المنشورات

من الصحافة الرسمية إلى الصحافة الشعبية:

وعندما كانت الصحافة رسمية في بدايتها، احتلت الأخبار السياسية والحربية أكبر مساحة من نشاطها الأخباري فكانت الأخبار الجادة الرسمية الجافة أشبه بتقارير عسيرة الفهم طاغية على ما عداها. وكانت الصحف لا تتصور نشر خبر عادي إنساني بسيط، وكان هذا أمر طبيعي ما دامت الصحافة لسان حال الحكومات والطبقات البرجوازية الضالعة معها.
ولكن بتقديم الحضارة، وانتصار الديمقراطية، وانتشار التعليم، ورقي الحياة المصرية، وأخذت الصحافة تتجه إلى فنون التبسيط والتحدث إلى الرأي العام، ومحاولة تثقيف الجماهير. فبعد أن كانت أخبار "الوقائع المصرية" لا تخرج عن أنباء ديوان الخديوي الحاكم، وأعمال الحكومة، وتمجيد البطولات الرسمية، بطريقة رخيصة فجة، تطور المضمون الصحفي ليشتمل على عناصر جديدة جذابة مشوقة، كما تطورت لغة الصحافة هي الأخرى، وتعددت فنونها، ونضجت أساليبها. 

ولا شك أن الفن الصحفي المصري قد تأثر بالفن الصحفي الأوروبي تأثرا كبيرا، ولا بد أن محرر الوقائع الأول، رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان قد تعلم في فرنسا قد شاهد الكثير من الصحف الفرنسية التي أخذت تعالج موضوعات ثقافية وأدبية وحضارية إلى جانب الموضوعات السياسية والاقتصادية. فبعد أن كان المضمون الأخباري في "الوقائع المصرية" مثلا يدور حول السياسة الخارجية والتجارة والثناء على ولي النعم وبيان نشاط الحكومة في ترقية الأحوال، وما يحدث في سائر أنحاء العالم، نشاهد في عدد الوقائع الصادر في 10 يناير سنة 1847 تجديدا في اتجاه الأخبار الإنسانية الطريفة تحت عنون "أخبار نوعية" أي متنوعات من نوع الأخبار الخفيفة التي تسمى باللطائف الإنسانية1.
وحتى جريدة الأهرام -وهي جريدة غير رسمية أو غير حكومية- كان صاحبها سليم تقلا يشرح قصده من إصدارها في طلبه إلى الحكومة لإصدار ترخيص بها قائلا: "إن الجريدة الملتمس إنشاؤها في الإسكندرية تحتوي على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية، وكذلك طبع الكتب" وحتى الأخبار السياسية نفسها كانت تدور حول الأحداث الأوروبية؛ لأن نشر الأخبار المصرية كان أمرا محفوفا بالخطر؛ إذ كانت الحكومات -بطبيعة الحال- لا تسمح للصحف بنقد الحاكم أو توجيه النصح إليه.
وقصارى القول، أن الصحافة العالمية -سواء الأمريكية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية- كما رأينا من قبل، كانت تصطنع أسلوبا جافا وبطريقة جادة، تفترض أن قارئ الصحيفة إنسان منطقي ذكي ناضج لا يقل عمره عن الأربعين، مهتم بالسياسة والاقتصاد والشئون المالية والتجارية، ولا ينبغي له أن يهتم بسواها. ثم أتت الصحافة الشعبية فاتسعت المجالات الأخبارية والصحفية، وبدأ الفن الصحفي الأصيل القائم على معاملة الرموز القديمة معاملة جديدة، على أساس واقعي يفهمه الناس جميعا، في الظهور تدريجيا. واتضحت سمات الفن الصحفي وأخذت تتبلور واضحة جلية في نهاية الأمر. 









مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید