَرَكَة مِنْهَا
وَكَانَ عرض لذَلِك الرجل قبل ذَلِك الْوَقْت بشهرين أَن سقط من مَوضِع عَال فتكسرت من بدنه أَعْضَاء كَثِيرَة وَبَطل عَامَّة صَوته حَتَّى صَار كَلَامه بِمَنْزِلَة السرَار
وعولجت أعضاؤه فصلحت وبرأت بعد أَيَّام كَثِيرَة وَبَقِي صَوته لَا يرجع
فَلَمَّا أَن رأى مني ذَلِك الرجل مَا رأى وثق بِي وقلدني أَمر نَفسه فابرأته فِي أَيَّام قَلَائِل لِأَنِّي عرفت الْموضع الَّذِي كَانَت الآفة فِيهِ فقصدت لَهُ
وَقَالَ وَإِنِّي لأعرف رجلا آخر سقط من دَابَّته فتهشم ثمَّ عولج فبرأ من جَمِيع مَا كَانَ ناله خلا أَن أصبعين من أَصَابِع كَفه وهما الْخِنْصر والبنصر بَقِيَتَا خدرتين زَمَانا طَويلا
وَكَانَ لَا يحس بهما كثير حس وَلَا يملك حركتهما على مَا يَنْبَغِي
وَكَانَ من ذَلِك أَيْضا شَيْء فِي الْوُسْطَى
فَجعل الْأَطِبَّاء يضعون على تِلْكَ الْأَصَابِع أدوية مُخْتَلفَة وَكلهَا لم تنجح
وَكلما وضعُوا دَوَاء انتقلوا مِنْهُ إِلَى غَيره
فَلَمَّا أَتَانِي سَأَلته عَن الْموضع الَّذِي قرع الأَرْض من بدنه فَلَمَّا قَالَ لي أَن الْموضع الَّذِي قرع مِنْهُ هُوَ مَا بَين كَتفيهِ وَكنت قد علمت من التشريح أَن مخرج الْعصبَة الَّتِي تَأتي هَاتين الأصبعين أول خرزة فِيمَا بَين الْكَتِفَيْنِ علمت أَن أصل البلية هُوَ الْموضع الَّذِي تنْبت فِيهِ تِلْكَ الْعصبَة من النخاع
فَوضعت على ذَلِك الْموضع الَّذِي تنْبت مِنْهُ تِلْكَ الْعصبَة بعض الْأَدْوِيَة الَّتِي كَانَت تُوضَع على الْأَصَابِع بعد أَن أمرت فَقلعت عَن الْأَصَابِع تِلْكَ الْأَدْوِيَة الَّتِي تُوضَع عَلَيْهَا بَاطِلا فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى برِئ وَبَقِي كل من رأى ذَلِك يتعجب من أَن مَا بَين الْكَتِفَيْنِ يعالج فتبرأ الْأَصَابِع
قَالَ وأتاني رجل آخر أَصَابَته آفَة فِي صَوته وشهوته للطعام مَعًا فابرأته بأدوية وَضَعتهَا على رقبته وَكَانَ الْعَارِض لذَلِك الرجل مَا أصف لَك كَانَ بِهِ خنازير عَظِيمَة فِي رقبته فِي كلا الْجَانِبَيْنِ فعالجه بعض المعالجين فَقطع تِلْكَ الْخَنَازِير وأورثه بِسوء احتياطته بردا فِي العصبتين المجاورتين للعرقين النابضين الشاخصين فِي الرَّقَبَة
وَهَاتَانِ العصبتان تنبتان فِي أَعْضَاء كَثِيرَة وَتَأْتِي مِنْهُمَا شُعْبَة عَظِيمَة إِلَى فَم الْمعدة وَمن تِلْكَ الشعبة تنَال الْمعدة كلهَا الْحس إِلَّا أَن أَكثر مَا فِي الْمعدة حسا فمها لِكَثْرَة مَا ينْبت من تِلْكَ الْعصبَة الَّتِي فِيهَا
وَشعْبَة يسيرَة من كل وَاحِدَة من هَاتين العصبتين تحرّك وَاحِدَة من آلَات الصَّوْت وَلذَلِك ذهب صَوت ذَلِك الرجل وشهوته فَلَمَّا علمت ذَلِك وضعت على رقبته دَوَاء مسخنا فبرأ فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا أحد رأى هَذَا الْفِعْل مني ثمَّ صَبر لِأَن يسمع مني الرَّأْي الَّذِي أداني إِلَى علاجه الأعجب إِلَّا وَعلم أَن بالأطباء إِلَى التشريح أعظم الْحَاجة
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي الْأَمْرَاض الْعسرَة الْبُرْء أَنه كَانَ مارا بِمَدِينَة رُومِية إِذْ هُوَ بِرَجُل خلق حوله جمَاعَة من السُّفَهَاء وَهُوَ يَقُول أَنا رجل من أهل حلب لقِيت جالينوس وَعَلمنِي علومه اجْمَعْ وَهَذَا دَوَاء ينفع من الدُّود فِي الأضراس وَكَانَ الْخَبيث قد أعد بندقا من قار وقطران وَكَانَ يَضَعهَا على الْجَمْر ويبخر بهَا صَاحب الأضراس المدودة بِزَعْمِهِ فَلَا يجد بدا من غلق عَيْنَيْهِ فَإِذا أغلقهما دس فِي فَمه دودا قد أعدهَا فِي حق ثمَّ يُخرجهَا من فَم صَاحب الضرس
فَلَمَّا فعل ذَلِك ألْقى إِلَيْهِ السُّفَهَاء بِمَا مَعَهم ثمَّ تجَاوز ذَلِك حَتَّى قطع الْعُرُوق على غير مفاصل
قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك أبرزت وَجْهي للنَّاس وَقلت أَنا جالينوس وَهَذَا سَفِيه
ثمَّ حذرت مِنْهُ واستعديت عَلَيْهِ السُّلْطَان فَلَطَمَهُ
وَلذَلِك ألف كتابا فِي أَصْحَاب الْحِيَل
وَقَالَ جالينوس فِي كتاب قاطاجانس أَنه دبر فِي الهيكل بِمَدِينَة رُومِية فِي نوبَة الشَّيْخ الْمُقدم الَّذِي كَانَ فِي الهيكل الَّذِي كَانَ يداوي الْجَرْحى وَذَلِكَ الهيكل هُوَ البيمارستان فبرأ كل من دبره من الْجَرْحى قبل غَيرهم
وَبَان بذلك فَضله وَظهر علمه وَكَانَ لَا يقنع من علم الْأَشْيَاء بالتقليد دون الْمُبَاشرَة
قَالَ المبشر بن فاتك وسافر جالينوس إِلَى أثينية ورومية والإسكندرية وَغَيرهَا من الْبِلَاد فِي طلب الْعلم وَتعلم من أرمنيس الطِّبّ وَتعلم أَولا من أَبِيه وَمن جمَاعَة مهندسين ونحاة الهندسة واللغة والنحو وَغير ذَلِك
ودرس الطِّبّ أَيْضا على امْرَأَة اسْمهَا قلاوبطر وَأخذ عَنْهَا أدوية كَثِيرَة وَلَا سِيمَا مَا تعلق بعلاجات النِّسَاء
وشخص إِلَى قبرس ليرى القلقطار فِي معدنه
وَكَذَلِكَ شخص إِلَى جَزِيرَة لمنوس ليرى عمل الطين الْمَخْتُوم فباشر كل ذَلِك بِنَفسِهِ وَصَححهُ بِرُؤْيَتِهِ
وسافر أَيْضا إِلَى مصر وَأقَام بهَا مُدَّة فَنظر عقاقيرها وَلَا سِيمَا الأفيون فِي بلد أسيوط من أَعمال صعيدها
ثمَّ خرج مُتَوَجها مِنْهَا نَحْو بِلَاد الشَّام رَاجعا إِلَى بَلَده فَمَرض فِي طَرِيقه وَمَات بالفرما وَهِي مَدِينَة على الْبَحْر الْأَخْضَر فِي آخر أَعمال مصر
وَقَالَ المَسْعُودِيّ فِي كتاب المسالك والممالك أَن الفرما على شط بحيرة تنيس وَهِي مَدِينَة حَصِينَة وَبهَا قبر جالينوس اليوناني
وَقَالَ غَيره أَنه لما كَانَت ديانَة النَّصْرَانِيَّة قد ظَهرت فِي أَيَّام جالينوس قيل لَهُ أَن رجلا ظهر فِي آخر دولة قَيْصر اكتفيان بِبَيْت الْمُقَدّس يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الْمَوْتَى فَقَالَ يُوشك أَن تكون عِنْده قُوَّة إلهية يفعل بهَا ذَلِك فَسَأَلَ إِن كَانَ هُنَاكَ بَقِيَّة مِمَّن صَحبه فَقيل لَهُ نعم فَخرج من رُومِية يُرِيد بَيت الْمُقَدّس فَجَاز إِلَى صقلية وَهِي يَوْمئِذٍ تسمى سلطانية
فَمَاتَ هُنَالك وقبره بصقلية
وَيُقَال أَن الْعلَّة الَّتِي مَاتَ بهَا الذرب
وَحكي عَنهُ أَنه لما طَالَتْ بِهِ الْعلَّة عالجها بِكُل شَيْء فَلم ينجع فَقَالَت تلاميذه أَن الْحَكِيم لَيْسَ يعرف علاج علته وَقصرُوا فِي خدمته فأحس بذلك مِنْهُم وَكَانَ زَمَانا صائفا فأحضر جرة فِيهَا مَاء وَأخرج شَيْئا فطرحه فِيهَا وَتركهَا سَاعَة وَكسرهَا وَإِذا بهَا قد جمدت فَأخذ من ذَلِك الدَّوَاء فشربه واحتقن بِهِ فَلم ينفع
فَقَالَ لتلاميذه هَل تعلمُونَ لم فعلت هَذَا قَالُوا لَا قَالَ لِئَلَّا تظنوا إِنِّي قد عجزت عَن علاج نَفسِي فَهَذِهِ عِلّة تسمى دَاء مدد يَعْنِي الدَّاء الَّذِي لَا دَوَاء لَهُ وَهُوَ الْمَوْت
وَهَذِه الْحِكَايَة أحسبها مفتعلة عَن جالينوس













مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید