المنشورات

أَبُو طَاهِر بن البرخشي

هُوَ موفق الدّين أَبُو طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس يعرف بِابْن البرخشي من أهل وَاسِط
فَاضل فِي الصِّنَاعَة الطبية كَامِل فِي الْفُنُون الأدبية
وَقد رَأَيْت من خطه مَا يدل على رزانة عقله وغزارة فَضله وَكَانَ فِي أَيَّام المسترشد بِاللَّه
حَدثنِي شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن بدر الوَاسِطِيّ قَالَ كَانَ الْحَكِيم أَبُو طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد البرخشي بواسط يعالج مَرِيضا بِهِ أحد أَنْوَاع الاسْتِسْقَاء فطال بِهِ الْمَرَض وَلم ينجع فِيهِ علاج وَعبر حد الحمية فسهل لَهُ فِي اسْتِعْمَال مهما طلبته النَّفس ومالت إِلَيْهِ الطبيعة من المآكل والأغذية
فَأطلق الْمَرِيض يَده ثمَّ أكل مَا تهَيَّأ لَهُ
فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام اجتاز بِهِ إِنْسَان يَبِيع الْجَرَاد المسلوق فِي المَاء وَالْملح
فمالت إِلَيْهِ نفس الْمَرِيض فَطَلَبه ثمَّ اشْترى مِنْهُ وَأكل فَعرض لَهُ من ذَلِك إسهال مفرط وَانْقطع الْحَكِيم عَنهُ لما رأى بِهِ من الإفراط فِي الإسهال
ثمَّ أَفَاق مِنْهُ بعد أَيَّام وَأخذ المزاج فِي الصّلاح وابتدأ بِهِ الْبُرْء وتدرجت حَاله إِلَى كَمَال الصِّحَّة والحكيم قد أيس من صَلَاحه
فَلَمَّا علم الْحَال أَتَاهُ وَسَأَلَهُ عَمَّا اسْتعْمل ومم وجد الْخُف فَقَالَ لَا أعرف إِلَّا أنني مُنْذُ أكلت الْجَرَاد المسلوق شرعت فِي الْعَافِيَة
ففكر الْحَكِيم فِي ذَلِك طَويلا ثمَّ قَالَ لَيْسَ هَذَا من فعل الْجَرَاد وَلَا من خاصته
وَسَأَلَ الْمَرِيض عَن بَائِع الْجَرَاد فَقَالَ لَا أعلم بمكانه وَلَكِنِّي إِن رَأَيْته عَرفته
فشرع الْحَكِيم فِي الْبَحْث وَالسُّؤَال عَن كل من يَبِيع الْجَرَاد وَهُوَ يحضرهُ إِلَى الْمَرِيض وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَّا أَن عرف صَاحبه الَّذِي اشْترى مِنْهُ
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيم أتعرف الْموضع الَّذِي صدت مِنْهُ الْجَرَاد الَّذِي أكل مِنْهُ هَذَا الْمَرِيض قَالَ نعم
قَالَ امْضِ بِنَا إِلَيْهِ
فمضيا جَمِيعًا إِلَى الْمَكَان وَإِذا هُنَاكَ حشيشة يرعاها الْجَرَاد
فَأخذ الْحَكِيم من تِلْكَ الحشيشة ثمَّ كَانَ يداوي بهَا من الاسْتِسْقَاء وَأَبْرَأ بهَا جمَاعَة من هَذَا الْمَرَض وَذَلِكَ مَعْرُوف مَشْهُور بواسط
أَقُول وَهَذِه هِيَ حِكَايَة قديمَة قد جرى ذكرهَا وَإِن تِلْكَ الحشيشة الَّتِي كَانَ الْجَرَاد يرعاها هِيَ المازريون وَقد ذكرهَا أَيْضا القَاضِي التنوخي فِي كتاب الْفرج بعد الشدَّة
وَكَانَ أَبُو طَاهِر بن البرخشي حَيا بواسط فِي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ عِنْده أدب بارع وَمَعْرِفَة فِي النّظم والنثر
وَمن شعره قَالَ فِي غُلَام ناول خلالا
(وناولني من كَفه مثل خصره ... وَمثل محب ذاب من طول هجره)
(وَقَالَ خلالي قلت كل حميدة ... سوى قتل صب حَار فِيك بأسره) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي إِنْسَان سوء حج من بعض قرى وَاسِط
(لما حججْت استبشرت وَاسِط ... وقولياثا وفتى مرشد)
(وانتقل الويل إِلَى مَكَّة ... وركنها وَالْحجر الْأسود) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا وَقد رأى إنْسَانا يكْتب كتابا إِلَى صديق لَهُ فَكتب فِي صَدره الْعَالم
(لما انمحت سنَن المكارم والعلى ... وَغدا الْأَنَام بِوَجْه جهل قاتم)
(وَرَضوا بأسماء وَلَا معنى لَهَا ... مثل الصّديق تكاتبوا بالعالم) الْكَامِل
وَكتب إِلَيْهِ نجم الدّين أَبُو الْغَنَائِم مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمعلم الهرثي الشَّاعِر الوَاسِطِيّ وَقد أبل من مرض وألزمه الحمية وَمنعه الْغذَاء
(صبحت فخرا بالمنى واغتدى ... قدرك فَوق النَّجْم مَرْفُوعا)
(يَا منقذي من حلقات الردى ... حاشاك أَن تقتلني جوعا) السَّرِيع
فَكتب ابْن البرخشي إِلَيْهِ الْجَواب
(تبِعت مرسومك يَا ذَا العلى ... لَا زَالَ مرسومك متبوعا)
(لَكِن إشفاقي على من بِهِ ... أَمْسَى غَرِيب القَوْل مسموعا)
(أوجب تَأْخِيرا الغذا يَوْمنَا ... وَفِي غَد نستدرك الجوعا)
(أَصْبِر فَمَا أقصرها مُدَّة ... وَإِن تلكأت فاسبوعا)
فَأَجَابَهُ هُوَ
(يَا عَالما ايْنَ ثوى ر حلّه ... أجْرى من الْعلم ينابيعا)
(لم عنْدك الْأَعْمَار مَوْصُولَة ... يضحى ويمسي الرزق مَقْطُوعًا)
(وَالله إِن بت وَلم يجدني ... شعري يَا ذَا الْفضل منفوعا)
(ليخلعن الْجُوع مني الحيا ... وأوسعن الْعلم تقطيعا)















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید