المنشورات

أَبُو الْفرج

هُوَ صاعد بن هبة الله بن توما نَصْرَانِيّ من أهل بَغْدَاد
وَكَانَ من الْأَطِبَّاء المتميزين والأكابر المتعينين
حَدثنِي شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ أَنه كَانَ طَبِيب نجم الدولة أبي الْيمن نجاح الشرابي وارتقت بِهِ الْحَال إِلَى أَن صَار وزيره وكاتبه
ثمَّ دخل إِلَى النَّاصِر وَكَانَ يُشَارك من يحضر من أطبائه فِي أَوْقَات أمراضه
ثمَّ حظي عِنْده الحظوة التَّامَّة وَسلم إِلَيْهِ عدَّة جِهَات يخْدم بهَا وَكَانَ بَين يَدَيْهِ فِيهَا عدَّة دواوين وَكتاب
وَقتل فِي سنة عشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ سَببه أَنه أحضر جمَاعَة من الأجناد الَّذين كَانَت مَعَايشهمْ تَحت يَده وَأَنه خاطبهم بِمَا فِيهِ بعض الْمَكْرُوه فكمن لَهُ مِنْهُم اثْنَان لَيْلًا فقتلاه بالسكاكين
واعترضت تركته فَأمر الْخَلِيفَة بِأَن يحمل مَا فِيهَا من المَال إِلَى الخزانة وَيبقى القماش وَالْملك لوَلَده
قَالَ فَأَخْبرنِي بعض البغداديين أَنه حمل من دَاره إِلَى الخزانة من الدَّنَانِير الْعين ثَمَانمِائَة ألف وَثَلَاثَة عشر ألف دِينَار وَبَقِي الأثاث والأملاك بِمَا يُقَارب تَتِمَّة ألف ألف دِينَار فَترك لوَلَده
أَقُول وَوجدت الصاحب جمال الدّين بن القفطي قد حكى من أَحْوَال صاعد بن توما الْمَذْكُور مَا هَذَا نَصه قَالَ كَانَ حكيما طيبا حسن العلاج كثير الْإِصَابَة مَيْمُون المعاناة فِي الْأَكْثَر لَهُ سَعَادَة تَامَّة فِي هَذَا الشَّأْن وَكَانَ من ذَوي المروءات والأمانات
تقدم فِي أَيَّام النَّاصِر إِلَى أَن كَانَ بِمَنْزِلَة الوزراء واستوثقه على حفظ أَمْوَال خواصه وَكَانَ يودعها عِنْده ويرسله فِي أُمُور خُفْيَة إِلَى وزرائه وَيظْهر لَهُ فِي كل وَقت وَكَانَ حسن الوساطة جميل الْمحْضر قضيت على يَدَيْهِ حاجات واستكفيت بوساطته شرور
وسالمته الْأَيَّام مُدَّة طَوِيلَة وَلم ير لَهُ غير شَاكر وناشر
وَكَانَ الإِمَام النَّاصِر فِي آخر أَيَّامه قد ضعف بَصَره وأدركه سَهْو فِي أَكثر أوقاته لأحزان تَوَاتَرَتْ على قلبه وَلما عجز عَن النّظر فِي الْقَصَص والانهاءات استحضر امْرَأَة من النِّسَاء البغداديات تعرف بست نسيم وقربها وَكَانَت تكْتب خطا قَرِيبا من خطه وَجعلهَا بَين يَدَيْهِ تكْتب الْأَجْوِبَة والرقاع وشاركها فِي ذَلِك خَادِم اسْمه تَاج الدّين رَشِيق
ثمَّ تزايد الْأَمر بالناصر فَصَارَت الْمَرْأَة تكْتب الْأَجْوِبَة بِمَا ترَاهُ فَمرَّة تصيب وَمرَّة تخطئ ويشاركها رَشِيق فِي مثل ذَلِك
وَاتفقَ أَن كتب الْوَزير القمي الْمَدْعُو بالمؤيد مطالعة وَحملهَا وَعَاد جوابها وَفِيه اختلال بَين
فتوقف الْوَزير وَأنكر ثمَّ استدعى الْحَكِيم صاعد بن توما وَأسر إِلَيْهِ مَا جرى وَسَأَلَهُ عَن تَفْصِيل الْحَال فَعرفهُ مَا الْخَلِيفَة عَلَيْهِ من عدم الْبَصَر والسهو الطَّارِئ فِي أَكثر الْأَوْقَات وَمَا تعتمده الْمَرْأَة وَالْخَادِم من الْأَجْوِبَة
فتوقف الْوَزير عَن الْعَمَل بِأَكْثَرَ الْأُمُور الْوَارِدَة عَلَيْهِ وَتحقّق الْخَادِم وَالْمَرْأَة ذَلِك وَقد كَانَت لَهما أغراض يُريدَان تمشيتها لأجل الدُّنْيَا واغتنام الفرصة فِي نيلها
فحدسا أَن الْحَكِيم هُوَ الَّذِي دله على ذَلِك فقرر رَشِيق مَعَ رجلَيْنِ من الْجند فِي الْخدمَة أَن يغتالا الْحَكِيم ويقتلاه وهما رجلَانِ يعرفان بولدي قمر الدولة من الأجناد الواسطية وَكَانَ أَحدهمَا فِي الْخدمَة وَالْآخر بطالا
فرصدا الْحَكِيم فِي بعض اللَّيَالِي إِلَى أَن أَتَى إِلَى دَار الْوَزير وَخرج عَنْهَا عَائِدًا إِلَى دَار الْخلَافَة وتبعاه إِلَى أَن وصل بَاب درب الْغلَّة الْمظْلمَة ووثبا عَلَيْهِ بسكينيهما فقتلاه
وَكَانَ بَين يَدَيْهِ مشعل وَغُلَام وَانْهَزَمَ الْحَكِيم لما وَقع إِلَى الأَرْض بحرارة الضَّرْب إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب خربة الهراس والقاتلان تابعان لَهُ فبصرهما وَاحِد وَصَاح خذوهم فعادا إِلَيْهِ وقتلاه وجرحا النفاط الَّذِي بَين يَدي الْحَكِيم
وَحمل الْحَكِيم إِلَى منزله مَيتا وَدفن بداره فِي ليلته
وَنفذ من البدرية من حفظ دَاره وَكَذَلِكَ من دَار الْوَزير لأجل الودائع الَّتِي كَانَت عِنْده للحرم والحشم الْخَاص وَبحث عَن القاتلين فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا وَتَوَلَّى الْقَبْض والبحث إِبْرَاهِيم بن جميل بمفرده وحملهما إِلَى منزله
وَلما كَانَ فِي بكرَة تِلْكَ اللَّيْلَة أخرجَا إِلَى مَوضِع الْقَتْل وشق بطناهما وصلبا على بَاب المذبح المحاذي لباب الْغلَّة الَّتِي جرح بهَا الْحَكِيم
وَكَانَ موت الْحَكِيم وَقَتله فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة عشْرين وسِتمِائَة















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید