المنشورات

بخيل يبيع القرى

ونزل جريرٌ - الشاعر الإسلامي الأشهر - بقومٍ من بني العنبر بن عمرو بن تميم فلم يَقْروه، حتى اشترى منهم القِرى، فانصرف وهو يقول: 

يا مالِكُ ابنَ طَريفٍ إنَّ بَيْعَكُمُ ... رِفْدَ القِرَى مُفْسِدٌ لِلدِّينِ وَالحَسَبِ
قالوا نَبيعُكَهُ بَيْعاً فقلتُ لهُم ... بيعُوا المَوالِيَ واسْتَحْيُوا مِنَ العَرَبِ
لولا كِرامُ طَريفٍ ما غَفَرْتُ لَكمْ ... بَيْعي قِرَايَ ولا أنسأْتُكُمْ غَضبي
هلْ أنتمُ غَيرُ أَوْشابٍِ زَعانِفةٍ ... رِيشِ الذُّنابَى وليس الرأْسُ كالذَّنَبِ
قوله: بيعوا الموالي واستحيوا من العرب، قال المبرّد: تزعم الرواة: أنَّ جِلّةَ الموالي - عظماءَهم - أنِفوا من هذا البيت، لأنّه حطَّهم ووَضَعهم ورأى أنّ الإساءة إليهم غيرُ محسوبةٍ عيباً. . . وقوله: ولا أنسأتكم غَضبي، يقول: لم أؤخِّره عنكم، وقوله: هل أنتم غير أوشاب زعانفة، فالأشابةُ الجماعةُ تدخل في قومٍ وليست منهم وقد تطلق الأوشاب على أخلاطِ الناس تجتمع من كل أوْبٍ، مأخوذٌ من أشَبَ الشيءُ كضَرب. خلَطه، وأما الزّعانف فأصلها أجنحة السمك، سُمّي بذلك الأدعياءُ لأنّهم التصقوا بالصّميم كما التصقت تلك الأجنحةُ بعِظام السمك.

عبقرياتهم في قرى الأضياف
قال الله جلّ شأنه في مدح قوم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}. . . وقال سيدنا رسول الله: (أيُّما رجلٍ ضافَ قوماً فأصبح الضيفُ مَحْروماً، فإنَّ نصرَه حقٌّ على كل مسلم حتّى يأخذَ بقِرى ليلته من زَرْعِه ومالِه). . . 

وفي الحديث أيضاً: (الخيرُ أسرعُ إلى مُطعِم الطّعامِ مِنَ الشَّفْرةِ في سَنامِ البعير) الشفرة: السكين العظيمة العريضة وقال صلوات الله عليه: (ليس منّا من باتَ شبعانَ وضيفُه بطنُه طاوٍ). وقال تعالى في مدح القائم بخدمة ضيفه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}؟ قيل وصفهم بذلك لأنه قام بخدمتهم بنفسه. . . ونزل ضيفٌ على جعفر بن أبي طالب، فتَخفَّفَ هو وغِلمانه عند نزولِه وعاوَنوه في حلوله، فلما أراد الارتحالَ عنهم لم يُعِنْه غِلمانُه، فشكاهم فقال: إن غِلمانَنا لا يعينون على الارتحال. . . وقالوا: أمدحُ بيتٍ قالته العرب قولُ حسان بن ثابت:
يُغْشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يَسألونَ عن السَّوَادِ المُقْبلِ
يقول: قد أنِسَتْ كلابُهم بالزّوار فهي لا تَنْبَحُهم، وهم من شجاعتهم لا يسألون عن جيش يقبل نحوهم لقلّة اكتراثهم ولثقتهم ببسالةِ أنفسِهم وشدَّتهم على أعدائهم، ومثل هذا قول أبي تمام:
إذا اسْتُنْجِدُوا لم يسألوا مَنْ دَعاهُمُ ... لأيّةِ حربٍ أوْ لأيِّ مكانِ
أو تقول: لا يسألون عن السوادِ المقبل، أي أنّهم في سَعةٍ لا يَهولهم الجَمْعُ الكثير، لسَعَتِهم وسخائهم.
وقال إبراهيم بن هَرْمة من أبياتٍ في ابتهاجِ الكلبِ بالضّيف:
يَكادُ إذا ما أبْصَرَ الضّيفَ مُقْبِلاً ... يُكلِّمهُ مِنْ حُبِّه وهو أعجمُ
وقال حاتم الطائي وهو سيّد الأجواد بالطعام:
أُضاحِكُ ضَيْفي قبلَ إنْزالِ رَحْلِه ... ويُخْصِبُ عندي والمَحَلُّ جَديبُ
وما الخِصْبُ لِلأضيافِ أنْ يَكْثُرَ القِرَى ... ولكنّما وَجْهُ الكريمِ خَصِيبُ 

ومن قولهم في الحثِّ على ترك التكلّف وتعجيل الحاضر: سُئل أقْرى أهلِ اليمامة للضيف: كيف ضبطتم القِرى؟ قال: بأن لا نتكلّفَ ما ليس عندنا. . . وقال بعضهم: الضيفُ إلى القليل العاجل أحوجُ منه إلى الكثير الآجل، أما سمعت قول الله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}. وقال تعالى: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}. . . أي غير منتظرين نُضْجَه وإدراكَه وبلوغه، يقال: أني يأنى: إذا نضج.
ومن قولهم فيمن آثر على نفسه: قولُ صوفيٍّ لآخرَ: كيف يعمل فقراؤكم؟ قال: إذا وجدوا أكلوا، وإذا عَدِموا صبروا، فقال: هذا فِعْلُ الكلاب، إنّ الفقير منّا إذا عَدِمَ صبر، وإذا وجَد طعاماً آثر به غيره. . .
وقالوا في وصف الرجل الكريم يَسوء خلقه مع أهله خوف التقصير: والقائل زينب بنت الطّثَرِيَّة ترثي أخاها يزيد:
إذا نزَلَ الأضيافُ كان عَذَوَّراً ... على الأهلِ حتّى تسْتَقِلَّ مراجلُهْ
يُعِينُكَ مَظْلوماً ويُنجِيكَ ظالِماً ... وكُلُّ الذي حُمِّلْتَهُ فهو حامِلُهْ
العذوَّر: السيّئ الخُلق القليل الصبر فيما يريده ويهمُّ به، وإنما جعلته عذوَّراً لشدّة تهمُّمه بأمرِ الأضياف وحِرْصِه على تعجيل قِراهم حتى تستقل المراجل على الأثافيّ، والمراجل:
القدور واحدها مِرْجل، وقوله: وينجيك ظالماً، أي إنْ ظَلَمْت فطُولبت بظُلْمك حَماك ومَنع منك. 

هذا؛ ومن السُّنة - كما ورد في الحديث - أنْ يمشيَ الرجلُ مع ضيفه إلى بابِ الدار.
وقد كان الأضيافُ يُعطون النُّدُلَ ويَرضخون لهم بالمال فقد رَوى بعضهم قال: رأيت ابنَ عباس في وليمةٍ فأكلَ وألْقى للخَبّازِ درهماً.

محادثة الضيف
وكانوا تُجاه محادثةِ الضيف على الطّعام فريقين، ففريقٌ يستحبُّه ويستحْسِنه، ومِن صاحب الدعوةِ أحسنُ، وقالوا في ذلك: مُحادثةُ الإخوان - تزيدُ في لذَّة الطعام. وقال شاعرهم:
وأكثرُ ما أَلذُّ بهِ وأَلْهُو ... محادثةُ الضُّيوفِ على الطّعامِ
وأما الفريقُ الآخر فيكره الحديثَ على المائدةِ وقالوا في ذلك: مَنْ أكثرَ الكلامَ على طعامِه غشَّ بطنَه وثقُلَ على إخوانه. وقال الجاحظ في كتابه التاج: ولِشَيءٍ ما كانت ملوكُ آل ساسانَ - إذا قُدِّمت موائدُهم - زَمْزَموا عليها، فلم يَنْطِقْ ناطقٌ بحرفٍ حتى تُرفع، فإن اضطرّوا إلى كلام، كان مكانَه إشارةٌ أو إيماءٌ يدلّ على الغرض الذي أرادوا والمعنى الذي قصدوا. وكانوا يقولون إن هذه الأطعمة بها حياةُ هذا العالم، فينبغي للإنسان أن يجعلَ ذهنَه في مَطْعمِه ويشغلَ روحَه وجوارحَه فيه، حتى تأخذَ كلُّ جارحةٍ بقِسْطِها من الطّعام، فيغتذي بها البدنُ والروحُ الحيوانية التي في القلب والطبيعة التي في الكبد، اغتذاءً تاماً، وتقبله الطبيعة قبولاً جامِعاً. قال الجاحظ: وفي ترك الكلام على الطعامِ فضائلُ كثيرةٌ هي في آيينِهم. . . 

