المنشورات

بختيشوع بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع

كَانَ سريانيا نبيل الْقدر
وَبلغ من عظم الْمنزلَة وَالْحَال وَكَثْرَة المَال مَا لم يبلغهُ أحد من سَائِر الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا فِي عصره
وَكَانَ يضاهي المتَوَكل فِي اللبَاس والفرش
وَنقل حنين بن إِسْحَق لبختيشوع بن جِبْرَائِيل كتبا كَثِيرَة من كتب جالينوس إِلَى اللُّغَة السريانية والعربية
قَالَ فثيون الترجمان لما ملك الواثق الْأَمر كَانَ مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات وَابْن أبي دَاوُد يعاديان بختيشوع
ويحسدانه على فَضله وبره ومعروفه وصدقاته وَكَمَال مروءته
فَكَانَا يغريان الواثق عَلَيْهِ إِذا خلوا بِهِ
فسخط عَلَيْهِ الواثق وَقبض على أملاكه وضياعه وَأخذ مِنْهُ جملَة طائلة من المَال
ونفاه إِلَى جندي سَابُور وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فَلَمَّا اعتل بالاستسقاء وَبلغ الشدَّة فِي مَرضه انفذ من يحضر بختيشوع
وَمَات الواثق قبل أَن يوافي بختيشوع
ثمَّ صلحت حَال بختيشوع بعد ذَلِك فِي أَيَّام المتَوَكل حَتَّى بلغ فِي الْجَلالَة والرفعة وَعظم الْمنزلَة وَحسن الْحَال وَكَثْرَة المَال وَكَمَال الْمُرُوءَة ومباراة الْخلَافَة فِي الزي واللباس وَالطّيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ فِي النَّفَقَات مبلغا يفوق الْوَصْف فحسده المتَوَكل وَقبض عَلَيْهِ
ونقلت من بعض التواريخ أَن بختيشوع بن جِبْرَائِيل كَانَ عَظِيم الْمنزلَة عِنْد المتَوَكل
ثمَّ إِن بختيشوع أفرط فِي إدلاله عَلَيْهِ فنكبه وَقبض أملاكه وَوجه بِهِ إِلَى مَدِينَة السَّلَام
وَعرض للمتوكل بعد ذَلِك قولنج فَاسْتَحْضرهُ المتَوَكل وَاعْتذر إِلَيْهِ وعالجه وبرأ فانعم عَلَيْهِ وَرَضي عَنهُ وَأعَاد مَا كَانَ لَهُ
ثمَّ جرت على بختيشوع حِيلَة أُخْرَى فنكبه نكبة قبض فِيهَا جَمِيع أملاكه وَوجه بِهِ إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَ سَببه الْحِيلَة عَلَيْهِ أَن عبد الله استكتب الْمُنْتَصر أَبَا الْعَبَّاس الحصيني وَكَانَ رديئا فاتفقا على قتل المتَوَكل واستخلاف الْمُنْتَصر
وَقَالَ بختيشوع للوزير كَيفَ استكتبت الْمُنْتَصر الحصيني وَأَنت تعرف رداءته فَظن عبد الله أَن بختيشوع قد وقف على التَّدْبِير
فَعرف الْوَزير مَا قَالَه لَهُ بختيشوع وَقَالَ أَنْتُم تعلمُونَ كَيفَ محبَّة بختيشوع لَهُ واحسب أَنه يبطل التَّدْبِير فَكيف الْحِيلَة فَقَالُوا للمنتصر إِذا سكر الْخَلِيفَة فخرق ثِيَابك ولوثها بِالدَّمِ وادخل إِلَيْهِ
فَإِذا قَالَ مَا هَذَا فَقل بختيشوع ضرب بيني وَبَين أخي فكاد أَن يقتل بَعْضنَا بَعْضًا
وَأَنا أَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يبعد عَنْهُم
فَإِنَّهُ يَقُول افعلوا
فتنفيه فَإلَى أَن يسْأَل عَنهُ نَكُون قد فَرغْنَا من الْأَمر
فَفعل ذَلِك ونكب وَقتل المتَوَكل
وَلما اسْتخْلف المستعين رد بختيشوع إِلَى الْخدمَة وَأحسن إِلَيْهِ إحسانا كثيرا وَلما ورد الْأَمر إِلَى ابْن عبد الله مُحَمَّد بن الواثق وَهُوَ الْمُهْتَدي جرى على حَال المتَوَكل فِي أنسه بالأطباء وتقديمه إيَّاهُم وإحسانه إِلَيْهِم
وَكَانَ بختيشوع لطيف الْمحل من الْمُهْتَدي بِاللَّه
وشكا بختيشوع إِلَى الْمُهْتَدي مَا أَخذ مِنْهُ فِي أَيَّام المتَوَكل فَأمر بِأَن يدْخل إِلَى سَائِر الخزائن فَكل مَا اعْترف بِهِ فليرد إِلَيْهِ بِغَيْر استثمار وَلَا مُرَاجعَة
فَلم يبْق لَهُ شَيْء إِلَّا أَخذه وَأطلق لَهُ سَائِر مَا فَاتَهُ وحاطه كل الحياطة
وَورد على بختيشوع كتاب من صَاحبه بِمَدِينَة السَّلَام يصف فِيهِ أَن سُلَيْمَان بن عبد الله بن طَاهِر قد تعرض لَهُ لمنازله فَعرض بختيشوع الْكتاب على الْمُهْتَدي بعد صَلَاة الْعَتَمَة فَأمر بإحضار سُلَيْمَان بن وهب فِي ذَلِك الْوَقْت فَحَضَرَ وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن يكْتب من حَضرته إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الله بالإنكار عَلَيْهِ لما اتَّصل بِهِ من وَكيل بختيشوع وَأَن يتَقَدَّم إِلَيْهِ بإعزاز مَنَازِله وأسبابه بأوكد مَا يكون وانفذ الْكتاب من وقته مَعَ أخص خدمه إِلَى مَدِينَة السَّلَام
وَقَالَ بختيشوع للمهتدي فِي آخر من حضر الدَّار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا اقتصدت وَلَا شربت الدَّوَاء مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة وَقد حكم المنجمون بِأَنِّي أَمُوت فِي هَذِه السّنة
وَلست أغتم لموتي وَإِنَّمَا غمي لمفارقتكم
فَكَلمهُ الْمُهْتَدي بِكَلَام جميل وَقَالَ قَلما يصدق المنجم
فَلَمَّا انْصَرف كَانَ آخر الْعَهْد بِهِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن عَليّ الحصري فِي كتاب نور الطّرف وَنور الظّرْف أَنه تنَازع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وبختيشوع الطَّبِيب بَين يَدي أَحْمد ابْن داؤد فِي مجْلِس الحكم فِي عقار بِنَاحِيَة السوَاد فأربى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم وَأَغْلظ لَهُ فَغَضب لذَلِك أَحْمد بن أبي داؤد وَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم إِذا تنازعت فِي مجْلِس الحكم بحضرتنا أمرا فَلْيَكُن قصدك أمما وطريقك نهجا وريحك سَاكِنة وكلامك معتدلا ووف مجَالِس الْخَلِيفَة حُقُوقهَا من التَّوْفِيق والتعظيم والاستطاعة والتوجيه إِلَى الْحق
فَإِن هَذَا أشكل بك وأجمل بمذهبك فِي محتدك وعظيم خطرك
وَلَا تعجلن فَرب العجلة تورث رثيا وَالله يَعْصِمك من الزلل وخطل القَوْل وَالْعَمَل وَيتم نعْمَته عَلَيْك كَمَا أتمهَا على آبَائِك من قبل أَن رَبك عليم حَكِيم
فَقَالَ إِبْرَاهِيم أمرت أصلحك الله بسداد وحضضت على رشاد وَلست بعائد إِلَى مَا يثلم قدري عنْدك ويسقطني من عَيْنك ويخرجني من مِقْدَار الْوَاجِب إِلَى الِاعْتِذَار فها أَنا معتذر إِلَيْك من هَذِه البادرة اعتذار مقرّ بِذَنبِهِ باخع بجرمه لِأَن الْغَضَب لَا يزَال يستفزني بمراده فيردني مثلك بحلمه وَتلك عَادَة الله عنْدك وَعِنْدنَا فِيك وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
وَقد خلعت حظي من هَذَا الْعقار لبختيشوع
فليت ذَلِك يكون وافيا بِأَرْش الْجِنَايَة عَلَيْهِ وَلنْ يتْلف مَال أَفَادَ موعظة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
حدث أَبُو مُحَمَّد بدر بن أبي الْأصْبع الْكَاتِب قَالَ حَدثنِي جدي قَالَ دخلت إِلَى بختيشوع فِي يَوْم شَدِيد الْحر وَهُوَ جَالس فِي مجْلِس مخيش بعدة طاقات من الخيش طاقان ريح بَينهمَا طاق أسود وَفِي وَسطهَا قبَّة عَلَيْهَا جلال من قصب مظهر بدبيقي قد صبغ بِمَاء الْورْد والكافور والصندل وَعَلِيهِ جُبَّة يماني سعيدي مثقلة ومطرف قد التحف بِهِ فعجبت من زيه
فحين حصلت مَعَه فِي الْقبَّة نالني من الْبرد أَمر عَظِيم فَضَحِك وَأمر لي بجبة ومطرف وَقَالَ يَا غُلَام اكشف جَوَانِب الْقبَّة فَكشفت فَإِذا أَبْوَاب مَفْتُوحَة من جَوَانِب الإيوان إِلَى مَوَاضِع مكبوسة بالثلج وغلمان يروحون ذَلِك الثَّلج فَيخرج مِنْهُ الْبرد الَّذِي لَحِقَنِي
ثمَّ دَعَا بطعامه فَأتي بمائدة فِي غَايَة الْحسن عَلَيْهَا كل شَيْء ظريف
ثمَّ أَتَى بفراريج مشوية فِي نِهَايَة الْحمرَة وَجَاء الطباخ فنفضها كلهَا فانتفضت وَقَالَ هَذِه فراريج تعلف اللوز والبزر قطونا وتسقى مَاء الرُّمَّان وَلما كَانَ فِي صلب الشتَاء دخلت عَلَيْهِ يَوْمًا وَالْبرد شَدِيد وَعَلِيهِ جُبَّة محشوة وَكسَاء وَهُوَ جَالس فِي طارمة فِي الدَّار على بُسْتَان فِي غَايَة الْحسن وَعَلَيْهَا سمور قد ظَهرت بِهِ وفوقه جلال حَرِير مصبغ ولبود مغربية وانطاع أَدَم يَمَانِية
وَبَين يَدَيْهِ كانون فضَّة مَذْهَب مخرق وخادم يُوقد الْعود الْهِنْدِيّ وَعَلِيهِ غلالة قصب فِي نِهَايَة الرّفْعَة
فَلَمَّا حصلت مَعَه فِي الطارمة وجدت من الْحر أمرا عَظِيما فَضَحِك وَأمر لي بغلالة قصب وَتقدم يكْشف جَوَانِب الطارمة فَإِذا مَوَاضِع لَهَا شبابيك خشب بعد شبابيك حَدِيد وكوانين فِيهَا فَحم الغضا وغلمان ينفخون ذَلِك الفحم بالزقاق كَمَا تكون للحدادين
ثمَّ دَعَا بطعامه فأحضروا مَا جرت بِهِ الْعَادة فِي السرو والنظافة فأحضرت فراريج بيض شَدِيدَة الْبيَاض فبشعتها وَخفت أَن تكون غير نضيجة ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت فَسَأَلته عَنْهَا فَقَالَ هَذِه تعلف الْجَوْز المقشر وتسقى اللَّبن الحليب
وَكَانَ يختيشوع بن جِبْرَائِيل يهدي البخور فِي درج وَمَعَهُ درج آخر فِيهِ فَحم يتَّخذ لَهُ من قضبان الأترج والصفصاف وشنس الْكَرم المرشوش عَلَيْهِ عِنْد إحراقه مَاء الْورْد الْمَخْلُوط بالمسك والكافور وَمَاء الْخلاف وَالشرَاب الْعَتِيق
وَيَقُول أَنا أكره أَن أهدي بخورا بِغَيْر فَحم فيفسده فَحم الْعَامَّة وَيُقَال هَذَا عمل بختيشوع
وَحدث أَبُو مُحَمَّد بدر بن أبي الْأصْبع عَن أَبِيه عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْجراح عَن أَبِيه أَن المتَوَكل قَالَ يَوْمًا لبختيشوع ادعني فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة فَقَالَ أُرِيد أَن يكون ذَلِك غَدا قَالَ نعم وكرامة وَكَانَ الْوَقْت صائفا وحره شَدِيدا فَقَالَ بختيشوع لأعوانه وَأَصْحَابه أمرنَا كُله مُسْتَقِيم إِلَّا الخيش فَإِنَّهُ لَيْسَ لنا مِنْهُ مَا يَكْفِي
فَاحْضُرْ وكلاءه وَأمرهمْ بابتياع كل مَا يُوجد من الخيش بسر من رأى فَفَعَلُوا ذَلِك وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع فَقطع لداره كلهَا صونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها خيشا حَتَّى لَا يجتاز الْخَلِيفَة فِي مَوضِع غير مخيش
وَأَنه فكر فِي روائحه الَّتِي لَا تَزُول إِلَّا بعد اسْتِعْمَاله مُدَّة فَأمر بابتياع كل مَا يقدر عَلَيْهِ بسر من رأى من الْبِطِّيخ وأحضر أَكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك الْبِطِّيخ ليلتهم كلهَا وَأصْبح وَقد انْقَطَعت روائحه
فَتقدم إِلَى فراشيه فعلقوا جَمِيعه فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة وَأمر طباخيه بِأَن يعملوا خَمْسَة آلَاف جونة فِي كل جونة بَاب خبز سميد دست رقاق وزن الْجَمِيع عشرُون رطلا وَحمل مشوي وجدي بَارِد وفائقة ودجاجتين مصدرتان وفرخان ومصوصان وَثَلَاثَة ألوان وجام حلواء
فَلَمَّا وافه المتَوَكل رأى كَثْرَة الخيش وجدته فَقَالَ أَي شَيْء ذهب برائحته فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَدِيث الْبِطِّيخ فَعجب من ذَلِك وَأكل هُوَ وَبَنُو عَمه وَالْفَتْح بن خاقَان على مائدة وَاحِدَة
وأجلس الْأُمَرَاء والحجاب على سماطين عظيمين لم ير مثلهمَا لَا مِثَاله
وَفرقت الجون على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وَغَيرهم من الْحَاشِيَة لكل وَاحِد جونة وَقَالَ قد أمنت ذمهم لأنني مَا كنت آمن لَو أطعموا على مَوَائِد أَن يرضى هَذَا ويغضب الآخر وَيَقُول وَاحِد شبعت وَيَقُول آخر لم أشْبع فَإِذا أعْطى كل إِنْسَان جونة من هَذِه الجون كفته واستشرف المتَوَكل على الطَّعَام فاستعظمه جدا وَأَرَادَ النّوم فَقَالَ لبختيشوع أُرِيد أَن تنومني فِي مَوضِع مضيء لَا ذُبَاب فِيهِ وَظن أَنه يتعنته بذلك وَقد كَانَ بختيشوع تقدم بِأَن تجْعَل أجاجين السيلان فِي سطوح الدَّار ليجتمع الذُّبَاب عَلَيْهِ فَلم يقرب أسافل الدّور ذُبَابَة وَاحِدَة
ثمَّ أَدخل المتَوَكل إِلَى مربع كَبِير سقفه كُله بكواء فِيهَا جامات يضيء الْبَيْت مِنْهَا وَهُوَ مخيش مظهر بعد الخيش بالدبقي الْمَصْبُوغ بِمَاء الْورْد والصندل والكافور
فَلَمَّا اضْطجع للنوم أقبل يشم رَوَائِح فِي نِهَايَة الطّيب لَا يدْرِي مَا هِيَ لِأَنَّهُ لم ير فِي الْبَيْت شَيْئا من الروائح والفاكهة والأنوار وَلَا خلف الخيش لَا طاقات وَلَا مَوضِع يَجْعَل فِيهِ شَيْء من ذَلِك
