المنشورات

قارئ الصحيفة وقارئ الكتاب:

إن هدف الأدب جمالي في حد ذاته، فإن أولئك الذين يكتبون القصة أو الرواية أو المسرحية أو الشعر أو النثر، إنما يخلقون آفاقا جديدة وشخصيات افتراضية بأسلوب يمس حاسة الجمال لدى القراء. أما الصحفيون فلا يمكنهم أن يفعلوا بعض هذه الأشياء، فإنهم -على سبيل المثال- لا يصورون ما يعتبر هروبا من الواقع في حقبة سحيقة أو وهمية. وهناك معيار مؤكد يحكم اختيار موضوعاتهم، فيجب عليهم أن يكتبوا حول ما هو في متناول اليد في ذات الزمان والمكان، ومدى ما يمكن عمله في هذا المجال، مشروطا -بالطبع- بأهمية النتيجة التي تعطيها الفكرة أو الحادث أو الموقف وبسياسة مؤسساتهم الصحفية، وهذا ما عبر عنه الدكتور كامبل بقوله: "إنهم بشبهون العلماء الذين يعملون في معمل، لكن معملهم هو العالم كله، وتجربتهم هي الحياة ذاتها"1.
إن لغة الفن الصحفي لا تهدف إلى مناشدة حاسة الجمال لدى القراء، بل على العكس من ذلك، تتضمن اتصالا ناجحا أساسه الوضوح والسهولة. وقد قال "هربرت سبنسر"2 ذات مرة: "إن لدى القارئ أو المستمع في أي لحظة من اللحظات طاقة ذهنية محدودة يمكن استغلالها لتعرف وتفسير الرموز المعروضة عليه والتي تتطلب جزءا من طاقته الذهنية، أما ترتيب وتنسيق الصور المعروضة عليه فإنها تتطلب جزءا أكبر من المقدرة. والجزء الباقي يمكن تخصيصه للفكرة ذاتها، أما الطاقة الذهنية الأقل حيوية فهي لفهم هذه الفكرة. ويمكننا بالاستعارة تشبيه اللغة بأنها سيارة أن حافلة الأفكار التي يكون من الطبيعي أن الاحتكاك والقصور الذاتي في كل أحوالها يحدان من كفاءتها، والهدف الأساسي في الموضوع -وهو ليس الهدف الوحيد- أن نقلل من هذا الاحتكاك والقصور إلى أقل درجة ممكنة".
إن الفن الصحفي هو فن التغلب على عقبات الفهم ويسر القراءة. ولما كان النص في الصحيفة هو العماد أو الأساس، فيمكن تشبيه الصحفي بمرسل الشقرة والقارئ بالمستقبل، وهذه هي عملية الاتصال التي ينبغي أن تتم بأقل ما يمكن من تداخل، وبطريقة اقتصادية ناجحة. وعلى الصحفي أن يختار رموزه -كلماته وصوره ورسومه وعناوينه- ويقدمها بعناية تامة، وأن يعرف مدى سرعة القراءة لدى القارئ، ومدى التركيز على الكلمات أو مجموعات الكلمات ومدى ما يستوعب في ذاكرته من المعاني المؤقتة حتى ينتهي من قراءة الجملة، وهي في الواقع عملية نشطة يشترك فيها القارئ مع الكاتب لإدراك الصور وتطويرها، فكل كلمة أو كل مجموعة من الكلمات يضمنها في عبارات نصه يجب أن تكون مفهومة من عامة القراء، كما يجب أن تعرض بطريقة جذابة تحقق يسر القراءة، وهو ما يعرف بفن الإخراج الصحفي.
أما فنون التورية وازدواج المعاني أو الهالات الانفعالية حول الألفاظ، وغيرها من فنون الأدب التي تؤدي إلى تداعي المعاني وخاصة في الشعر، فهي بعيدة تماما عن الفن الصحفي؛ لأنها تقطع تيار الاتصال الذي يجب أن يظل مجراه صافيا نميرا.
والواقع أن موقف قارئ الصحيفة يختلف عن موقف قارئ الكتاب. فبينما هو يقرأ الصحيفة بانتباه غير مركز كما يفعل في الحديقة أو القطار أو حتى في الأتوبيس وأثناء تناول الإفطار أو الغذاء، فإن قارئ الكتاب قد يكرس انتباهه ووقته للتركيز على ما يقرأ. ومن هنا كانت ضرورة عرض الأخبار بطريقة صحفية فنية واضحة متلاحمة جذابة تطغى على كل تداخل، ولا يجد القارئ صعوبة في متابعتها.
ويجب على الصحفي أن يضع في اعتباره التصميم محدود المساحة للعمود في الصحيفة والحروف الصغيرة التي تطبع بها وتكون من الصعوبة قراءتها -أحيانا- وخاصة لضعاف البصر. وهذه العوامل تهم الصحفي إلى حد كبير؛ إذ عليه أن يختار كلماته ويضعها في جمل وفقرات تساعد على استبعاد تداعي المعاني أو ازدواجها. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید