المنشورات

ابْن الصّلاح

هُوَ الشَّيْخ الْعَالم نجم الدّين أَبُو الْفتُوح أَحْمد بن مُحَمَّد بن السّري وَكَانَ يعرف بِابْن الصّلاح فَاضل فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة جيد الْمعرفَة بهَا مطلع على دقائقها وأسرارها فصيح اللِّسَان قوي الْعبارَة مليح التصنيف متميز فِي علم صناعَة الطِّبّ وَكَانَ أعجميا أَصله من هَمدَان وقطن بِبَغْدَاد واستدعاه حسام الدّين تمرتاش بن الْغَازِي بن أرتق إِلَيْهِ وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام وَبَقِي فِي صحبته مُدَّة
ثمَّ توجه ابْن الصّلاح إِلَى دمشق
وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله بِدِمَشْق لَيْلَة الْأَحَد سنة نَيف وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن فِي مَقَابِر الصُّوفِيَّة عِنْد نهر بانياس بِظَاهِر دمشق
ونقلت من خطّ الشَّيْخ الْحَكِيم أَمِين الدّين أبي زَكَرِيَّا يحيى بن إِسْمَاعِيل البياسي رَحمَه الله قَالَ كَانَ قد ورد إِلَى دمشق الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الفيلسوف أَبُو الْفتُوح بن الصّلاح من بَغْدَاد وَنزل عِنْد الشَّيْخ الْحَكِيم أبي الْفضل إِسْمَاعِيل ابْن أَبُو الْوَقار الطَّبِيب
وَأَرَادَ ابْن الصّلاح أَن يسْتَعْمل لَهُ تمشكا بغداديا وَسَأَلَ عَن صانع مجيد لعمل ذَلِك فَدلَّ على رجل يُقَال لَهُ سَعْدَان الإسكاف
فَاسْتعْمل التمشك عِنْده وَلما فرغ مِنْهُ بعد مُدَّة وجده ضيق الصَّدْر زَائِد الطول رَدِيء الصَّنْعَة فَبَقيَ فِي أَكثر أوقاته يعِيبهُ ويستقبح صَنعته وَيَلُوم الَّذِي اسْتَعْملهُ
وَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا الحكم المغربي الطَّبِيب فَقَالَ على لِسَان الفيلسوف هَذِه القصيدة على سَبِيل المجون وَذكر فِيهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من اصْطِلَاحَات الْمنطق والألفاظ الْحكمِيَّة والهندسية وَهِي
(مصابي مصاب تاه فِي وَصفه عَقْلِي ... وأمري عَجِيب شَرحه يَا أَبَا الْفضل)
(أبثك مَا بِي من أسى وصبابة ... وَمَا قد لقِيت فِي دمشق من الذل)
(قدمت إِلَيْهَا جَاهِلا بأمورها ... على إِنَّنِي حوشيت فِي الْعلم من جهل)
(وَقد كَانَ فِي رجْلي تمشك فخانني ... عَلَيْهِ زمَان لَيْسَ يحمد فِي فعل)
(فَقلت عَسى أَن يخلف الدَّهْر مثله ... وهيهات أَن أَلْقَاهُ فِي الْحزن والسهل)
(ولاحقني نذل دهيت بِقُرْبِهِ ... فَللَّه مَا قاسيت من ذَلِك النذل)
(فَقلت لَهُ يَا سعد جد لي بحاجة ... تخور بهَا شكر امْرِئ عَالم مثلي)
(بحقي عَسى تستنخب الْيَوْم قِطْعَة ... من الْأدم المدبوغ بالعفص والخل)
(فَقَالَ على رَأْسِي وحقك وَاجِب ... على كل إِنْسَان يرى مَذْهَب الْعقل)
(فناولته فِي الْحَال عشْرين درهما ... وسوفني شَهْرَيْن بِالدفع والمطل)
(فَلَمَّا قضى الرَّحْمَن لي بنجازه ... وَقلت ترى سعد أَن انجز لي شغلي)
(أَتَى بتمشك ضيق الصَّدْر أحنف ... بكعب غَدا حتفا على الكعب وَالرجل)
(وبشتيكه بشتيك سوء مقارب ... أضيف إِلَى نعل شَيْبه بِهِ فسل)
(بشكل على الأذهان يعسر حلّه ... ويعيي ذَوي الْأَلْبَاب وَالْعقد والحل)
(وَكَعب إِلَى القطب الشمالي ماثل ... وَوجه إِلَى القطب الجنوبي مستعلي)
(وَمَا كَانَ فِي هندامه لي صِحَة ... وَلَكِن فَسَاد شاع فِي الْفَرْع وَالْأَصْل)
(موازاة خطى جانبيه تخالفا ... فجزء إِلَى علو وجزء إِلَى سفل)
(وَكم فِيهِ من عيب وخرز مفتق ... يعاف وَمن قطع من الزيج والنعل)
(بوصل ضَرُورِيّ وَقد كَانَ مُمكنا ... لعمرك أَن يَأْتِي التمشك بِلَا وصل)
(وَفِيه اختلال من قِيَاس مركب ... فَلَا ينْتج الشرطي مِنْهُ وَلَا الحملي)
(فَلَا شكله القطاع مِمَّا يَلِيق أَن ... أصون بِهِ رجْلي فَلَا كَانَ من شكل)
(وَلَا جنس أيساغوجه بَين وَلَا ... يحد لَهُ نوع إِذا جِيءَ بِالْفَصْلِ)
(فَسَاد طرافى شكله عِنْد كَونه ... فَقل أَي شَيْء عَن مقابحه يسلي)
(وَقد كَانَ فِيهِ قُوَّة لمرادنا ... فأعوزنا مِنْهُ الْخُرُوج إِلَى الْفِعْل)
(فَلَو كَانَ معدول الْكَمَال احتملته ... وَلَكِن سليب الْحس فِي الْجُزْء وَالْكل)
(فيا لَك فِي إِيجَاب مَا الصدْق سلبه ... وَعدل قضايا جَاءَ من غير ذِي عدل)
(وَمَا عازني فِيهِ اختلال مقوله ... فجوهره والكم والكيف فِي خبل)
(وَأي القضايا لم يبن فِيهِ كذبهَا ... وَأي قِيَاس لَيْسَ فِيهِ بمعتل)
(لقد أعوز الْبُرْهَان مِنْهُ شَرَائِط ... فإيجابه ثمَّ الضَّرُورِيّ والكلي)
(إِذا حط فِي شمس فمخروط باشه ... لملتفت يُبْدِي انحرافا إِلَى الظل)
(وطبطب فِي رجْلي والصيف مَا انْقَضى ... فَكيف بِهِ أَن صرت فِي الطين والوحل)
(فأذهلني حَتَّى بقيت مغيبا ... وَلم يبْق لي سَعْدَان يَا صَاح من عقل)
(وَفِي كل ذَا قد بَان نقف دماغه ... فأهون بشخص نَاقص الْعقل مختل)
(وأخرب بَيت مِنْهُ فِي الْخلق مَا ترى ... سَرِيعا وَأولى بالهوان وبالأزل)
(وأوقليدس لَو عَاشَ أعيا انحلاله ... عَلَيْهِ لِأَن الشكل مُمْتَنع الْحل)
(فَحِينَئِذٍ أَقْسَمت بِاللَّه خالقي ... وَهود أخي عَاد وشيث وَذي الكفل)
(وَسورَة يس وطه وَمَرْيَم ... وصاد وحم ولقمان والنمل)
(لَئِن لم أجد فِي المزلقان ملاسة ... تؤاتي كراعي لَا جَعَلْنَاهُ فِي حل)
(وَلَا قلت شعرًا فِي دمشق وَلَا أرى ... أعاتب اسكافا بجد وَلَا هزل)
(دهيت بِهِ خلا ينغص عيشتي ... فَلَا بَارك الرَّحْمَن لي فِيهِ من خل)
(وَكم آلم الإسكاف قلبِي بمطله ... ولاقيت مَا لاقاه مُوسَى من الْعجل)
(وَكَانَ أرسطاليس يدهى بمعشر ... يرومون مِنْهُ أَن يُوَافق فِي الْهزْل)
(وبقراط قد لَاقَى أمورا كَثِيرَة ... وَلكنه لم يلق فِي أَهله مثلي)
(وَقد كَانَ جالينوس أَن عض رجله ... تمشك يداوي الْعقر بالمرهم النخلي)
(وقسطا بن لوقا كَانَ يحفى لأجل ذَا ... وَمَا كَانَ يصغي فِي حفاه إِلَى عذل)
(وَكَانَ أَبُو نصر إِذا زار معشرا ... وَضاع لَهُ نعل يروح بِلَا نعل)
(وأرباب هَذَا الْعلم مَا فتئوا كَذَا ... يقاسون مَا لَا يَنْبَغِي من ذَوي الْجَهْل)
(لذَلِك إِنِّي مذ حللت بجلق ... نَدِمت فأزمعت الرُّجُوع إِلَى أَهلِي)
(وَلَو كنت فِي بَغْدَاد قَامَ لنصرتي ... هُنَالك أَقوام كرام ذَوُو نبل)
(وَمَا كنت أَخْلو من ولي مساعد ... وَذي رَغْبَة فِي الْعلم اكْتُبْ مَا أملي)
(فيا لَيْتَني مستعجلا طرت نَحْوهَا ... وَمن لي بِهَذَا وَهُوَ مُمْتَنع من لي)
(فَفِي الشَّام قد لاقيت ألف بلية ... فيا لَيْت أَنِّي مَا حططت بهَا رحلي)
(على أنني فِي جلق بَين معشر ... أعاشر مِنْهُم معشرا لَيْسَ من شكلي)
(فاقسم مَا نوء الثريا إِذا همى ... وجاد على الْأَرْضين رائمة الْمحل)
(وَلَا بَكت الخنساء صخرا شقيقها ... وأدمعها فِي الخد دائمة الهطل)
(بأغزر من دمعي إِذا مَا رَأَيْته ... وَقد جَاءَ فِي رجْلي منحرف الشكل)
(وأمرضني مَا قد لقِيت لأَجله ... فيا لَيْت أَنِّي قد بقيت بِلَا رجْلي)
(فَهَذَا وَمَا عددت بعض خصاله ... فَكيف احتراسي من أذيته قل لي)
(وَمن عظم مَا قاسيت من ضيق بأسه ... أَخَاف على جسمي من السقم والسل)
(فيا لتمشك مذ تَأَمَّلت شكله ... علمت يَقِينا أَنه مُوجب قَتْلِي)
(وينشد من يَأْتِيهِ نعيي بجلق ... بِنَا مِنْك فَوق الرمل مَا بك فِي الرمل)
(فَلَا تعجبوا مهما دهاني فإنني ... وجدت بِهِ مَا لم يجد أحد قبلي) الطَّوِيل
وَلابْن الصّلاح من الْكتب مقَالَة فِي الشكل الرَّابِع من أشكال الْقيَاس الحملى وَهَذَا الشكل الْمَنْسُوب إِلَى جالينوس
كتاب فِي الْفَوْز الْأَصْغَر فِي الْحِكْمَة

















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید