المنشورات
الجاحظ فنان صحفي:
وفي الحضارة العربية، ظهرت إرهاصات بلغة الصحافة حتى قبل اختراع المطبعة. فالجاحظ -وهو من كتاب القرن الثالث الهجري- جدير بأن يكون أو صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه ويمكن النظر إلى أدب الجاحظ في مجموعه على أنه أدب تتوفر فيه الكثير من خصائص الفن الصحفي.
لقد كان الجاحظ رجلا شديد الانغماس في المجتمع، وهو في الوقت نفسه غزير الانتاج إلى درجة تلفت النظر، وإنتاجه وثيق الصلة بالأفكار الشائعة في عصره، بل هو صورة دقيقة لما يحيط به في تلك البيئة العباسية من دين وسياسة وثقافة وعادات وتقاليد اجتماعية. لقد كان الجاحظ موسوعي المعرفة، دقيق الملاحظة، سلس الأسلوب، قوي العارضة، ساخرا متهكما، ولكن دون مرارة. وأهم من ذلك، كان مصورا بالقلم تصويرا فنيا يجسم أفكاره تجسيما مشوقا أخاذا. ويكفي أن نشير إلى رسالة التربيع التدوير التي وصف فيها أحمد بن عبد الوهاب لكي نبين عبقرية الجاحظ في فن الكاريكاتور القلمي. وفضلا عن ذلك، فإنك تلمح في كتابات الجاحظ حبا للحياة، وولعا بالناس، وتقديرا للإنسان فهو ليس فيلسوفا يكتب عن الأفكار المجردة. ولكنه أديب أقرب إلى الصحفي، يكتب عن المجتمع بأسلوب رشيق سلس أخاذ.
وبمقارنة الجاحظ بمعاصريه، نستطيع أن ندرك خصائص أسلوبه القريب من الصحافة. فابن المقفع، مثلا، أديب وأدبه خلاصة مطالعاته، وتجاربه وتجارب أسلافه من البيئة الفارسية القديمة. وهو يسلك في كتابة أدبه طرقا فنية خالصة، هي تعبير جمالي ممتاز، كان يتحدث على ألسنة الطير والحيوان، ويعتمد على الصور البيانية الرائعة، ولكنه مستوى أدبي جمالي، يرتبط بالرمز الفني، ولا يتصل بالواقع العملي إلا اتصالا يسيرا.
وكذلك ابن قتيبة رجل عالم في اللغة وعالم في النقد، وهو متمكن من الحديث والتفسير، وغيرهما من العلوم التي جعلت منه خطيب أهل ألسنة ولكنه رجل حبس نفسه على العلم. ولم يشأ أن يزج بنفسه في المجتمع كما فعل الجاحظ.
لقد كان ابن قتيبة عالما، وحتى لم يكن أديبا كابن المقفع، فكان أسلوبه علميا، مفعما بالاصطلاحات الدينية والعلمية المجردة.
وقد رأينا أن الصحافة فن حضاري، لا يزدهر إلا في البيئة الصالحة للتقدم والتطور. ففي صحافتنا المصرية الحديثة، نلاحظ أنها قد ورثت، عند ظهورها في القرن التاسع عشر، عن القرون السابقة أسلوبا عتيقا يميل إلى التكلف. ثم أخذ هذا الأسلوب يتخلى شيئا فشيئا عن هذا التكلف، حتى ظهرت صحيفة "المؤيد" فوجدنا أنفسنا أمام كتاب يميزون بين الأسلوب الأدبي والأسلوب الصحفي، وأخذ الفن الصحفي في التبلور والتطور حتى وقتنا الحاضر. وإذ ذاك وجدنا له لغة تبعد بعدا ظاهرا عن لغة الأدب. فقد استحدث الصحفيون الحاليون تراكيب جديدة لم تخطر للأدباء الأولين على بال. فبدلا من قولهم أنه لا بد من توضيح المسألة توضيحا لا يدع مجالا للشك نجدهم يقولون: نريد أن نضع النقط فوق الحروف. وهناك صفات ونعوت جديدة لا وجود لها في الكتب القديمة مثل: الحقيقة الصارخة، والأكذوبة البيضاء، والليلة الحمراء، الدعاية السوداء، والغيرة الصفراء.
وتأثرا بترجمة البرقيات الأخبارية، نجد الأفعال الأجنبية تتسرب إلى اللغة العربية. ومثال ذلك أن حشد الجنود التركية على حدود سوريا "يشكل" خطرا على هذه البلاد، وفعل "يشكل" هو ترجمة حرفية دخلت لغة الصحافة والسياسة واستقرت فيها استقرارا تاما. ومن ذلك قول بعض الصحفيين: "وهنا قفزت طائفة كبيرة من علامات الاستفهام" معبرا بذلك عن معنى الغرابة أو التعجب. وقول آخر: "فكان عليَّ أن أضع أعصابي في ثلاجة بعد سماعي هذا الكلام".
وقد كان من أثر الصحفية، وهي جزء هام من أقسام الأخبار الخارجية في صحفنا المصرية، استخدام أسلوب جديد لا علاقة له بالأدب. بل إن اللغة العربية قد استخدمت تراكيب جديدة مستمدة من طبيعة تعبير اللغات الأجنبية. ومثال ذلك شيوع استخدام الجمل الاسمية وتناثرها وكأنها وحدات مستقلة. فهذه هي طريقة التعبير الأوروبي تماما بالجمل الاسمية المستقلة التي تجعل فيها النقط والوقفات، فقرات متتالية.
فطريقة تحرير الأخبار الصحفية المترجمة من أجهزة "التيكرز" أو المبرقات الصحفية قد ساعدت على تطور أسلوب صحفي جديد على اللغة العربية، تتناثر فيه الجمل وتستقل عن بعضها البعض في وحدات ذات مغزى. غير أن هذا الأسلوب الأخباري الصحفي سرعان ما أخذ يغزو فنون الصحافة الأخرى حتى طغى على المقال والتحقيق والحديث والعمود واليوميات وغيرها.
ولا بد أن القارئ الحديث يضحك كثيرا عندما يقرأ في الصحف المصرية القديمة تلك الأخبار التي حرص كاتبها على أن تكون مسجوعة ومليئة بزخارف الجناس والطباق. ثم بالتدرج أخذت الصحف تتخلص من هذا الشكل العتيق من أشكال التحرير. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد حتى وجدنا أن فن تحرير الخبر أصبح له أصول وقواعد وقوالب وصيغ معينة، نتحدث عنها في الفصول القادمة.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)