المنشورات
مستويات التعبير اللغوي:
إن اللغة تتميز على غيرها من الرموز والنظم الإشارية بأنها في متناول الجميع، وبمعونتها نستطيع نمذجة العالم، وهذا يميزها عن العلم والفن أو الأدب اللذين يتطلبان تدريبا خاصا. فالفنان يستطيع خلق أسلوبه الخاص -"لغته" الفنية الخاصة- وأسلوبه الجمالي، ورموزه الشخصية. فقد سئل الشاعر العربي القديم لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجاب قائلا: ولماذا لا تفهمون ما أقول؟ وسئل الفنان الحديث بيكاسو: لماذا لا تصور ما يفهمه الناس؟ فأجاب أن للفن رموزا تشبه اللغة الصينية وعليك أن تفهمها أولا.
والعالم كذلك له رموزه وصيغه وأرقامه في علوم الطبيعة والرياضة والكيمياء والفلك والمنطق وغيرها. ولا يمكن فهم الرياضة إلا بعد إتقان هذه الرموز يتدرب خاص. أما اللغة العملية، اللغة اليومية، اللغة الاجتماعية، لغة الفن الصحفي فتمتاز بالشمول كما أنها لغة طبيعية منذ الطفولة، في حين أن لغة العلم ولغة الفن من اللغات المصطنعة التي لا يمكن اكتسابها إلا بعد سنوات من المران والتدريب.
وهكذا توجد ثلاثة مستويات للتعبير اللغوي: أولها المستوى التذوقي الفني والجمالي ويستعمل في الأدب والفن، والثاني هو المستوى العلمي النظري التجريدي، ويستعمل في العلوم، والثالث هو المستوى العملي الاجتماعي العادي وهو الذي يستخدم في الصحافة والإعلام بوجه عام. وهذه المستويات الثلاثة كائنة في كل مجتمع إنساني، والفرق بين المجتمع المتكامل السليم، والمجتمع المنحل المريض هو في تقارب المستويات اللغوية في الأول، وتباعدها في الآخر. فتقارب مستويات التعبير اللغوي دليل على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته، وحيوية ثقافته. ومن ثم إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوع من التآلف بين المستويات العلمية والأدبية والعملية، هي غالبا أزهى العصور وأرقاها. أما إذا كان كل مستوى لغوي بعيدا كل البعد عن الآخر فهو دليل على الانفصام العقلي في المجتمع، وهذا إلى التدهور والانحطاط والشيخوخة والانحلال1.
وقد حدث هذا لأوروبا في العصور الوسطى عندما كانت اللغة اللاتينية مستأثرة بالدراسات الأدبية، بينما كانت اللغات الاجتماعية محتقرة منبوذة، لا تستعملها إلا الطبقات العاملة الفقيرة، فعاشت في عصور مظلمة، وباتت تتردى في الجهل والتعصب والتنافر والتنابذ. وفي الوقت نفسه، سادت في العالم الإسلامي آداب رفيعة، وكانت اللغة العربية شائعة بين الحكام والمحكومين، مستعملة في الآداب والعلوم، وفي الحياة العملية. ولم تكن الفروق اللغوية بين هذه المستويات شاسعة مفزعة، كما كانت في أوروبا بين اللاتينية والإنجليزية أو الألمانية مثلا، فكان تآلفا في المجتمع وانسجاما بين طبقاته، وحيوية وتكاملا في العقل الجماعي والوجدان الجماعي.
وعندما أهل عصر النهضة في أوروبا، وأخذت اللغات المحلية تتبوأ مكانتها اللائقة بها، وتقاربت المستويات اللغوية في الأدب والعلم والمجتمع، أخذت العقلية الاجتماعية تسترد قوتها وسلامتها، وزايلها الانفصام العقلي، وتقاربت المستويات نسبيا، حتى إذا بلغت اللغات المحلية مبلغ النضج والاستواء، كان دانتي وشكسبير وبيكون ولوثر ثم نيوتن وجاليليو وغيرهم.
وفي نفس هذه الظروف وبفضلها أيضا، ظهرت لغة الصحافة. فكانت مثل ديفو اصطنع أسلوبا صحفيا يقترب من أسلوب المحادثة المرسلة، فكان ذلك سببا في رميه بالجهل، واتهامه بالسوقية، كما رمي سلامه موسى وغيره من المجددين في الأسلوب الصحفي. لقد بلغ احتقار الأديب سويفت للكاتب الصحفي ديفو أنه كان يشير إليه قائلا: "ذلك الشخص الأمي الذي أنسى اسمه دائما! " ولا شك أن هذا التحقير من شأن ديفو إنما يرجع إلى الغيرة والحسد؛ لأنه كان يتمتع بشهرة شعبية مدوية.
ومن أهم ما يميز ديفو عن غيره من الكتاب أنه استطاع كتابة اللغة الإنجليزية بقوة وحيوية مستمدا ذلك من التقارب بين لغة الكتابة الصحفية ولغة التفاهم العادي. ويرجع تفوق ديفو في فن الأسلوب الصحفي إلى حقيقة هامة وهي أنه بحكم كونه من المخالفين للكنيسة، كان يتلقى تعليمه في الأكاديميات الحرة لأن الجامعتين الرسميتين "أكسفورد وكمبردج" كانتا لا تقبلان المخالفين كطلبة فيها.
وقد التحق ديفو بالأكاديمية المشهورة نيوينجتون جرين1 حيث كانت التربية تمر في مراحلها الحديثة، فبدلا من الخطة التقليدية التي اعتمدت على المنهج الثلاثي2 "وهو النحو والمنطق والبلاغة" في المدرسة، المنهج الرباعي3 "وهو الحساب والهندسة والفلك والموسيقى" في الجامعة، نجد أن الأكاديميات كانت تعنى بالمواد بالحديثة كالعلوم والتاريخ والجغرافيا. وقد تعلم ديفو مثلا اللغات الفرنسية والهولندية والإسبانية والإيطالية لأن الأكاديمية كانت تضع اللغات اللحية موضع الاعتبار وتهتم بها اهتمام الجامعتين التقليديتين باللغات الكلاسية القديمة.
وكانت ثورة تعليمية كبرى أن يقف ناظر المدرسة التي تعلم بها ديفو اسمه مورتون4 ليشرح المواد الدراسية باللغة الإنجليزية فقد كانت المدارس التقليدية تحتم أن يدرس كل شيء باللاتينية، وكان يخصص أحد الطلبة لكي يتجسس على زملائه ويضبط من تسول له نفسه أن يتحدث بالإنجليزية بدلا من اللاتينية! أما الأكاديمية التي تعلم بها ديفو فقد ضربت بهذه التقاليد البالية عرض الحائط، ونظرت إلى الرطانة اللاتينية باستخفاف، واهتمت بدلا منها باللغات الحديثة والعلوم والمواد الاجتماعية.
ومن الطريف أن ديفو قد تعلم الاختزال في أكاديمته، أما المعامل والمتاحف والمضخات والأجهزة وغيرها، فقد كانت من أهم مستلزمات الدراسة في الأكاديميات لأن الطبيعة والفلك والكيمياء كانت علوما أساسية. وهكذا أتيح لديفو برنامج تعليمي حديث بعكس البرامج التعليمية الشكلية الجافة في المعاهد الأخرى وكانت هذه الدراسة خير تمهيد لتخريج مثل هذا الصحفي العبقري، والذي تفوق في فنون الأخبار، وابتكر فن التحقيق الصحفي واكتشف فن الحديث الخاص أو المقابلة الصحفية، وبرع في كتابة المقال الافتتاحي، وتفوق على معاصريه في فن المقال الاقتصادي والتجاري.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)