وقال المسعوديُّ في مروج الذهب: ذكروا أن كيومرث هو أوّلُ مَنْ أمرَ بالسّكوت عند الطعام، لتأخذ الطبيعةُ بقسطِها، فيصلحَ البدنُ بما يردُ إليه من الغذاء، وتسكن النفس عند ذلك، فتدبّر لكل عضو من الأعضاء تدبيراً يؤدي إلى ما فيه صلاحُ الجسم من أخذ صفو الطعام، فيكون الذي يرد إلى الكبد وغيره من الأعضاء القابلة للغذاء ما يناسبها وما فيه صلاحها، وإنّ الإنسان متى شُغل عن طعامه بضرب من الضروب، انصرف قسطٌ من التدبير وجزءٌ من التغذّي إلى حيث انصبابِ الهمّة ووقوع الاشتراك، فأضرّ ذلك بالنفس الحيوانية والقُوى الإنسانية، وإذا كان ذلك دائماً أدّى ذلك إلى مفارقة النفس الناطقة المميزة الفكرية لهذا الجسدِ المرئي، وفي ذلك تركٌ للحكمة وخروج عن الصواب. . . أقول: وقد
أيدتِ التّجاريبُ الحديثة هذا المذهب، إذْ تحقّقت أنّ الكلام على الطعام مدرجةٌ لسوءِ الهضم. . . وإنّي بحمد الله لعلى هذا المذهب مُذْ نشأتي، أي أنّي بفطرتي لا أتحدث على الطعام، حتّى عدَّ ذلك أهلي ومن يُخالطونني مغمزاً فيّ يشفّ عما وراءه، مما يشبه النّهم وليس به يعلم الله وإنّما هي الفطرة التي فطرني اللهُ عليها، ومن خُلقي أنّي أعدُّ الكلام على الطعام ضرباً من التكلُّف الذي لا أستسيغه. . . على أن الأكلَ مهمّةٌ حيوانيّة سخيفة يجمل أن لا يُحتفلَ بها هذا الاحتفالَ الكِسرويَّ الذي نراه هذه الأيام، ورحم الله جمالَ الدين الأفغاني إذ يقول: وددت لو أنّي خُلِقْتُ مصمتاً! وقبله قال الخليل بن أحمد: أثقل ساعاتي الساعةُ التي آكلُ فيها، أو كما قال:
أمّا محادثةُ الأضيافِ على غير الطعام: فمن المُجمع على استحسانه، وفي ذلك يقول مسكين الدّارمي أو عتبة بن بجير:
لِحَافِي لِحَافُ الضَّيْفِ والبيتُ بيتُهُ ... ولمْ يُلْهِني عنه الغَزالُ المُقنّعُ
أُحَدِّثهُ إنَّ الحديثَ مِنَ القِرَى ... وتَعْلَمُ نفسي أنّه سوف يَهْجَعُ
الغزال المقنّع: زوجته، ويهجع: ينام، يريد أنه يحدّثه ويقريه بهذا الحديث حتّى ينام.
وكانوا لكرمهم يفضلون الاجتماع على الأكلِ ويستقبحون التفرّد: شكا رجلٌ إلى سيّدنا رسول الله قلّةَ البركة في طعامهم، فقال: لعلكم تتفرّقون على طعامكم! قال: نعم، قال: اجتمعوا عليه واذكروا اسمَ اللهِ لديه. . . وفي الحديث أيضاً: (ألا أخبركم بشِرارِكم؟: مَنْ أكل وحده، وضرب عبدَه، ومنع رِفْدَه الرِّفد: العطاء. . . وقال قيس بن عاصم المِنْقَري:
إذا ما صَنَعْتِ الزَّادَ فالْتَمِسِي له ... أَكِيلاً فإنّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدي 

وقال عبد الله بن المعتز في اجتماع الأيدي على الطعام:
كأنَّ أَكُفَّ القوْمِ في جَفَناتِه ... قَطاً لمْ يُنَفِّرْهُ عن الماءِ صارِخُ
وكانت العرب تعدُّ التفرَّدَ بالأكل احتقابَ وِزْرٍ حتى أنزل الله عز وتقدّس: (ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً). . .

