المنشورات
الحمى
قال المتنبي:
وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياءً ... فلَيْسَ تَزورُ إلا في الظَّلامِ
بَذَلْتُ لَها المَطارِفَ والحَشايا ... فَعافَتْها وباتَتْ في عِظامي
يَضيقُ الجِلْدُ عِنْ نَفْسي وعَنْها ... فَتُوسِعُه بأنْواعِ السَّقامِ
إذا ما فارَقَتْني غَسَّلَتْني ... كأنَّا عاكِفانِ على حَرامِ
كأنَّ الصُّبحُ يَطْرُدها فَتَجْري ... مَدامِعُها بأرْبعةٍ سِجامِ
أراقِبُ وَقْتَها مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ ... مُراقَبَةَ المَشوقِ المُسْتَهامِِ
ويَصْدُقُ وَعْدُها والصِّدقُ شَرٌّ ... إذا ألْقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
وقوله: وزائرتي. . . البيت يقول: إنّ الحمُّى التي كانت تأتيه ليلاً، كأنّها حَيِيَّةٌ فليست تزورُ إلا في الليل. . . والمطارِف في البيت الثاني: جمع مُِطْرَف وهي: أرْديةٌ مُربَّعةٌ من خَزٍّ في جنبها علمانِ، والحشايا جمع حَشيّة: ما حُشِي من الفرش مما يُجْلَس عليه، يقول: إنّ هذه الزائرة - الحُمّى - لا تُبيت في الفِراش وإنما تَبيتُ في عظامي. وقوله: يضيق الجلد. البيت يقول: يضيق جِلْدُه فلا يَسعها ولا يَسَعُ أنفاسي التي أتنفّسها، وهي مع ذلك تذهب بِلَحْمي فتوسِعُ جلدي بما تُورد عليه من ضُروبِ السقم، وقوله: إذا ما فارقتني غسّلتني. . . يقول: إنه يَعْرَق عِنْدَ فراقها، فكأنّها تغسله لِعُكوفِهما على ما يُوجب الغُسْل، وإنّما خَصَّ الحَرام لأنّه جعلها زائرة غريبة ولم يَجْعلْها زوجةً ولا مملوكةً. . . وقوله: كأنّ الصبحَ. . . البيت يقول: إنّها تفارقه عند الصبح فكأنَّ الصُّبحَ يطردها، وأنّها إذا فارقته تجري مدامعُها من أربعةٍ سِجامٍ، يريد كثرةَ العرق - عرق الحمُّى - فكأنّها تبكي عند فراقِه لِحُبِّها إياه، وأراد بالأربعة: اللَّحاظين والمُوقَين للعينَين. وقوله: أراقبُ وقتها إلخ يقول: أنتظر وقتَ مجيئِها كما ينتظرُ المَشوقُ مجيءَ حبيبه، وذلك أنّ المريض يجزعُ لوُرودِ الحُمّى، فهو يُراقب وقتها خوفاً لا شوقاً. ثم قال: ويَصدق وعدُها، يقول: إنّها صادقةُ الوعد في الورود وذلك الصدق شَرٌّ من الكذب، لأنه صدقٌ يضر ولا ينفع كمن أوْعدَ ثم صَدقَ في وعيدِه. . . وقال المتنبي أيضاً:
ومَنازلُ الحُمَّى الجسومُ فقلْ لَنا ... ما عُذْرُها في تَرْكِها خَيْراتِها
أعْجَبْتها شَرفاً فطالَ وُقوفُها ... لِتأمُّلِ الأعْضاءِ لا لأذاتِها
يقول المتنبي لهذا الممدوح - وكان مُصاباً بالحمُّى - إنَّ جِسمكَ خيرُ الأجْسامِ فلا عُذْرَ للحمُّى في تركه، لأنّ محلَّها الأجْسام! ثمّ قال: إنّ الحمُّى لمَّا رأتْكَ في المَحَلِّ الأرْفعِ من الشرفِ والكرمِ والنُّبْل أعْجَبْتها فأقامَتْ في بدنِكَ لتأمُّلِ أعْضائِكَ التي اشْتَملتْ على تلك المحامِدِ، لا لأنّها تريد أن تؤذيَك. . . وقال الشاعر أبو الفتح كُشاجم في عليّ بن سليمان الأخفش:
ولقَدْ أخْطأ قَوْمٌ زَعَموا ... أنّها مِنْ فَضْلِ بَرْدٍ في العصَبْ
هوَ ذاكَ الذِّهْنُ أذكى نارَهُ ... والمِزاجُ المُفْرطُ الحَرِّ الْتَهَبْ
ودَخَلَ بَخْتَيْشوعُ على يحيى بنِ خالدِ بنِ برمك بِعَقِبِ حُمّى فقال له: توقَّ فإنَّ حمّى ليلةٍ يبقى في البَدنِ تأثيرها سنة! - وعنده وكيع فقال: صدق، فقال يحيى: ما أقربَ تصْديقَكَ إيَّاه! قال: لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (حُمّى ليلةٍ كفَّارة سنة)، فعَلِمْتُ أنَّ هذا مِنْ ذاك. . .
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
9 نوفمبر 2024
تعليقات (0)