فتعجب وَأمر الْفَتْح بن خاقَان أَن يتتبع حَال تِلْكَ الروائح حَتَّى يعرف صورتهَا
فَخرج يطوف فَوجدَ حول الْبَيْت من خَارجه وَمن سَائِر نواحيه وجوانبه أبوابا صغَارًا لطافا كالطاقات محشوة بصنوف الرياحين والفواكه واللخالخ والمشام الَّتِي فِيهَا اللفاح والبطيخ الْمُسْتَخْرج مَا فِيهَا المحشوة بالنمام والحماحم الْيَمَانِيّ الْمَعْمُول بِمَاء الْورْد والخلوق والكافور وَالشرَاب الْعَتِيق والزعفران الشّعْر
وَرَأى الْفَتْح غلمانا قد وكلوا بِتِلْكَ الطاقات مَعَ كل غُلَام مجمرة فِيهَا ند يسجره ويبخر بِهِ
وَالْبَيْت من دَاخله إِزَار من اسفيداج مخرم خروما صغَارًا لَا تبين تخرج مِنْهَا تِلْكَ الروائح الطّيبَة العجيبة إِلَى الْبَيْت
فَلَمَّا عَاد الْفَتْح وَشرح للمتوكل صُورَة مَا شَاهده كثر تعجبه مِنْهُ وحسد بختيشوع على مَا رَآهُ من نعْمَته وَكَمَال مروءته وَانْصَرف من دَاره قبل أَن يستتم يَوْمه
وَادّعى شَيْئا وجده من التياث بدنه وحقد عَلَيْهِ ذَلِك فنكبه بعد أَيَّام يسيرَة وَأخذ لَهُ مَالا كثيرا لَا يقدر
وَوجد لَهُ فِي جملَة كسوته أَرْبَعَة آلَاف سَرَاوِيل دبيقي سيتيزي فِي جَمِيعهَا تكك إبريسم أرميني
وَحضر الْحُسَيْن بن مخلد فختم على خزانته وَحمل إِلَى دَار المتَوَكل مَا صلح مِنْهَا وَبَاعَ شَيْئا كثيرا
وَبَقِي بعد ذَلِك حطب وفحم ونبيذ وتوابل فَاشْتَرَاهُ الْحُسَيْن بن مخلد بِسِتَّة آلَاف دِينَار
وَذكر أَنه بَاعَ من جملَته بمبلغ ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار ثمَّ حسده حمدون ووشى إِلَى المتَوَكل
وبذل فِيمَا بَقِي فِي يَده مِمَّا ابتاعه سِتَّة آلَاف دِينَار
فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَسلم إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ من الضعْف
وَكَانَ هَذَا فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ
قَالَ فثيون الترجمان كَانَ المعتز بِاللَّه قد اعتل فِي أَيَّام المتَوَكل عِلّة من حرارة امْتنع مَعهَا من أَخذ شَيْء من الْأَدْوِيَة والأغذية
فشق ذَلِك على المتَوَكل كثيرا واغتم بِهِ
وَصَارَ إِلَيْهِ بختيشوع والأطباء عِنْده وَهُوَ على حَاله فِي الِامْتِنَاع فمازحه وحادثه فَأدْخل المعتز يَده فِي كم جُبَّة وشي يمَان مثقله كَانَت على بختيشوع وَقَالَ مَا أحسن هَذَا الثَّوْب فَقَالَ بختيشوع يَا سَيِّدي مَا لَهُ وَالله نَظِير فِي الْحسن وثمنه عَليّ ألف دِينَار فَكل لي تفاحتين وَخذ الْجُبَّة
فَدَعَا بتفاح فَأكل اثْنَتَيْنِ ثمَّ قَالَ لَهُ تحْتَاج يَا سَيِّدي الْجُبَّة إِلَى ثوب يكون مَعهَا وَعِنْدِي ثوب هُوَ أَخ لَهَا فَاشْرَبْ لي شربة سكنجبين وخذه
فَشرب شربة سكنجبين
وَوَافَقَ ذَلِك اندفاع طَبِيعَته فبرأ المعتز وَأخذ الْجُبَّة وَالثَّوْب وَصلح من مَرضه
فَكَانَ المتَوَكل يشْكر هَذَا الْفِعْل أبدا لبختيشوع
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان بن ثَابت أَن المتَوَكل اشْتهى فِي بعض الْأَوْقَات الحارة أَن يَأْكُل مَعَ طَعَامه خردلا فَمَنعه الْأَطِبَّاء من ذَلِك لحدة مزاجه وحرارة كبده وغائلة الْخَرْدَل
فَقَالَ بختيشوع أَنا أطعمك إِيَّاه وَإِن ضرك عَليّ فَقَالَ افْعَل
فَأمر بإحضار قرعَة وَجعل عَلَيْهَا طينا وَتركهَا فِي تنور واستخرج ماءها وَأمر بِأَن يقشر الْخَرْدَل وَيضْرب بِمَاء القرع
وَقَالَ إِن الْخَرْدَل فِي الدرجَة الرَّابِعَة من الْحَرَارَة والقرع فِي الدرجَة الرَّابِعَة من الرُّطُوبَة فيعتدلان فَكل شهوتك
وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يحس بِشَيْء من الْأَذَى وَأصْبح كَذَلِك
فَأمر بِأَن يحمل إِلَيْهِ ثلثمِائة ألف دِرْهَم وَثَلَاثُونَ تختا من أَصْنَاف الثِّيَاب
وَقَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي عَن عِيسَى بن ماسة قَالَ رَأَيْت بختيشوع بن جِبْرَائِيل وَقد اعتل فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل والمعتز أَن يعودهُ وَهُوَ إِذْ ذَاك ولي عهد
فعاده وَمَعَهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر ووصيف التركي قَالَ وَأَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْمُدبر أَن المتَوَكل أَمر الْوَزير شفاها وَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فِي ضيَاع بختيشوع فَإِنَّهَا ضياعي وملكي فَإِن مَحَله منا مَحل أَرْوَاحنَا من أبداننا
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن عبيد الله بن بختيشوع هَذَا الْمَذْكُور مِمَّا يدل على منزلَة بختيشوع عِنْد المتَوَكل وانبساطه مَعَه قَالَ من ذَلِك مَا حَدثنَا بِهِ بعض شُيُوخنَا أَنه دخل بختيشوع يَوْمًا إِلَى المتَوَكل وَهُوَ جَالس على سدة فِي وسط دَار الْخَاصَّة فَجَلَسَ بختيشوع على عَادَته مَعَه على السدة وَكَانَ عَلَيْهِ دراعة ديباج رومي وَقد انفتق ذيلها قَلِيلا فَجعل المتَوَكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق حَتَّى بلغ إِلَى حد النيفق
وَدَار بَينهمَا كَلَام اقْتضى أَن سَأَلَ المتَوَكل بختيشوع بِمَاذَا تعلم أَن المشوش يحْتَاج إِلَى الشد والقيادة قَالَ إِذا بلغ فتق دراعة طبيبه إِلَى حد النيفق شددناه
فَضَحِك المتَوَكل حَتَّى اسْتلْقى على ظَهره وَأمر لَهُ فِي الْحَال بخلع سنية وَمَال جزيل
وَقَالَ أَبُو الريحان البيروني فِي كتاب الْجمَاهِر فِي الْجَوَاهِر أَن المتَوَكل جلس يَوْمًا لهدايا النيروز فَقدم إِلَيْهِ كل علق نَفِيس وكل ظريف فاخر
وَإِن طبيبه بختيشوع بن جِبْرَائِيل دخل وَكَانَ يأنس بِهِ فَقَالَ لَهُ مَا ترى فِي هَذَا الْيَوْم فَقَالَ مثل جرياشات الشحاذين إِذْ لَيْسَ قدر وَأَقْبل على مَا معي
ثمَّ أخرج من كمه درج أبنوس مضبب بِالذَّهَب وفتحه عَن حَرِير أَخْضَر انْكَشَفَ عَن ملعقة كَبِيرَة من جَوْهَر لمع مِنْهَا شهَاب ووضعها بَين يَدَيْهِ فَرَأى المتَوَكل مَا لَا عهد لَهُ بِمثلِهِ وَقَالَ من أَيْن لَك هَذَا قَالَ من النَّاس الْكِرَام ثمَّ حدث أَنه صَار إِلَى أبي من أم جَعْفَر زبيدة فِي ثَلَاث مَرَّات ثلثمِائة ألف دِينَار بِثَلَاث شكايات عالجها فِيهَا واحدتها أَنَّهَا شكت عارضا فِي حلقها منذرة بالخناق فَأَشَارَ إِلَيْهَا بالفصد والتطفئة والتغدي بحشو وَصفه فَاحْضُرْ على نسخته فِي غضارة صينية عَجِيبَة الصّفة وفيهَا هَذِه الملعقة فغمزني أبي على رَفعهَا فَفعلت ولففتها فِي طيلساني وجاذبنيها الْخَادِم
فَقَالَت لَهُ لاطفه ومره بردهَا وعوضه مِنْهَا عشرَة آلَاف دِينَار
فامتنعت وَقَالَ أبي يَا ستي إِن ابْني لم يسرق قطّ فَلَا تفضحيه فِي أول كراته لِئَلَّا ينكسر قلبه
فَضَحكت ووهبتها لَهُ
وَسُئِلَ عَن الأخرتين فَقَالَ إِنَّهَا اشتكت إِلَيْهِ النكهة بِإِخْبَار إِحْدَى بطانتها إِيَّاهَا وَذكرت أَن الْمَوْت أسهل عَلَيْهَا من ذَلِك فجوعها إِلَى الْعَصْر وأطعمها سمكًا ممقورا وسقاها دردي نَبِيذ دقل بإكراه فغثت نَفسهَا وقذفت
وَكرر ذَلِك عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ قَالَ لَهَا تنكهي فِي وَجه من أخْبرك بذلك واستخبريه هَل زَالَ وَالثَّالِثَة أَنَّهَا أشرفت على التّلف من فوَاق شَدِيد يسمع من خَارج الْحُجْرَة فَأمر الخدم بإصعاد خوابي إِلَى سطح الصحن وتصفيفها حوله على الشفير وملأها مَاء وَجلسَ خَادِم خلف كل جب حَتَّى إِذا صفق بِيَدِهِ على الْأُخْرَى دفعوها دفْعَة إِلَى وسط الدَّار فَفَعَلُوا وارتفع لذَلِك صَوت شَدِيد أرعبها فَوَثَبت وزايلها الفواق
قَالَ أَبُو عَليّ القياني حَدثنِي أبي قَالَ دخلت يَوْمًا إِلَى بختيشوع وَكَانَ من أَيَّام الصَّيف وَجَلَست فَإِذا هُوَ قد رفع طرفه إِلَى خادمه وَقَالَ لَهُ هَات
فجَاء بقدح فِيهِ نَحْو نصف رَطْل شراب عَتيق وعَلى طرف خلالة ذهب شَيْء أسود فمضغه ثمَّ شرب الشَّرَاب عَلَيْهِ وصبر سَاعَة فَرَأَيْت وَجهه يتقد كالنار
ثمَّ دَعَا بأطباق فِيهَا خوخ جبلي فِي نِهَايَة الْحسن فَأقبل يقطع وَيَأْكُل حَتَّى انْتهى وَسكن تلهبه وَعَاد وَجهه إِلَى حَاله
فَقلت لَهُ حَدثنِي بخبرك فَقَالَ اشْتهيت الخوخ شَهْوَة شَدِيدَة وَخفت ضررها فاستعملت الترياق وَالشرَاب حَتَّى نقرت الْحجر ليجيد الطَّحْن
وَقَالَ أَبُو عَليّ القياني عَن أَبِيه قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح قَالَ كَانَ بختيشوع الطَّبِيب صديقا لأبي وَكَانَ لنا نديم كثير الْأكل عَظِيم الْخلق فَكَانَ كلما رَآهُ قَالَ لَهُ أُرِيد أَن تركب لي شربة وأبرمه إِلَى أَن وصف لَهُ دَوَاء فِيهِ شَحم الحنظل وسقمونيا وَقَالَ بختيشوع لأبي ملاك الْأَمر كُله أَن يَأْكُل أكلا خَفِيفا ويضبط نَفسه فِيمَا بعد عَن التَّخْلِيط فأطعم يَوْم الحمية فِي دَارنَا وَاقْتصر على اسفيدباج من ثَلَاثَة أَرْطَال خبز فَلَمَّا استوفى ذَلِك طلب زِيَادَة عَلَيْهِ فَمنع واعتقله أبي عِنْده إِلَى آخر الْأَوْقَات وَوجه إِلَى امْرَأَته يوصيها أَن لَا تدع شَيْئا يُؤْكَل فِي دَاره
وَلما علم أَن الْوَقْت قد ضَاقَ عَلَيْهِ أطلقهُ إِلَى منزله
فَطلب من امْرَأَته شَيْئا يَأْكُلهُ فَلم يجد عِنْدهَا شَيْئا
وَكَانَت قد أغفلت برنية فِيهَا فتيت على الرف فَوَجَدَهُ وَأخذ مِنْهُ أرطالا
ثمَّ أصبح وَأخذ الدَّوَاء فتحير وَورد على الْمعدة وَهِي ملأى فَلم يُؤثر وَتَعَالَى النَّهَار فَقَالَ قد خرف بختيشوع
وَعمد إِلَى عشرَة أَرْطَال لحم شرائح فَأكلهَا مَعَ عشرَة أَرْطَال خبز وَشرب دورقا مَاء بَارِدًا
فَلَمَّا مَضَت سَاعَة طلب الدَّوَاء طَرِيقا لِلْخُرُوجِ من فَوق أَو من أَسْفَل فَلم يجد فانتفخت بَطْنه وَعلا نَفسه وَكَاد يتْلف
وصاحت امْرَأَته واستغاثت بِأبي
فَدَعَا بمحمل وَحمل فِيهِ إِلَى بختيشوع وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم حارا جدا
وَكَانَ بختيشوع حِين انْصَرف من دَاره وَهُوَ ضجر
فَسَأَلَ عَن حَاله إِلَى أَن علم شرح أمره
وَكَانَ فِي دَاره أَكثر من مِائَتي طير من الطيطويات والحصانيات والبيضانيات وَمَا يجْرِي مجْراهَا
وَلها مسقاة كَبِيرَة مَمْلُوءَة مَاء وَقد حمي فِي الشَّمْس وذرقت فِيهِ الطُّيُور
فَدَعَا بملح جريش وَأمر بطرحه فِي المسقاة كُله وتذويبه فِي المَاء ودعا بقمع وَسَقَى الرجل كُله وَهُوَ لَا يعقل وَأمر بالتباعد عَنهُ
فَأتى من طَبِيعَته فَوق وأسفل أَمر عَظِيم جدا حَتَّى ضعف
وحفظت قوته بالرائحة الطّيبَة وبماء الدراج
وأفاق بعد أَيَّام وعجبنا من صَلَاحه
وَسَأَلنَا عَنهُ بختيشوع فَقَالَ فَكرت فِي أمره فَرَأَيْت أَنِّي أَن اتَّخذت لَهُ دَوَاء طَال أمره حَتَّى يطْبخ ويسقى فَيَمُوت إِلَى ذَلِك الْوَقْت
وَنحن نعالج أَصْحَاب القولنج الشَّديد بذرق الْحمام وَالْملح
وَكَانَ فِي المسقاة المَاء فِي الشَّمْس وَقد سخن وَاجْتمعَ فِيهِ من ذرق الْحمام مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَكَانَ أسْرع تناولا من غَيره فعالجته بِهِ ونجع بِحَمْد الله
ونقلت من بعض الْكتب أَن بختيشوع كَانَ يَأْمر بالحقن وَالْقَمَر مُتَّصِل بالذنب فَيحل القولنج من سَاعَته وَيَأْمُر بِشرب الدَّوَاء وَالْقَمَر على مناظرة الزهرة فصلح العليل من يَوْمه
وَلما توفّي بختيشوع خلف عبيد الله وَلَده وَخلف مَعَه ثَلَاث بَنَات
وَكَانَ الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال
فَتَفَرَّقُوا وَاخْتلفُوا
وَكَانَ مَوته يَوْم الْأَحَد لثمان بَقينَ من صفر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ
وَمن كَلَام بختيشوع بن جِبْرَائِيل قَالَ
الشّرْب على الْجُوع رَدِيء وَالْأكل على الشِّبَع أردأ
وَقَالَ أكل الْقَلِيل مِمَّا يضر أصلح من أكل الْكثير مِمَّا ينفع
ولبختيشوع بن جِبْرَائِيل من الْكتب كتاب فِي الْحجامَة على طَرِيق المسئلة وَالْجَوَاب













مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید