المنشورات

سعيد بن توفيل

كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا متميزا فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ فِي خدمَة أَحْمد بن طولون من أطباء الْخَاص يَصْحَبهُ فِي السّفر والحضر وَتغَير عَلَيْهِ قبل مَوته
وَسَببه أَن أَحْمد بن طولون كَمَا تقدم ذكره كَانَ قد خرج إِلَى الشَّام وَقصد الثغور لإصلاحها وَعَاد إِلَى أنطاكية فَأَدْرَكته هيضة من ألبان الجواميس لِأَنَّهُ أسْرع فِيهَا واستكثر مِنْهَا فالتمس طبيبه سعيدا فَوَجَدَهُ قد خرج إِلَى بيعَة بأنطاكية فَتمكن غيظه عَلَيْهِ فَلَمَّا حضر اغلظ لَهُ فِي التَّأَخُّر عَنهُ وأنف أَن يشكو إِلَيْهِ مَا وجده
ثمَّ زَاد الْأَمر عَلَيْهِ فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَطَلَبه فجَاء متنبذا فَقَالَ لَهُ لي من يَوْمَيْنِ عليل وَأَنت شَارِب نَبِيذ فَقَالَ يَا سَيِّدي طلبتني أمس وَأَنا فِي بيعتي على مَا جرت عادتي وَحَضَرت فَلم تُخبرنِي بِشَيْء قَالَ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَن تسْأَل عَن حَالي قَالَ ظَنك يَا مولَايَ سيئ وَلست أسأَل أحدا من حاشيتك عَن شَيْء من أَمرك
قَالَ فَمَا الصَّوَاب السَّاعَة قَالَ لَا تقرب شَيْئا من الْغذَاء وَلَو قرمت إِلَيْهِ اللَّيْلَة وَغدا
قَالَ أَنا وَالله جَائِع وَمَا أَصْبِر
قَالَ هَذَا جوع كَاذِب لبرد الْمعدة
فَلَمَّا كَانَ فِي نصف اللَّيْل استدعى شَيْئا يَأْكُلهُ فجيء بفراريج كردباج حارة وبزماورد من دَجَاج وجداء بَارِدَة فَأكل مِنْهَا فَانْقَطع الإسهال عَنهُ فَخرج نسيم الْخَادِم وَسَعِيد فِي الدَّار قَالَ لَهُ أكل الْأَمِير خروف كردباج فخف عَنهُ الْقيام
قَالَ سعيد الله الْمُسْتَعَان ضعفت قوته الدافعة بقهر الْغذَاء لَهَا وستتحرك حَرَكَة مُنكرَة فوَاللَّه مَا وافى السحر حَتَّى قَامَ أَكثر من عشرَة مجَالِس وَخرج من أنطاكية وعلته تتزايد إِلَّا أَن فِي قوته احْتِمَالا لَهَا
وَطلب مصر وَثقل عَلَيْهِ ركُوب الدَّوَابّ فَعمِلت لَهُ عجلة كَانَت تجر بِالرِّجَالِ وطِئت لَهُ فَمَا وصل الفرما حَتَّى شكا إزعاجها فَركب المَاء إِلَى الْفسْطَاط وَضرب لَهُ بالميدان قبَّة نزل فِيهَا
وَلما حل ابْن طولون بِمصْر ظَهرت مِنْهُ نبوة فِي حق سعيد الطَّبِيب هَذَا وشكاه إِلَى إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم كَاتبه وَصَاحبه فَقَالَ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم لسَعِيد يعاتبه وَيحك أَنْت حاذق فِي صناعتك وَلَيْسَ لَك عيب إِلَّا أَنَّك مدل بهَا غير خاضع أَن تخدمه فِيهَا
والأمير وَإِن كَانَ فصيح اللِّسَان فَهُوَ أعجمي الطَّبْع وَلَيْسَ يعرف أوضاع الطِّبّ فيدبر نَفسه بهَا وينقاد لَك
وَقد أفْسدهُ عَلَيْك الإقبال فتلطف لَهُ وأرفق بِهِ وواظب عَلَيْهِ وراع حَاله
فَقَالَ سعيد وَالله مَا خدمتي لَهُ إِلَّا خدمَة الفار للسنور والسخلة للذئب وَأَن قَتْلِي لأحب إِلَيّ من صحبته
وَمَات أَحْمد بن طولون فِي علته هَذِه
وَقَالَ نسيم خَادِم أَحْمد بن طولون أَن سعيد بن توفيل المتطبب كَانَ فِي خدمَة الْأَمِير أَحْمد بن طولون فَطَلَبه يَوْمًا فَقيل لَهُ مضى يستعرض ضَيْعَة يَشْتَرِيهَا فامسك حَتَّى حضر
ثمَّ قَالَ لَهُ يَا سعيد اجْعَل ضيعتك الَّتِي تشتريها فتستغلها صحبتي وَلَا تغفلها وَاعْلَم أَنَّك تسبقني إِلَى الْمَوْت إِن كَانَ موتِي على فِرَاشِي فَإِنِّي لَا أمكنك بالاستمتاع بِشَيْء بعدِي
قَالَ نسيم وَكَانَ سعيد بن توفيل آيسا من الْحَيَاة لِأَن أَحْمد بن طولون امْتنع من مشاورته وَلم يكن يحضر إِلَّا وَمَعَهُ من يستظهر عَلَيْهِ بِرَأْيهِ ويعتقد فِيهِ أَنه فرط فِي أول أمره وَابْتِدَاء الْعلَّة بِهِ حَتَّى فَاتَ أمره
وَفِي التَّارِيخ أَن سعيد بن توفيل كَانَ لَهُ فِي أول مَا صحب أَحْمد شاكري قَبِيح الصُّورَة كَانَ ينفض الْكَتَّان مَعَ أَب لَهُ واسْمه هَاشم وَكَانَ يخْدم بغلة سعيد ويمسكها لَهُ إِذا دخل دَار أَحْمد ابْن طولون
وَكَانَ سعيد يَسْتَعْمِلهُ فِي بعض الْأَوْقَات فِي سحق الْأَدْوِيَة بداره إِذا رَجَعَ مَعَه وينفخ النَّار على المطبوخات
وَكَانَ لسَعِيد بن توفيل ابْن حسن الصُّورَة ذكي الرّوح حسن الْمعرفَة بالطب فَتقدم أَحْمد بن طولون إِلَى سعيد أول مَا صَحبه أَن يرتاد متطببا يكون لحرمه وَيكون مُقيما بالحضرة فِي غيبته فَقَالَ لَهُ سعيد لي ولد قد عَلمته وخرجته
قَالَ أرنيه فَأحْضرهُ فَرَأى شَابًّا رائقا حسن الْأَسْبَاب كلهَا
فَقَالَ لَهُ أَحْمد بن طولون لَيْسَ يصلح هَذَا لخدمة الْحرم احْتَاجَ لَهُنَّ حسن الْمعرفَة قَبِيح الصُّورَة فأشفق سعيد أَن ينصب لَهُم غَرِيبا فينبو عَنهُ وَيُخَالف عَلَيْهِ فَأخذ هاشما وَألبسهُ دراعة وخفين ونصبه للحرم
فَذكر جريج ابْن الطباخ المتطبب قَالَ لقِيت سعيد بن توفيل وَمَعَهُ عمر بن صَخْر
فَقَالَ لَهُ عمر مَا الَّذِي نصبت هاشما لَهُ قَالَ خدمَة الْحرم لِأَن الْأَمِير طلب قَبِيح الْخلقَة
فَقَالَ لَهُ عمر قد كَانَ فِي أَبنَاء الْأَطِبَّاء قَبِيح قد حسنت تَرْبِيَته وطاب مغرسه يصلح لهَذَا وَلَكِنَّك استرخصت الصَّنْعَة
وَالله يَا أَبَا عُثْمَان إِن قويت يَده ليرجعن إِلَى دناءة منصبه وخساسة محتده
فتضاحك سعيد بغرته من هَذَا الْكَلَام
وَتمكن هَاشم من الْحرم بإصلاحه لَهُم مَا يوافقهم من عمل أدوية الشَّحْم وَالْحَبل وَمَا يحسن اللَّوْن ويغزر الشّعْر حَتَّى قدمه النِّسَاء على سعيد
فَلَمَّا جمع الْأَطِبَّاء على الغدو إِلَى أَحْمد بن طولون فِي كل يَوْم عِنْد اشتداد علته قَالَت مائَة ألف أم أبي المشائر قد احضر جمَاعَة من الْأَطِبَّاء وَلم يحضر هَاشم وَالله يَا سَيِّدي مَا فيهم مثله فَقَالَ لَهَا أحضرينيه سرا حَتَّى أشافهه واسمع كَلَامه فأدخلته إِلَيْهِ سرا وشجعته على كَلَامه
فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ نظر وَجهه وَقَالَ أغفل الْأَمِير حَتَّى بلغ إِلَى هَذِه الْحَالة لَا أحسن الله جَزَاء من كَانَ يتَوَلَّى أمره
قَالَ لَهُ أَحْمد بن طولون فَمَا الصَّوَاب يَا مبارك قَالَ تتَنَاوَل قميحة فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَعدد قَرِيبا من مائَة عقار وَهَذِه القمائح تمسك وَقت أَخذهَا وتعود بِضَرَر بعد ذَلِك لِأَنَّهَا تتعب القوى
فَتَنَاولهَا أَحْمد وَأمْسك عَن تنَاول مَا عمله سعيد والأطباء
وَلما أَمْسَكت حسن موقع ذَلِك عِنْد أَحْمد وَظن أَن الْبُرْء قد تمّ لَهُ
ثمَّ قَالَ أَحْمد لهاشم إِن سعيدا قد حماني من شهر عَن لقْمَة عصيدة وَأَنا أشتهيها قَالَ يَا سَيِّدي أَخطَأ سعيد وَهِي مغذية وَلها أثر حميد فِيك
فَتقدم أَحْمد بن طولون بإصلاحها فجيء مِنْهَا بجام وَاسع فَأكل أَكْثَره وطاب نفسا ببلوغ شَهْوَته ونام ولحجت العصيدة فَتوهم أَن حَاله زَادَت صلاحا
وكل هَذَا يطوى عَن سعيد بن توفيل
وَلما حضر سعيد قَالَ لَهُ مَا تَقول فِي العصيدة قَالَ هِيَ ثَقيلَة على الْأَعْضَاء وتحتاج أَعْضَاء الْأَمِير إِلَى تَخْفيف عَنْهَا
قَالَ لَهُ أَحْمد دَعْنِي من هَذِه المخرقة قد أكلتها ونفعتني وَالْحَمْد لله
وَجِيء بفاكهة من الشَّام فَسَأَلَ أَحْمد بن طولون سعيد بن توفيل عَن السفرجل فَقَالَ تمص مِنْهُ على خلو الْمعدة والأحشاء فَإِنَّهُ نَافِع
فَلَمَّا خرج سعيد من عِنْده أكل أَحْمد بن طولون سفرجلا فَوجدَ السفرجل العصيدة فعصرها فتدافع الإسهال فَدَعَا سعيدا فَقَالَ يَا ابْن الفاعلة ذكرت أَن السفرجل نَافِع لي وَقد عَاد إِلَيّ الإسهال فَقَامَ فَنظر الْمَادَّة وَرجع إِلَيْهِ فَقَالَ هَذِه العصيدة الَّتِي حمدتها وَذكرت أَنِّي غَلطت فِي منعهَا فَإِنَّهَا لم تزل مُقِيمَة فِي الأحشاء لَا تطِيق تغييرها وَلَا هضمها لضعف قواها حَتَّى عصرها السفرجل وَلم أكن أطلقت لَك أكله وَإِنَّمَا أَشرت بمصه
ثمَّ سَأَلَهُ عَن مِقْدَار مَا أكل مِنْهُ فَقَالَ سفرجلتين
فَقَالَ سعيد أكلت السفرجل للشبع وَلم تَأْكُله للعلاج
فَقَالَ يَا ابْن الفاعلة جَلَست تنادرني وَأَنت صَحِيح سوي وَأَنا عليل مدنف
ثمَّ دَعَا بالسياط فَضَربهُ مِائَتي سَوط وَطَاف بِهِ على جمل وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من ائْتمن فخان وَنهب الْأَوْلِيَاء منزله وَمَات بعد يَوْمَيْنِ وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِمصْر
وَقيل فِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَهِي السّنة الَّتِي مَاتَ ابْن طولون فِي ذِي قعدتها
وَالله أعلم










مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید