المنشورات

عمي رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة

هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن خَليفَة بن يُونُس بن أبي الْقَاسِم بن خَليفَة من الْخَزْرَج من ولد سعد بن عبَادَة
مولده بحلب فِي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ مولد أبي قبله فِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ المعزية وَنَشَأ أَيْضا بِالْقَاهِرَةِ واشتغلا بهَا وَذَلِكَ أَن جدي رَحمَه الله كَانَت لَهُ همة عالية ومحبة للفضائل وَأَهْلهَا وَله نظر فِي الْعُلُوم وَيعرف بِابْن أبي أصيبعة وَكَانَ قد توجه إِلَى الديار المصرية عِنْدَمَا فتحهَا الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
وَكَانَ فِي خدمته وخدمة أَوْلَاده وَكَانَ من جملَة معارف جدي وأصدقائه من دمشق جمال الدّين أبي الحوافر الطَّبِيب وشهاب الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف الكحال وَذَلِكَ أَن مولد جدي كَانَ بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا وَأقَام سِنِين كَثِيرَة
فَلَمَّا اجْتمع بِجَمَال الدّين بن أبي الحوافر بِمصْر وبأبي الْحجَّاج يُوسُف وَكَانَ قد ترعرع أبي وَعمي وَقصد إِلَى تعليمهما صناعَة الطِّبّ لمعرفته بِشَرَفِهَا وَكَثْرَة احْتِيَاج النَّاس إِلَيْهَا وَأَن صَاحبهَا الْمُلْتَزم لما يحب من حُقُوقهَا يكون مبجلا حظيا فِي الدُّنْيَا وَله الدرجَة الْعليا فِي الْآخِرَة
وَترك أبي وَعمي يلازمان ذَيْنك الشَّيْخَيْنِ ويغتنمانهما
فلازم أبي أَبَا الْحجَّاج يُوسُف واشتغل بصناعة الْكحل وباشر مَعَه أَعمالهَا
وَكَانَ أَبُو الْحجَّاج يكحل فِي البيمارستان بِالْقَاهِرَةِ غير الْموضع الَّذِي صَار حِينَئِذٍ بِالْقَاهِرَةِ بيمارستانا وَهُوَ من جملَة الْقصر
وَكَانَ البيمارستان فِي ذَلِك الْوَقْت فِي السقطين أَسْفَل الْقَاهِرَة وَكَانَ جدي يسكن إِلَى جَانِبه فَبَقيَ أبي ملازما لأبي الْحجَّاج يُوسُف ومتعلما مِنْهُ إِلَى أَن أتقن صناعته وَقَرَأَ أَيْضا على غَيره من أَعْيَان الْمَشَايِخ الْأَطِبَّاء فِي ذَلِك الْوَقْت بِمصْر مثل الرئيس مُوسَى الْقُرْطُبِيّ صَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة وَمن هُوَ فِي طبقته
ولازم عمي لجمال الدّين بن أبي الحوافر واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ
وَأول اشْتِغَال عمي بِالْعلمِ أَنه كَانَ عِنْد تَقِيّ الْمعلم وَهُوَ أَبُو التقي صَالح بن أَحْمد إِبْرَاهِيم بن الْحسن ابْن سُلَيْمَان العرشي الْمَقْدِسِي
وَكَانَ هَذَا تَقِيّ يعرف علوما كَثِيرَة وَكَانَت لَهُ سيرة حسنه فِي التَّعْلِيم فِي الْكتب وسياسة مَشْهُورَة عَنهُ لم يكن أحد يقدر عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ
وَلما أتقن عمي رَحمَه الله حفظ الْقُرْآن عِنْد تَقِيّ وَعلم الْحساب وَشرع فِي تعلم صناعَة الطِّبّ وَالنَّظَر فِيهِ لَازم جمال الدّين بن أَي الحوافر وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت رَئِيس الْأَطِبَّاء بالديار المصرية وصاحبها الْملك الْعَزِيز عُثْمَان بن عبد الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين
وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من كتب جالينوس السِّتَّة عشر وَحفظ مِنْهَا الْكتب الأولة فِي أسْرع وَقت ثمَّ باحث الْأَطِبَّاء ولازم مُشَاهدَة المرضى بالبيمارستان وَمَعْرِفَة أمراضهم وَمَا يصف الْأَطِبَّاء لَهُم وَكَانَ فِيهِ جمَاعَة من أَعْيَان الْأَطِبَّاء
ثمَّ قَرَأَ فِي أثْنَاء ذَلِك علم صناعَة الْكحل وباشر أَعمالهَا عِنْد القَاضِي نَفِيس الدّين الزبير وَكَانَ الْمُتَوَلِي للكحل فِي ذَلِك الْوَقْت فِي البيمارستان
وَكَذَلِكَ أَيْضا بَاشر مَعَه فِي البيمارستان أَعمال الْجراح
وَكَانَ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ يَوْمئِذٍ فِي الْقَاهِرَة وَكَانَ صديقا لجدي وَبَينهمَا مَوَدَّة أكيدة فاشتغل عمي عَلَيْهِ بِشَيْء من الْعَرَبيَّة وَالْحكمَة
وَكَانَ يبْحَث مَعَه فِي كتب أرسطوطاليس ويناقشه فِي الْمَوَاضِع المشكلة مِنْهَا وَكَانَ يجْتَمع أَيْضا بسديد الدّين وَهُوَ عَلامَة فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة ويشتغل عَلَيْهِ
وَكَانَ أَيْضا قبل ذَلِك قد اشْتغل بِعلم النُّجُوم على أبي مُحَمَّد بن الْجَعْدِي
وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ فَاضلا فِي علم النُّجُوم متميزا فِي أَحْكَامه وَكَانَ لحق الْخُلَفَاء المصريين ويعد من الْخَواص عِنْدهم
وَكَانَ أَبوهُ من أَعْيَان الْأُمَرَاء فِي دولتهم
وَأما صناعَة الموسيقى فَكَانَ قد أَخذهَا عَن ابْن الديجور الْمصْرِيّ وَعَن صفي الدّين أبي عَليّ بن التبَّان
ثمَّ بعد ذَلِك أَيْضا اجْتمع بأعيان المصنفين فِي هَذَا الْفَنّ مثل الْبَهَاء المصلح الْكَبِير وشهاب الدّين النقجوني وشجاع الدّين بن الْحصن الْبَغْدَادِيّ وَمن هُوَ فِي طبقتهم وَأخذ عَنْهُم كثيرا من تصانيف الْعَرَب والعجم
وَلم يكن لِعَمِّي دأب فِي سَائِر أوقاته من صغره إِلَّا النّظر فِي الْعُلُوم والاشتغال وتكميل نَفسه بالفضائل
وَلما عَاد جدي إِلَى الشَّام وانتقل إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ لِعَمِّي فِي ذَلِك الْوَقْت من الْعُمر نَحْو الْعشْرين سنة شرع عمي فِي معالجة المرضى والتزيد فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ فِي دمشق الشَّيْخ رَضِي الدّين يُوسُف بن حيدرة الرَّحبِي وَكَانَ كثير الصداقة لجدي من السنين الْكَثِيرَة وَسمع بعمي وَلما شَاهده وَرَأى تَحْصِيله فَرح بِهِ وَبَقِي عمي يحضر مَجْلِسه وَيقْرَأ عَلَيْهِ ويبحث مَعَه فِي صناعَة الطِّبّ
وباشر المرضى فِي البيمارستان الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي وَكَانَ فِيهِ من الْأَطِبَّاء موفق الدّين بن الصّرْف وَالشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
واشتغل أَيْضا بالحكمة فِي ذَلِك الْوَقْت على موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ لِأَنَّهُ كَانَ أَيْضا قد عَاد إِلَى الشَّام وَكَانَ بِدِمَشْق أَيْضا جمَاعَة من أهل الْأَدَب وَمَعْرِفَة الْعَرَبيَّة مثل زين الدّين بن معطي فلازمه واشتغل عَلَيْهِ وَمثل تَاج الدّين بن حسن الْكِنْدِيّ أبي الْيمن وَكَانَ صديقا لجدي وَبَينهمَا مَوَدَّة سالفة من عِنْد عز الدّين فرخشاه
فلازمه عمي أَيْضا واشتغل عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وأتقن عمي هَذِه الْعُلُوم بأسرها وَصَارَ شَيخا يقْتَدى بِهِ فِي صناعَة الطِّبّ ويشتغل عَلَيْهِ بهَا
وَله من الْعُمر دون الْخمس وَعشْرين سنة وَكَانَ أَيْضا يشْعر ويترسل وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ وَيعرف تصاريف لُغَة الْفرس وينظم شعرًا بالفارسي
وَكَانَ أَيْضا يتَكَلَّم بالتركي
وَلما كَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر شهر رَمَضَان سنة خمس وسِتمِائَة استدعاه السُّلْطَان الْملك الْمُعظم عِيسَى ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَسمع كَلَامه وَحسن موقعه عِنْده وأنعم عَلَيْهِ وَأمر أَن يَنْتَظِم فِي خدمته فاتفقت تعاويق من حركات السُّلْطَان
وَبعد ذَلِك بأيام سمع بِهِ صَاحب بعلبك وَهُوَ الْملك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن عز الدّين فرخشاه بن شاهان شاه بن أَيُّوب فَبعث إِلَيْهِ يستدعيه ويستدعي جدي لِأَنَّهُ كَانَ يعرفهُ من عهد أَبِيه
فَلَمَّا وصلا إِلَيْهِ تلقاهما وَأحسن إِلَيْهِمَا غَايَة الْإِحْسَان وَأطلق لَهما الجامكية
والجراية والرتب
وَحسن موقع عمي عِنْده جدا حَتَّى كَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي أَكثر أوقاته وَلما رأى علمه بِالْحِسَابِ وجودة تصرفه فِيهِ طلب مِنْهُ يرِيه شَيْئا من الْحساب فامتثل أمره وعرفه جملَة مِنْهُ وَألف لَهُ كتابا فِي الْحساب يحتوي على أَربع مقالات
وَكَانَ للْملك الأمجد رَحمَه الله نظر فِي الْفَضَائِل ورغبة فِي أَهلهَا وينظم شعرًا جيدا وَله ديوَان مَشْهُور
وَلما كَانَ فِي سنة تسع وسِتمِائَة مَرضت عَيْني خَادِم يُقَال لَهُ سليطة للسُّلْطَان الْملك الْعَادِل أبي بكر ابْن أَيُّوب وَهُوَ يعزه كثيرا وتفاقم الْمَرَض فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى هَلَكت ويئس مِنْهَا
وَرَآهُ الْمَشَايِخ من الْأَطِبَّاء والكحالين وكل عجز عَن مداواته وَأَجْمعُوا أَنه قد عمي وَأَن المداواة لم يبْق لَهَا فِيهِ تَأْثِير أصلا
وَلما رَآهُ أبي وَتَأمل عَيْنَيْهِ قَالَ أَنا أداوي عَيْني هَذَا ويبصر بهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَشرع فِي مداواته وَفِي علاجه وَعَيناهُ فِي كل وَقت تصلح حَتَّى كملت عافيته وبرأ برءا تَاما وَركب وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَولا حَتَّى كَانَ يتعجب مِنْهُ
وَظَهَرت مِنْهُ فِي مداواته معْجزَة لم يسْبق إِلَيْهَا فَأحْسن الْملك الْعَادِل ظَنّه بِهِ كثيرا وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام من الْخلْع وَغَيرهَا
وَكَانَ لَهُ قبل ذَلِك أَيْضا تردد إِلَى الدّور السُّلْطَانِيَّة بالقلعة بِدِمَشْق وداوى بهَا جمَاعَة كَانَت فِي أَعينهم أمراض صعبة فصلحوا فِي أسْرع وَقت
وَعرف بذلك أَيْضا الْملك الْعَادِل وَقَالَ مثل هَذَا يجب أَن يكون معي فِي السّفر والحضر وَطَلَبه للْخدمَة فَسَأَلَ أَن يُعْفَى وَأَن يكون مُقيما بِدِمَشْق فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَأطلق لَهُ جامكية وجراية واستقرت خدمته لَهُ فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وسِتمِائَة
وَكَانَ حظيا عِنْده وَعند جَمِيع أَوْلَاده الْمُلُوك ويعتمدون عَلَيْهِ فِي المداواة وَله مِنْهُم الْإِحْسَان الْكثير والافتقاد التَّام
وَلم يزل فِي الْخدمَة إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَادِل رَحمَه الله وَملك دمشق بعده الْملك الْمُعظم فَأمر أَن يسْتَمر فِي خدمته وَكَانَ لَهُ فِيهِ أَيْضا من حسن الِاعْتِقَاد والرأي مثل أَبِيه وَأكْثر وخدم الْملك الْمُعظم لاستقبال صفر سنة عشرَة وسِتمِائَة وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْمُعظم رَحمَه الله
ورسم الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن الْملك الْمُعظم بِأَن يسْتَمر فِي خدمته وَأَن يجْرِي لَهُ مَا كَانَ مقررا فِي أَيَّام وَالِده
فَبَقيَ مَعَه إِلَى أَن اتّفق توجه الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك فَأَقَامَ أبي بِدِمَشْق وَصَارَ يتَرَدَّد إِلَى القعلة لخدمة الدّور السُّلْطَانِيَّة لكل من ملك دمشق من أَوْلَاد الْملك الْعَادِل وَغَيرهم وَكلهمْ يرَوْنَ لَهُ ويعتمدون عَلَيْهِ فِي المداواة وَله الجامكية والجراية والإنعام الْكثير
ويتردد أَيْضا إِلَى البيمارستان نور الدّين الْكَبِير وَله الجامكية والجراية وَالنَّاس يقصدونه من كل نَاحيَة لما يَجدونَ فِي مداواته من سرعَة الْبُرْء وَإِن أمراضا كَثِيرَة مِمَّا تكون مداواتها بالحديد يبرئها بذلك على أَجود مَا يُمكن وَمِنْهَا مَا يعالجها بالأدوية ويبرئها بهَا ويستغني أَصْحَابهَا عَن الْحَدِيد
وَهَذَا الْمَعْنى قد مدحه جالينوس فِي كِتَابه فِي محنة الطَّبِيب الْفَاضِل وَقَالَ رَأَيْت طَبِيبا يُبرئ بالأدوية الأدواء الَّتِي يبرئها المعالجون بالحديد بِالْقطعِ فعد ذَلِك على أَن لَهُ علما ودربة وحذقا
قَالَ وَأحمد أَيْضا من رَأَيْته يُبرئ بالأدوية وَحدهَا من أدواء الْعين مَا يعالجه غَيره بِالْقطعِ مثل الظفرة والجرب وَالْبرد وَالْمَاء والغلظ وَالشعر وَزِيَادَة اللَّحْم الَّذِي فِي المآقي ونقصانه
وَأحمد أَيْضا من رَأَيْته حلل من الْعين مَادَّة محتقنة فِيهَا بِسُرْعَة أَو رد الطَّبَقَة الَّتِي يُقَال لَهَا العنابية بعد أَن نتأت نتوءا كثيرا إِلَى موضعهَا حَتَّى لطئت أَو ظهر مِنْهُ غير ذَلِك مِمَّا هُوَ شَبيه فِي علاج الْعين بِغَيْر حَدِيد
هَذَا نَص جالينوس
وَقد رَأَيْت كثيرا من ذَلِك وَأَمْثَاله قد تأتى لأبي فِي المداواة وَكَثِيرًا أَيْضا من أمراض الْعين الَّتِي قد يئس من برئها قد صلحت بمداواته
كَمَا قَالَ فِيهِ بعض من عالجه وبرأ على يَدَيْهِ وَهُوَ شمس الْعَرَب الْبَغْدَادِيّ
(لسديد الدّين فِي الطِّبّ يَد ... لم تزل تنقذ طرفا من قذى)
(كم جلت عَن مقلة من ظلمَة ... وأماطت عَن جفون من أَذَى)
(لَا يعاني طب عين فِي الورى ... قطّ إِلَّا حاذق كَانَ كَذَا)
(يَا مسيح الْوَقْت كم من أكمه ... بك أضحى مبصرا ذَاك وَذَا)
(فبآرائك للداء دوا ... وبألفاظك للروح غذا)
(لَك عِنْدِي منن لَو إِنَّنِي ... شَاكر أيسرها يَا حبذا) الرمل
وشمس الْعَرَب هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن النفيس بن هبة الله بن وهبان السّلمِيّ
وَلم يزل أبي مترددا إِلَى الْخدمَة بقلعة دمشق وَإِلَى البيمارستان الْكَبِير النوري إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَدفن ظَاهر بَاب الفريدس فِي طَرِيق جبل قاسيون وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد صَاحب دمشق
وَلما كَانَ عمي عِنْد الْملك الأمجد وأتى إِلَى بعلبك الْملك الْمُعظم لنجدة الْملك الأمجد عِنْد عداوته الاسبتار واجتمعوا كَانَ عمي يجْتَمع مَعَهم
وَلم يكن فِي زَمَانه من يعرف الموسيقى واللعب بِالْعودِ مثله وَلَا أطيب صَوتا مِنْهُ
حَتَّى أَنه شوهد من تأثر الْأَنْفس عِنْد سَمَاعه مثل مَا يحْكى عَن أبي نصر الفارابي فَكثر إعجاب الْملك الْمُعظم بِهِ جدا وَبعد ذَلِك أَخذه إِلَيْهِ وَاسْتمرّ فِي خدمته من أول جُمَادَى سنة عشر وسِتمِائَة وَأطلق لَهُ الجامكية والجراية
وَلم يزل يواصله بالافتقاد والإنعام وَلَا يُفَارِقهُ فِي أَكثر أوقاته
وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَذَلِكَ كَانَ الْملك الْكَامِل مُحَمَّد وَالْملك الْأَشْرَف يعتمدان عَلَيْهِ
وَإِذا حضر أَحدهمَا عِنْد أَخِيه الْملك الْمُعظم لَا يزَال عِنْدهمَا
وَكَانَ لَهُ مِنْهُمَا الإنعام الْكثير
وَأعرف مرّة قد حضر الْملك الْكَامِل عِنْد أَخِيه الْملك الْمُعظم وَكَانَ عمي مَعَهُمَا وَكَانُوا فِي مجْلِس الْأنس فَأعْطى الْملك الْكَامِل لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خلعة كَامِلَة وَخَمْسمِائة دِينَار مصرية
وَلما كَانَ الْملك الْمُعظم بِدِمَشْق نَدبه أَن يتَوَلَّى كِتَابَة الْجَيْش وأكد عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَلم يَسعهُ إِلَّا امْتِثَال أمره وَقعد فِي الدِّيوَان وَحضر عِنْده الْجَمَاعَة والنواب وَشرع فِي الْكِتَابَة أَيَّامًا
ثمَّ رأى أَن أوقاته تمر بأسرها فِي الْكِتَابَة والحساب وَلم يبْق لَهُ وَقت لنَفسِهِ ولاشتغاله فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَغَيرهَا فَطلب من السُّلْطَان أَن يعفيه من ذَلِك وَتشفع إِلَيْهِ بِجَمَاعَة من خواصه حَتَّى أقاله
وَلما كَانَ فِي سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة حج الْملك الْمُعظم وَحج عمي مَعَه
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن اتّفقت نوبَة عمنَا فِي نصف شعْبَان سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة وَتَقَدَّمت الفرنج وتخالف الطَّرِيق بَين السُّلْطَان الْكَبِير الْملك الْعَادِل وَولده الْمُعظم فَمضى عمي صُحْبَة الْملك الْعَادِل نَحْو دمشق وَمضى الْملك الْمُعظم نَحْو نابلس
ثمَّ خرج عمي من دمشق صُحْبَة الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن الْملك الْمُعظم وَلما وصلوا عجلون أَمر بِرُجُوع وَلَده فَرَجَعُوا
وَبعد ذَلِك مرض عمي مَرضا وَطَالَ إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة فَرَأى أَن الْحَرَكَة تضره وَهُوَ بالطبع يمِيل إِلَى الِانْفِرَاد والاشتغال بالكتب
واستدعاه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب لما سمع بتحصيله وَسيرَته وَذَلِكَ فِي الْخَامِس من الْمحرم سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة وولاه طب البيمارستانين بِدِمَشْق اللَّذين وقفهما الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِمَا وَإِلَى القلعة
وَقرر لَهُ جامكية وجراية وأطلقت لَهُ أَيْضا سِتّ الشَّام أُخْت الْملك الْعَادِل جامكية فِي الطِّبّ وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى دارها
وَلما أَقَامَ بِدِمَشْق وَجعل لَهُ مَجْلِسا عَاما لتدريس صناعَة الطِّبّ واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة وَكلهمْ تميزوا فِي الطِّبّ
وَكَانَ يجْتَمع فِي ذَلِك الْوَقْت مَعَ علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ وَهُوَ عَلامَة وقته فِي الْعُلُوم الرياضية فَقَرَأَ عَلَيْهِ علم الْهَيْئَة واتقنها فِي أسْرع وَقت
وَلَقَد كَانَ علم الدّين يَوْمًا عِنْده وَهُوَ يرِيه أشكالا فِي علم الْهَيْئَة وَقَالَ لَهُ وَأَنا أسمع وَالله يَا رشيد الدّين هَذَا الَّذِي قد عَلمته فِي نَحْو شهر دأب غَيْرك فِي خمس سِنِين حَتَّى يُعلمهُ
وَاجْتمعَ أَيْضا عمي فِي دمشق بالسيد الإِمَام الْعَالم شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين بن حمويه وَألبسهُ خرقَة التصوف وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
وَهَذِه نُسْخَة مَا كتبه لَهُ مَعهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذَا مَا أنعم بِهِ الْمولى السَّيِّد الْأَجَل الإِمَام الْعَالم شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين حجَّة الْإِسْلَام علم الْمُوَحِّدين أَبُو الْحسن مُحَمَّد ابْن الإِمَام السَّيِّد الْأَجَل الْعَالم شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين أبي حَفْص عمر بن أبي الْحسن بن مُحَمَّد بن حمويه أدام الله تأييده من إلباس خرقَة التصوف على مريده عَليّ بن خَليفَة بن يُونُس الخزرجي الدِّمَشْقِي وَفقه الله على الطَّاعَات
ألبسهُ وَأخْبرهُ أَنه أَخذهَا عَن وَالِده الْمَذْكُور رَحمَه الله وَأَن وَالِده أَخذهَا عَن أَبِيه شيخ الْإِسْلَام معِين الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن حمويه رَحمَه الله وَإنَّهُ أَخذهَا عَن الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام
وَالْخضر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَخذهَا جده أَيْضا عَن الشَّيْخ أبي عَليّ الفارندي الطوسي وَأَخذهَا الْمَذْكُور عَن شيخ وقته أبي الْقَاسِم الكركاني وَأَخذهَا أَبُو الْقَاسِم عَن الْأُسْتَاذ الإِمَام أبي عُثْمَان المغربي
وَأَخذهَا أَبُو عُثْمَان عَن شيخ الْحرم أبي عَمْرو الزجاجي وَأَخذهَا الْمَذْكُور عَن سيد الطَّائِفَة الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَأَخذهَا الْجُنَيْد عَن خَاله سري السَّقطِي عَن معرف الْكَرْخِي عَن عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَام وَصَحبه وتأدب بِهِ وخدمه
وَأخذ عَليّ عَن أَبِيه مُوسَى بن جَعْفَر الكاظم عَن أَبِيه جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عَليّ الباقر عَن أَبِيه عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين عَن أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام
وَأَخذهَا عَليّ كرم الله وَجهه عَن سيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخذ مَعْرُوف أَيْضا عَن دَاوُد الطَّائِي عَن حبيب العجمي عَن سيد التَّابِعين الْحسن الْبَصْرِيّ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَانَ لِبَاسه الْخِرْقَة أعَاد الله عَلَيْهِ من بركاتها وعَلى جَمِيع من تشرف بهَا فِي الْعشْرين من شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة بِدِمَشْق المحروسة
وَبَين الأسطر بِخَط الْمولى صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ مَا هَذَا مِثَاله ألبست الْخِرْقَة للمذكور وَفقه الله تَعَالَى
وَكتب ابْن حمويه أَبُو الْحسن بن عمر بن أبي الْحسن بن مُحَمَّد فِي شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة حامدا لرَبه ومصليا على رَسُوله ومستغفرا من ذنُوبه
وَلما كَانَ فِي سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وصل إِلَى عمي كتاب من الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل ابْن الْملك الْعَادِل بِخَطِّهِ وَهُوَ يطْلب مِنْهُ أَن يتَوَجَّه إِلَيْهِ إِلَى مَدِينَة بصرى ليعالج والدته ومرضى أخر عِنْده وَيعود
وَكَانَ قد عرض فِي بصرى وباء عَظِيم فَتوجه إِلَيْهِ وعالج والدته فصلحت فِي مُدَّة يسيرَة وأنعموا عَلَيْهِ بِالذَّهَب وَالْخلْع
وَعرضت لِعَمِّي حمى حادة فَعَاد إِلَى دمشق وَلم يزل الْمَرَض يتزايد بِهِ وأعيان الْأَطِبَّاء ومشايخهم يلازمونه ويعالجونه إِلَى أَن انْقَضتْ مُدَّة حَيَاته
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي السَّاعَة الثَّانِيَة من يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَله من الْعُمر ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَدفن عِنْد أَبِيه وأخيه فِي ظَاهر بَاب الفراديس
وَمن كَلَامه فِي الْحِكْمَة مِمَّا سمعته مِنْهُ رَحمَه الله فَمن ذَلِك وَصِيَّة أول النَّهَار قَالَ قد أقبل هَذَا النَّهَار وَأَنت فِيهِ مُهَيَّأ لكل فعل فاختر لنَفسك أفضلهَا لتوصلك إِلَى أفضل الرتب وَعَلَيْك بِالْخَيرِ فَإِنَّهُ يقربك من الله ويحببك إِلَى النَّاس
وَإِيَّاك وَالشَّر فَإِنَّهُ يبعدك عَن الله ويبغضك إِلَى النَّاس
وَافْعل مَا تحاسب نَفسك عَلَيْهِ عِنْد انْقِضَاء هَذَا النَّهَار
والحذر من أَن يغلب شرك على خيرك
وَلَيْسَ الْفَاضِل من بَقِي على حَالَة الطبيعة مَعَ عدم المؤذيات بل الْفَاضِل من بَقِي عَلَيْهَا مَعَ وجود المؤذيات
والانقطاع عَن النَّاس أكبر مَانع للأذى
وَأَقْبل وَصَايَا الْأَنْبِيَاء واقتد بِأَفْعَال الْحُكَمَاء
وَعَلَيْك بِالصّدقِ فَإِن الْكَذِب يصغر الْإِنْسَان عِنْد نَفسه فضلا عَن غَيره
واحلم تشكر وتفضل فَإِن الحقد يعجل الْهم ويوقع فِي العداوات والشرور وَكَذَلِكَ الْحَسَد
وتجنب الأشرار تكف الْأَذَى وَأبْعد عَن أَرْبَاب الدُّنْيَا تكف الأشرار
واقنع من دنياك بِمَا تدفع بِهِ ضَرُورَة بدنك
وَأعلم أَن نهارك هَذَا قِطْعَة تذْهب من حياتك فأنفقها فِيمَا يعود عَلَيْك نَفعه
وَإِذا اندفعت ضَرُورَة بدنك اقْضِ بَاقِي نهارك فِي مصلحَة نَفسك وَافْعل بِالنَّاسِ مَا تشْتَهي أَن يفعلوه بك
وَإِيَّاك وَالْغَضَب والمبادرة إِلَى الانتقام من الْمُغْضب أَو الِانْفِصَال عَنهُ فَإِنَّهُ رُبمَا أوقع فِي النَّدَم
وَعَلَيْك بِالصبرِ فَإِنَّهُ رَأس كل حِكْمَة















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید