المنشورات
التقارب بين المستويات اللغوية:
وقد كانت مصر في أتعس أيامها وأحلك عصورها -في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر- تعاني من الانفصام العقلي في المجتمع، حيث سادت لغة أدبية منمقة متكلفة كتقليد سخيف للطريقة الفاضلية في الكتابة، عقيمة مصطنعة لم يألفها الشعب، ومن ثم لم يتأثر أو ينفعل بها، وويل للمجتمع إذا كان أدبه لا يتفاعل مع أفراده؛ إذ تتسع الهوة بين لغة الأدب ولغة الحياة اتساعا مفزعا، فيمرض العقل، ويذوي الفكر، ويتدهور المجتمع، وتتنافر طبقاته.
وقد وجدنا أن كل عصر يتخذ فيه الأدب لغة رسمية مصطنعة يختص بها، في أسلوب من الصور البيانية والحيل البديعة المتراكمة، يصبح الأديب فيه كالكاهن إنسانا غامضا، وشخصية رهيبة مفزعة، وتلك أعراض المجتمع المريض، والحضارة المنحلة. وقد حدث ذلك -كما قلنا- في العصور الوسطى في أوروبا كما حدث في إنجلترا في مستهل الفتح النورماندي، وحدث أيضا في مصر بعد الفتح التركي حتى القرن التاسع عشر. ولا زلنا نصطلي ببعض ناره.
وتشير أبحاثنا التي أجريناها في نواحي الإعلام وعلم الدلالة أن اللغة العربية في مسيس الحاجة إلى الإثراء الفكري، والتقارب بين المستويات المختلفة. ويقيننا أن الحل الوحيد هو ضرورة استعمال اللغة في ميادين العلم الحديث، وخاصة الطب والهندسة والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الحديثة. والرأي عندنا أننا لا ينبغي أن ننتظر حتى تقنن المصطلحات، فلا يكفي أن نبقى بمعزل عن الحضارة الحديثة، وما لم تستعمل لغتنا في هذه الميادين، فإننا نحكم على أنفسنا بالعزلة والتخلف. فاللغة والفكر وجهان لشيء واحد كالعملة تماما. ولكي تساير اللغة العربية الحضارة الحديثة، لا بد وأن تعبر عن الفكر الحديث، وهي قادرة على ذلك، غير أنها تعاني من البطالة وعدم الاستعمال.
فليس غريبا أن يكون ظهور أول صحفي مصري وهو رفاعة الطهطاوي في عصر محمد علي مقترنا بنهضة علمية، والتحام بين الثقافة الشرقية والثقافة العربية، واهتمام بالترجمة. وحتى السوريون الذين نزحوا إلى مصر من أمثال أديب إسحاق وسليم النقاش وبشارة وسليم تقلا ويعقوب صروف وجرجي زيدان وغيرهم كانوا تلاميذ لحركة نشر العلوم وتنشيط الفنون التي أنشأها القس غالي سميت والدكتور كرنيليوس فان ديك والقس وليم طمسون والمستشرق منصور كرلتي والدكتور يوحنا ورتبات وتشرشل وغيرهم. وكان من أعضائها ناصيف اليازجي وسليم دي نوفل وميخائيل فرج الله ونعمة ثابت وأنطونيوس الأميوني.
ولا شك أن الدكتور يعقوب صروف الذي حصل على بكالوريوس العلوم من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1870 قد ترجم الكثير من الكتب العلمية وجعل من مجلة المقتطف نقطة تحول في الفن الصحفي في محاولاته الأدبية والاقتصادية والسياسية. كما كان يقارن بين كتابات هربرت سبنسر في علم الاجتماع الإنساني ومقدمة ابن خلدون في نفس العلم. وليس من قبيل المصادفة أن يكون جمال الدين الأفغاني ويعقوب بن صنوع والشيخ محمد عبده ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل من رواد الصحافة الذين جمعوا بين الثقافة العربية المصرية والصحافة الأوربية. وقد استطاع هؤلاء بجهودهم الرائعة أن يخلقوا لغة الفن الصحفي العربي التي تقترب من لغة الأدب، وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط.
ولقد توجت هذه الجهود بظهور الصحافة الإخبارية الحديثة، وبالتنويع في وسائل الإقناع الصحفي بالصورة الفوتوغرافية والصورة الكاريكاتورية، والعناية بالأخبار النائية. وقد تطلب ذلك استخدام لغة صحفية تتلاءم مع شعبية الصحافة، تتوخى السهولة والتبسيط، دون أن تهبط إلى العامية في اللفظ، أو السوقية في الفكر.
وهكذا تتقارب المستويات اللغوية العلمية والجمالية والعملية؛ لأننا كلما نزلنا في سلم التطور الحضاري للمجتمعات، وجدنا فروقا شاسعة بين المستويين الأدبي والعلمي للغة. ويؤكد عالم الاجتماع كارل بوخر1 أن اللغة المستخدمة في المجتمعات البدائية تنقسم إلى قسمين مختلفين تمام الاختلاف: لغة جمالية للأغاني والقصائد والأناشيد، وأخرى عملية للتفاهم، وهي تختلف عن الأولى اختلافا كبيرا، حتى إن إيقاع لغة التفاهم لا بد وأن يتغير تغيرا تاما لكي يتلاءم مع إيقاع الشعر. ويقول إن سكان جزائر أندامان2 يغيرون من طول الكلمات تغييرا جوهريا حتى ليمكن القول بأن لهؤلاء الناس لغة شعر خاصة غير لغتهم المستعملة في الحياة، ويضيف يسبرسون3 على ذلك قوله: إن اللغة الجمالية لا يفهمها الناس. حتى إن كثيرا ما يضطر المؤلف إلى شرح قصيدته للمغنيين والمستمعين قبل الأداء
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)