المنشورات
لغة الصحافة وخصائصها:
غير أن موقف وورف الذي يتبناه كعالم سوفييتي يؤمن بالمادية الدياليكتية التي تقول إن العالم يسبق الإدراك والأشباه تسبق الأسماء المخصصة لها لا يمكن أن نقبله على علاته -رغم صحته من بعض جوانبه. فهل صحيح أن لكل لغة ميتافيزيقية خاصة بها؟ لنفرض أن نيوتن تكلم وفكر بلغة الهوبي الهندية بدلا من الإنجليزية، فهل ستكون صورة العالم مختلفة فيزيائيا وطبيعيا؟
وبمعنى آخر هل تؤثر اللغة على التفكير؟ لا شك أنها تؤثر، ولكن لا على الجوهر بل على أساليب التفكير. إن جوهر الفكرة هو انعكاس للحقيقة، وإن هدف اللغة هو نقل المعرفة والمعلومات عن الحقيقة. وبغض النظر عن التسهيلات الفنية التي يترتب عليها تنوع أساليب التفكير فإن كل لغة قادرة على إعطاء صورة حقيقية عن العالم الخارجي.
ويرى علماء النفس أن الطفل يبدأ باستيعاب العالم الخارجي قبل أن يكون قد تعلم النطق، فالإنسان يحلل العالم الخارجي قبل أن يولد عند تفكير لغوي. وعندما يتعلم الطفل التكلم، ويبدأ باستعمال لغته لإلصاق التسميات بخبراته المكتسبة. فالأشياء تسبق المفردات والعكس ليس بصحيح. ولنفرض أن رائدين من رواد القضاء أحدهما أمريكي والآخر سوفييتي قد هبطا على سطح القمر، وعاد كل منهما ليروي انطباعاته بلغته الخاصة. فهل تكون الصورة الأمريكية مختلفة عن الصورة السوفييتية للقمر؟
لقد زار الرحالة العرب قبل أكثر من ألف عام أراضي دول الشمال، وكانت طبيعة وتقاليد وعادات الفايكنج من سكان الشمال غريبة تماما في نظر الزوار العرب، وكانت الغرابة تضاهي غرابة القمر بالنسبة لسكان الأرض وبالإضافة إلى ذلك فإن اللغة العربية تختلف اختلافا تاما عن اللغة النورماندية. ومع ذلك ترى وصف العرب يتفق مع وصف النورمانيين بالنسبة لنفس الظواهر والحوادث والمدن. وأن كل لغة تصور العالم بطريقتها الخاصة، ولكن الرسالة عن الحقيقة تنقل بدقة وصواب.
ويقارن علماء اللغة المعاصرون نظام اللغة بنظام الإحداثيات الهندسية، فالانتقال من لغة إلى أخرى شبيه بالانتقال من نظام هندسي للعلاقات إلى الآخر. أن العالم الخارجي هو نفسه غير أن صورته تختلف باختلاف اللغات.
إن العالم موغل في التنوع، كما أن عدد الكلمات محدودة في أية لغة. وقد نستطيع عند التعبير العملي العام "وهو التعبير الصحفي كما سنعرف فيما بعد" أن نهمل قطاعات من التفاصيل غير الأساسية ونركز على صفات بارزة معينة. فالفنان الذي يتعامل بالألوان يجد من الضروري التمييز بين أدق الدرجات اللونية ومنحها تسميات متباينة، في حين أن الشخص العادي لا يشعر عادة بالحاجة إلى أكثر من بضعة صفات لتلبي حاجاته.
إن لغة الصحافة هي اللغة السريعة المباشرة العادية الواقعية، فهي تستطيع أن تذكر كلمة كلب أو جمل دون الدخول في التسميات الدقيقة التي قد يهتم بها عشاق الكلاب أو خبراء الجمال. إن تجربتنا العملية، تجعلنا نستطيع أن نلخص، ونكتسب الخبرات عن طريق تبسيط المعاني، ونمذجتها في قوالب خاصة، وهذا هو أساس الفن الصحفي.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)