السؤال وعبقريّاتهم فيه
من جميع نواحيه
ذمُّ السؤال: لما احْتُضِر قيس بن عاصم المِنْقري سيّد أهلِ الوبر، قال لبنيه: يا بَنيَّ، احفظوا
عني ثلاثاً، فلا أحد أنصحُ لكم مني، إذا أنا مِتُّ فسوِّدوا كبارَكم ولا تسوِّدوا صغارَكم، فيحقِّرَ الناسُ كبارَكم وتهونوا عليهم، وعليكم بحِفظ المال، فإنّه مَنْبهةٌ للكريم ويُستغنى به عن اللئيم، وإيّاكم والمسألةَ فإنها أخرُ كَسْبِ الرّجل. . . سوِّدوا كباركم: فالسيّد هنا الرئيس أي أسندوا رياستكم إلى كباركم، ومنبهة الكريم: أي مُشْعرٌ بقدره ومُعْلٍ له، وقوله: فإنها أخر كسبِ الرجل فأخر بقصر الهمزة: أي أدنى وأرذل، وإذا مُدّ فمعناه: أن السؤال آخر ما يكتسب به المرء عند العجز عن الكسب، وقد جاء في الحديث (إيّاكم والمسألة فإنها أخر كسب الرجل)، فلعل قيساً أخذها من سيّدنا رسول الله، لأن قيساً ممن أسلم ونزل البصرة وفي الحديث أيضاً: (من سأل وهو غنيٌّ جاءت مسألته يومَ القيامة خُدوشاً أو خُموشاً أو كُدوحاً في وجهه) الكدوح: الخُدوش، وكل أثرٍ من خدش أو عَضٍّ فهو كدح وقال صلوات الله عليه: (إن أحدكم يخرج بمسألته من عندي متأبِّطاً، وما هي إلا النار)، فقال عمر رضي الله عنه: ولِمَ تعطيه وهي نارٌ؟ فقال: (يأبون إلا أن يسألوا ويأبى اللهُ لي البخلَ). . وقالوا: إيّاك وطلبَ ما في أيدي الناس فإنّه فقرٌ حاضر، وقال ابن المقفّع: السّخاء سخاءان: سخاؤك بما في يدك، وسخاؤك بما في أيدي الناس، وهو أمْحضُ في الكرم، وأبعدُ من الدّنس، ومن جمعهما فقد استكمل الفضل. . . وقال شاعر:
لا تَحْسَبَنَّ المَوْتَ مَوْتَ البِلَى ... وإنّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ
كِلاهُما موتٌ ولكنَّ ذا ... أشدُّ من ذاكَ على كلِّ حالِ
وقد كانوا يتحمّلون المكارِهَ تفادِياً من السؤال: روى الأصمعي قال: مررت بكنّاس بالبصرة يكنس كَنيفاً ويغنّي:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا ... لِيَومِ كَريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ
فقلت له: أمّا سِدادُ الكنيف فأنت مليءٌ به، فلا علمَ لي بك كيف أنت فيه! وكنتُ حديثَ السنِّ فأردت العبثَ به - فأعرض عنّي مليّاً ثم أقبل عليَّ وأنشد متمثِّلاً:
وأُكْرِمُ نفْسي إنّني إن أهَنْتُها ... وحَقِّكَ لم تَكْرُمْ على أحدٍ بعْدِي
قال الأصمعي: فقلت له: والله، ما يكون من الهوان شيءٌ أكثر مما بذلْتَها له، فبأي شيء أكرمتها؟ فقال: بلى، والله، إن من الهوان لشَرّاً مما أنا فيه، فقلت: وما هو؟ فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس، فانصرفت عنه أخزى الناس. . . ومثله ما رُوي أن أبا عمرو
بن العلاء قال: اجتزت بكنّاس ينشد:
إذا أنْتَ لم تَعْرِفْ لنفسِك قَدْرَها ... هَواناً لها كانَتْ على الناسِ أهونا
فقلت: سبحانَ الله، أتنشد مثلَ هذا وتتعاطى مثلَ هذا الفعل؟ فقال: إنَّ إنشادي لمثله أصارني إلى هذا، فَراراً من ذلِّ السؤال. . . 









مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید