المنشورات

حكم ومواعظ

قال عبد الله بن عباس: كتب إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بموعظةٍ ما سررتُ بموعظةٍ سُروري بِها! أما بعد، فإن المرء يسُرُّه دَرْكُ ما لم يكن لِيفوتَه، ويسوؤه فوتُ ما لم يكن لِيُدْرِكَه، فما نالك من دنياك فلا تُكثر به فرحا، وما فاتك منها فلا تُتبعه أسَفاً، فلْيَكُنْ سرورُك بما قدَّمت، وأسفُك على ما خَلفّت، وهَمُّك فيما بعد الموت. . . يقول عليٌّ: إن كل شيءٍ يصيب الإنسان في الدنيا من نَفْعٍ وضَرٍّ فَبِقضاءٍ مِنَ الله تعالى وقدره، غير أن الناس لا ينظرون حقَّ النظر في ذلك، فَيُسَرُّ الواحدُ منهم بما يصيبه من النفع، ويُساء بِفوتِ ما يفوته منه، غيرَ عالم بأن ذلك النفعَ الذي أصابه كان لابُدَّ أن يصيبه، وأنّ ما فاته منه كان لابد أن يفوتَه، ولو عرف ذلك حقَّ المعرفة لم يفرح ولم يحزن، وإنَّما الأخْلَقُ بالعاقل أن يأسفَ على ما فاته ويُسَرَّ بما قدمه، مِنَ الخَيْرِ والعملِ الصالح الذي يُجدي عليه في العالم الباقي - الآخرة ومن كلمةٍ للحسن البصريّ: تلْقى أحدَهم أبيضَ بضَّاً يمْلَخُ في الباطل مَلْخاً، يَنْفُضُ مِذْرَوَيْهِ، ويَضْرِبُ أصْدَرَيْه، يقول: ها أنا ذا فاعْرِفوني! قد عَرفْناك فمَقَتك اللهُ ومَقَتكَ الصَّالحون. . . قوله: أبيضَ بضاً فالبض: الرقيقُ اللون الصافيه الذي يؤثّر فيه كلُّ شيءٍ، ويروون: أن معاوية بنَ أبي سُفيان قَدِمَ على عُمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه من الشام وهو أبضُّ الناسِ - أرقُّهم لوناً وأحسنُهم بشرة - فضرب عُمرُ بيدِه على عَضُدِه، وقال: هذا، والله، لِتَشاغُلِكَ بالحمّامات وذَوو الحاجاتِ تُقطَّعُ أنْفُسُهمْ حَسراتٍ على بابِك. . . . وقوله: يملخ في الباطل ملخاً: أي يَكثرُ تردّده في الباطل، أو يمر فيه مَرّاً سهلاً، وقوله: يَنفُضُ مذرويه ويضرب أصدريه فينفض ويضرب: يحرّك، ومِذرواه: جانباه، وقيل: فرعا الألْيَتين، وقيل: طرفا كل شيء، وأراد الحسن: فرعَيْ المنكبين. ولا واحد لهما، وهو الصحيح، والأصْدران: عِرْقان يضربان تحت الصُّدْغَين، لا يفرد لهما واحد كذلك، ويريد الحسن: منكبيه أيضاً، والعرب تقول: جاء فلان يضرب أصدريه وينفض مذرَويْه يريدون:
جاء مُختالاً، وقد يريدون: جاء باغِياً يَتَهدّد كما قال عنترة:
أحَوْلي تَنْفُضُ اسْتُكَ مِذْرَوَيْها ... لِتَقْتُلَني فَها أنا ذا عُمارا
عُمارا يريد: يا عُمارة
وقال بعضهم: شهدت الحسن البصريَّ في جنازة أبي رجاء العُطارِدي وهو على بغلةٍ والفرزدق يُسايره على نجيبٍ، وكنتُ على حمارٍ لي، فدنوتُ منهما، فسمعت الفرزدق يقول للحسن: يا أبا سعيد، أتدري ما يقولُ أهل الجنازة؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون: هذا خيرُ شيخٍ بالبصرة، وهذا شرُّ شيخٍ بالبصرة، قال: إذن يَكذِبوا يا أبا فِراس! رُبَّ شيخٍ بالبصرة مشركٍ بالله، فذلك شرٌّ من أبي فِراس، وربَّ شيخٍ بالبصرة ذي طِمْرَين لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه، فذلك خير من الحسنِ يا أبا فِراس. . . ولهذا الحديث تتمة ولكننا نَتجزَّأ بهذا الشَّطرِ منه لتكون المعاني متصلةً بعضُها ببعض. ونختتم هذا المعنى بأبيات مشهورة ولكنها لا تزال جديدة لأنها بعيدة الغَوْرِ مُوفِية على الغاية في الصدق والسَّداد، وهي أبيات اختارها أبو تمام في حماسته ونسبها لعباس بن مرداس الصحابي الشاعر، وقال أبو رياش: إنها لمعاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب مُعَوِّد الحُكماء وهذه هي الأبيات كما رواها أبو علي القالي في الأمالي:
تَرى الرَّجُلَ النَّحيفَ فَتَزْدَريهِ ... وفي أثْوابِهِ أسَدٌ هَصورُ
ويُعْجِبُك الطَّريرُ فتَبْتَليهِ ... فَيُخْلِفُ ظنَّكَ الرَّجُلُ الطَّريرُ
بُغاثُ الطيرِ أطولُها رِقاباً ... ولَمْ تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقورُ 

خَشاشُ الطيرِ أكْثرُها فِراخاً ... وأمُّ الصَّقْرِ مِقْلاتٌ نَزورُ
ضِعافُ الأسْدِ أكْثرُها زَئيراً ... وأصْرمُها اللَّواتي لا تَزيرُ
وقَدْ عَظُمَ البعيرُ بِغيرِ لُبًّ ... فلَمْ يَسْتَغْنِ بالعِظَمِ البَعيرُ
يُنَوَّخُ ثُمّ يُضْربُ بالهَراوى ... فلا عُرْفٌ لَدَيْهِ ولا نَكيرُ
يُقَوِّدُه الصَّبِيُّ بكلِّ أرْضٍ ... ويَنْحَرُه على التُّرْبِ الصَّغيرُ
فما عِظَمُ الرِّجالِ لَهُمْ بِزَيْنٍ ... ولكِنْ زَيْنُهُمْ كَرَمٌ وخَيْرُ
 












مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید