المنشورات

طبيعة الفن الصحفي وخصائصه:

فالفن الصحفي يختص برواية أحداث هذا العالم بوسائل دورية1. أهمها الطباعة، وتصدر الصحف يومية أو أسبوعية أو نصف شهرية أو شهرية. وقد نص قانون تنظيم الصحافة رقم 156 لسنة 1960 والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 مايو سنة 1960 بالعدد 188 في مادته الأولى بعد الديباجة "أنه لا يجوز إصدار الصحف إلا بترخيص من الاتحاد القومي، ويقصد بالصحف في تطبيق هذا القانون الجرائد والمجلات وسائر المطبوعات التي تصدر باسم واحد بصفة دورية".
وإذا كان الفيلسوف الكبير هيجل يقول: إن قراءة الصحف اليومية أصبحت صلاة الصباح عند الإنسان الحديث، فقد أصبحت قراءة الصحف يوميا شيئا معتادا للقراء، ولا يستطيعون الإقلاع عنه. ولا شك أن هذا التكرار أو الإيقاع المستمر المتواتر من أهم سمات الفن الصحفي. وقد عرف الدكتور محمود عزمي الصحافة بأنها توجيه الرأي العام عن طريق نشر المعلومات والأفكار الخيرة الناضجة معممة ومنسابة إلى مشاعر القراء، خلال صحف دورية. وهكذا أكد ضرورة اتصاف الصحفيين بالنضج والخبرة، كما أكد صفات الفن الصحفي بالعمومية، أي شمول كافة الناس، على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم. والفن الصحفي لا يتوجه بالدرجة الأولى إلى المنطق الخالص، وإنما يتوجه إلى المشاعر والوجدان إلى جانب توجهه إلى المنطق، ومن هنا كانت خطورة التأثير في الجماهير نتيجة للدورية والعمومية والتأثير الوجداني والبساطة في التعبير، والبعد عن التجريد، والاهتمام بالتجسيد.
وصفة الدورية هي التي تميز الفن الصحفي، وتؤكد خطره على الرأي العام؛ لأن الصحيفة اليومية، مثلا، تطرق نفوس القراء -عقولهم ومشاعرهم- مرة كل أربع وعشرين ساعة. وهذا التكرار مع الانتظام له أثره العميق على الأفهام والنفوس. فتستطيع الصحف أن تتناول نقطة واحدة من الموضوع كل يوم، إذا ما أرادت أن تعالج موضوعا من الموضوعات، فتكون على صلة مستمرة بالقراء، وتستطيع أن تحقق أهدافها وغاياتها. وقد شبه البعض هذا التأثير بقطرة الماء التي تستمر في السقوط على صخرة، ولا بد لها في النهاية أن تفتتها وتصل إلى أغوارها. وهكذا يرتبط عنصر الدورية بعنصر آخر لا يقل أهمية، ألا وهو الاستمرار.
ومع ذلك، فلبعض الدوريات الأسبوعية شأنها الخطير، فالدوريات الأسبوعية يتوفر لديها الوقت الكافي لتعمق الموضوعات ومعالجتها بطريقة علمية، مقترنة بالفن الصحفي والاهتمام الإنساني، مع الاستعانة بفنون الطباعة الحديثة كالعناوين والصور والرسوم والألوان، وفنون المسرحة والتجسيد والتبسيط، والمعالجة الواعية لنفسية الجماهير، وذلك بمصطلحات الخبرة المباشرة، مع الابتعاد بقدر الإمكان عن التجريد والأكاديمية. فإذا قيل أن ثقافة الكتب ثقافة رأسية، فإن ثقافة الصحف ثقافة أفقية، تتوخى الانتشار العريض بين سائر فئات الشعب، ومن هنا يكتب لها الذيوع والانتشار، وهما من أهم خصائص التأثير في الرأي العام.
فالفن الصحفي هو طريقة تفكير ورؤية خاصة متميزة للحياة، فالصحفي ينظر دائما إلى جمهوره، ويقرر إذا ما كان قادرا على فهم ما يقول أو غير قادر على ذلك، وهو لذلك يضفي على عمله الفني أبعادا ما كان ليضفيها عليه، ولولا هذه النظرة العملية للجمهور. إن الفن الصحفي هو جعل الأحداث والمعلومات والثقافة بل والفلسفة والعلم في متناول الجميع، بطريقة واضحة مشوقة درامية. وقد فطنت الحكومات إلى خطورة هذا الفن، وأخذت تستغله لترويج المفاهيم الجديدة والمذاهب الحديثة بين الجماهير.
فالفن الصحفي، بدوريته وعموميته وشموله واستمراره، يضفي على أحداث العالم اهتماما إنسانيا بطريقة تثير الجمهور، وتشحذ قواه، وتملك مشاعره. حقيقة أنه لا يمكن للفن الصحفي أن يكون له العمق والخلود اللذين يتصف بهما الفن بوجه عام، فليس هناك أقدم من جريدة الأمس، ولكن الفن الصحفي الناجح هو الذي يستطيع أن يعدل قيمة العالم تعديلا مؤقتا على الأقل؛ لأن الصحافة الجيدة تتخذ إطارا لها عالم الافتراضات اليومية الوتيرية، مؤكدة الوجه الدرامي، والاهتمام الإنساني، عن طريق أحداث عالم الحياة اليومية.
فالتقرير الصحفي الجيد هو في جوهره عملية خلق وابتكار، وهو كذلك كشف للمتناقضات التي توجد بين الصورة الظاهرية والواقع الفعلى. ولا شك أن الخداع والمغالطات التي تكتشف، كثيرا ما تؤدي إلى عملية تغيير القيم السائدة في المجتمع. ولكن ذلك يتطلب بطبيعة الحال نظرة جريئة وتعبيرا موضوعيا.
فالفن الصحفي تعبير موضوعي، وابتعاد تام عن الذاتية التي يتصف بها الأديب مثلا، فالأديب يعنى بنفسه، ويقدم لنا ما يجول بخاطره، ويسجل ما يراه وفقا لرؤيته الخاصة، وبرموز تنم عن ثقافته وعقليته. وهو في هذا الصنيع إنما يصف النفس الإنسانية، ويتعمق أسرارها، ويكشف عن حسناتها وسوآتها، ويكون لأوصافه صدى في نفوس القراء من كل جنس، وفي كل عصر، ما داموا قادرين على قراءته
وفهمه، والاستفادة منه. فالأديب حر في اختيار ما يقول، والقراء أحرار في قراءة ما يكتب الأديب.
ولكن الصحفي ملتزم بالموضوعية؛ لأنه يعكس مشاعر الجماعة وآرائها. وهو مقيد بمصلحة المجموع. وفي حرية الأديب وذاتيته، وتقيد الصحفي وموضوعيته يقول عبد القادر حمزة: "يجب أن يكون الصحفي حاضر البديهة. حاضر الجواب على كل ما يدعي لأن يكتب فيه، وهو في كل ذلك لا يختار -كما يفعل الأديب- بل الحوادث هي التي تختار له كل يوم ألوانا جديدة، وتدعوه إلى أن يتجه إليها، وينتهي به الأمر إلى أن يتسع أفق الأدب والعلم والخبرة عنده فيصبح وكأنه الموسوعة، بينما يكون الأديب بجانبه وكأنه كتاب في فن معين".
فإذا كانت الفيلسوف يبحث عن الحقيقة المجردة على المستوى المنطقي، كما يبحث الأديب عن الحقيقة الخالدة على المستوى الجمالي، فإن الصحفي فنان موضوعي يقرر الواقع ويرصده بصدق وأمانة وفن. فالصحافة تقوم على الوقائع المشاهدة، وتنأى عن المبالغات والتهاويل. والفن الصحفي لصيق بالجمهور وبالديمقراطية وبالشعبية، ولذلك فإنه يرتبط بظهور الطبقة الوسطى، ثم الطبقات الشعبية.
وقد رأينا أن المطبعة قد اخترعت في منتصف القرن الخامس عشر، ولم تظهر الصحافة قبل مرور قرنين من الزمان على ظهور المطبعة، بل إن الفن الصحفي، الذي يرتبط بالجماهير ويؤثر فيها ويتأثر بها، لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الصحافة الشعبية في الظهور، وكان لا بد من اتخاذ أسلوب فني جديد، بل وتطوير لغة صحفية جديدة، بما يعززها من صور وعناوين وألوان ورسوم وكاريكاتور. فإذا كان الأدب هو فن الحقيقة، فإن الصحافة هي فن الواقع. وإذا كان الأدب ذاتيا فإن الفن الصحفي موضوعي بالضرورة. وإذا كان الأدب عاما وإنسانيا وعالميا، فإن الفن الصحفي يتصل بجمهور بعينه، وثقافة بعينها، كما أنه يرتبط بزمن محدد لا يستطيع أن يتجاوزه إلى الخلود.
لقد تخيل أحد الأدباء الفرنسيين جوارا لطيفا بين كتاب وجريدة قال فيه الكتاب للجريدة: أنك تنعمين بمائة ألف قارئ، ولكنك لا تمكثين إلا ساعة أو بعض ساعة في يد القارئ، ثم لا تلبثين أن تتعرضي للتمزيق أو التلف. وإذ ذاك يلقى بك في سلة المهملات، أو يتخذ منك الناس غلافا لبعض حاجاتهم، وهكذا تولدين سريعا وتموتين سريعا دون أن تتركي أثرا ما في نفوس الفراء.
فأجابت الجريدة بقولها: نعم أيها الكتاب إنك لتفضلني بطول العمر وبسطة الأجل، ولكن لا تنسى أنك تعيش أعمارا طويلة في عالم الظلام ودنيا النسيان، وعندي أن حياة يوم واحد بالمعنى الصحيح أفضل بإشراقها وحركتها وجلالها من حياة مائة عام تقضيها أنت مجهولا من أكثر الناس، مهملا منهم فوق رفوف يعلوها التراب1. 

ويصل الفن الصحفي في موضوعيته إلى حد إغفال اسم الكاتب الصحفي إغفالا متعمدا؛ لأن المهم هو التصوير الموضوعي للواقع، وليس التعبير الذاتي عن الفنان. وقد كانت صحيفة التيمس اللندنية مثلا، ترفض دائما كتابة أسماء محرريها، مهما كانت أخبارهم دقيقة، ومقالاتهم رائعة. حتى الكتاب الذي أصدرته الصحيفة عن تاريخ حياتها، والذي يقع في عدة أجزاء، لم يذكر عليه اسم مؤلف أو كاتب، إمعانا في سياسة الموضوعية.
والحق أن الفن الصحفي قد استطاع أن يطور لغته الخاصة، وأشكاله الفنية من خبر وتقرير ومقال وتحقيق وعمود ويوميات، وورسائله البصرية من عنوان وصورة ورسم كاريكاتوري وألوان وزخارف، وكلها تتعاون من أجل تحقيق غايات الفن الصحفي. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید