المنشورات
وظيفة التوجيه والإرشاد:
وتتصل مهمة الإقناع بالوظيفة الثالثة من وظائف الفن الصحفي وهي التوجيه والإرشاد. وهنا يحتاج الصحفي إلى أكثر من مهمة نقل الأفكار وتفسيرها؛ لأنه ينقل الإيمان بهذه الأفكار. وهذا الإيمان لا ينتقل بمجرد حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدوم إذا ما تعلق بحرارة الفكر.
ومن البين أن مهمة الصحافة قد أصبحت بالغة المشتقة في العصر الحاضر؛ لأنها تنقل كثيرا من الأخبار والآراء المتصلة بالنظريات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة. فليس غريبا أن تقسم أبواب التحرير في الصحف الكبرى أقساما مختلفة. فهذا محرر المسائل السياسية، وذلك محرر الشئون الخارجية، وثالث محرر المسائل الاقتصادية، ورابع متخصص في الشئون المالية، وخامس متخصص في الفن والأدب، بل إننا نجد التخصصات قد تجاوزت ذلك إلى الرياضة والشطرنج والمسرح الفني التشكيل وشئون إدارة الاقتصاد المنزلي وغيرها.
ولم يعد التوجيه والإرشاد مجرد مقالات بلاغية، أو خطب منبرية، بل إنه على العكس من ذلك يتطلب منهجا خاصا في التحرير يقوم على الدليل والبرهان، ويعتمد على الحقائق والأرقام والبيانات والصور والإحصاءات الدقيقة، وهذه هي وسائل الإقناع والتوجيه والإرشاد، وهي التي تعطيه من القوة والتأثير ما لا يمكن أن تحققه الألفاظ الضخمة الجوفاء.
وتنطوي وظيفة التوجيه والإرشاد على مهمة أساسية من مهام الصحافة، ألا وهي القيادة. فالمفروض أن تكون الصحافة بمثابة المعلم أو الرائد أو القائد، فهي التي تأخذ بيد الجماهير، وتساعد الناس على حسم الأمور، فتقضي على التردد، وتحذر من الارتباك، وتحمل المشعل في مقدمة الجمهور لكي تنير له الطريق. وعليها أن تقف دوما في جانب الحق والعدل والخير والفضيلة.
فالصحافة هي حارس الأمة الأمين. فمن الذي يعلم الوطني حقوقه؟ ومن الذي يرشده إلى واجباته؟ ومن الذي يكون له عونا في المعترك الذي يلقي بنفسه فيه، ومن الذي يدرأ عنه عادية كل من أراد به سوءا؟ إنها الصحافة وهي دون غيرها على الدوام.
وإذا لم يكن هناك صحافة أصبحت الشجاعة الأدبية أمرا من الأمور الشاذة، بل أصبحت في حكم المستحيل، وكذلك شأن الشجاعة الحربية، فإن الجندي لا يرمي نفسه فوق الخطر، ولا يقدم على المهالك، إلا عندما ترمقه أعين زملائه ويشجعه صوت الطبول ورائحة البارود!
ولأجل أن يتكون الرأي العام، وتتوطد دعائمه، يجب أن يوجد ذلك الصوت العظيم -صوت الأمة- الذي يعطي كل ذي حقه، فيثني في كل يوم على العاملين، ويؤنب المقصرين، ويذكر الناس بالمنافع العامة المشتركة، وبالمبادئ الاجتماعية، ويؤازر بقوته كل حق من حقوق الأفراد.
ويقول هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديمقراطية": "إن القدرة على توجيه الأخبار وجهة معينة هي نفسها القدرة على حرمان القراء من أن تصل إليهم المادة التي يستطيعون بها أن يكونوا لأنفسهم رأيا في كل مشكلة. وأن من يوازن بين الطريقة التي عالجبت بها الصحافة البريطانية موضوع نزع السلاح في وقت انعقاد مؤتمر جنيف سنة 1932، والطريقة التي عالجت بها تلك الصحافة أخبار السلوك الجنسي عند رجال الدين الإنجليز، في الفترة نفسها، ليشهد أن الصحافة الإنجليزية أولت كل اهتمامها للموضوع الأخير بقصد إهمال الموضوع الأول برغم أنه خطير. وهنا لا يجد القارئ صعوبة ما في اكتشاف الطريقة التي يتكون بها الرأي العام في بلد من بلاد الديمقراطيات الرأسمالية الغربية كإنجلترا".
ولا شك أن سلطة الصحافة في ممارسة النقد والتوجيه جعلها بمثابة السلطة الرابعة إلى جانب السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. وقد قال توماس جيفرسون: إذا خيرت بين صحافة بلا حكومة أو حكومة بلا صحافة لفضلت الأولى على الثانية دون تردد. وكان الإمبرطور الألماني غليوم الثاني يرى أن الصحفيين قادة يوجهون الشعب، وأنهم بمنزلة كبار الضباط بالنسبة للجيش. ويقول جيمس برايس: إن الصحيفة هي التي جعلت الديمقراطية أمرا ممكنا.
ولقد قالها أرسطو منذ عدة قرون أنه إذا كان على المواطنين أن يختاروا حكامهم بالطرق الديمقراطية، وأن ينتخبوا زعماءهم بالأساليب الشعبية عن طريق الاقتراع، فلا بد لهم أن يعرفوا الكثير عن هؤلاء الحكام وأولئك الزعماء أو القادة. ولا شك أن الصحافة تقوم بمهمة التوجيه والإرشاد حتى يحسن الجمهور اختيار حكامه.
ويخطئ من يظن أن مهمة التوجيه والإرشاد مقصورة على المجال السياسي وحده؛ لأن الصحف تقدم للقراء توجيهات أدبية بالنسبة لقراءة الكتب والمقالات الجديدة، وكذلك توجيهات فنية بالنسبة للمسرح والفن والموسيقى والسينما وسائر الفنون الأخرى. وقد تقدم نقدا مدروسا لأوجه النشاط الفني المختلفة وتفرد لها أبوابا ثابتة.
ومن واجب الصحافة أن لا تكتفي بالنشر والإعلان في ميدان الثقافة، بل تنهض أيضا جهة النقد والتوجيه، كما تفعل في المسائل السياسية والاقتصادية ذلك لأن الثقافة غذاء روحي لا يقل أهمية عن غذاء البطون، وقد يكون منه النافع كما يكون منه الضار، ولذلك تعتبر مهمة النقد الأدبي والفني جزءا من رسالة الصحافة.
وقد تفسد الناحية التجارية مهمة النقد النزيه بسبب تدخل الإعلانات، ولكن المهم أن نعرف من الصحافة شيئا عن الأفلام مثلا، حتى يمكننا أن نستعين به لنقرر مشاهدة تلك الأفلام أو عدم مشاهدتها، أو لكي نسمح لأطفالنا وشبابنا بمشاهدتها أو نمنعهم من ذلك. ويذهب البعض إلى أن التوجيه والنقد قد يتضمن التعريف بعقدة الفيلم أو المسرحية، فيفسد على المشاهدين عناصر المفاجأة والترقب والانفعال، ولكن هذا الرأي ليس في الواقع صحيحا على إطلاقه، وذلك بدليل أن الكثير من الأفلام تعرض قصصا معروفة ومكتوبة أو متداولة بين القراء.
وكذلك نجد أن الكثير من المسرحيات الناجحة يكون معروفا للقراء كمسرحيات شكسبير وأحمد شوقي مثلا. بل إن تاريخ المسرح اليوناني نفسه، يثبت أنه قد تناول الأساطير الدينية وغير الدينية بالمعالجة الدرامية الناجحة. ومن ذلك مثلا قصة أوديب وغيرها، ولكن ذلك لم يمنع المشاهدين من الاستمتاع بها، إن عظمة سوفوكليس الحقيقية هي في تناول الموضوع الأسطوري وعلاجه علاجا دراميا. وقصة كليوباترا معروفة تاريخيا، ومع ذلك فقد عالجها شكسبير ودرايدن وكثير من الكتاب الفرنسيين وأحمد شوقي، ولم تكن معرفة الحقيقة التاريخية عائقا للفن المسرحي بحال من الأحوال. وفضلا عن ذلك فإننا نلاحظ أن كثيرا من المشاهدين في المسارح الأوروبية الكبرى لا يكتفي بأن يقرأ بعض المسرحيات قبل مشاهدتها، بل ويصطحب معه نص المسرحية المطبوع ويحاول أن يتابعه أثناء المشاهدة دون أن يفقده ذلك لذته الخاصة في مشاهدة التمثيلية.
وإذن فحجة العدول عن التعريف والنقد بدعوى أن هذه العملية تذهب بعنصر التشويق حجة واهية لا يمكن أن تثني الصحافة عن واجبها في إرشاد الجمهور نحو الصالح وغير الصالح والجميل والقبيح من الأفلام والمسرحيات، لتتركهم يجازفون بوقتهم ومالهم بل وأحيانا بمشاعرهم الخاصة أو مشاعر ذويهم من أطفال ونساء عندما يقدمون على مشاهدة فيلم أو مسرحية قبيحة أو فاشلة أو شريرة، وذلك بينما تستطيع الصحافة أن تقوم بما قد تعجز عنه الحكومات بقوانينها وتشريعاتها ورقبائها وموظفيها في توجيه الانتاج التلقائي والفني الوجهة السليمة النافعة -على حد قول الدكتور محمد مندور- وذلك لأن بالنقد والتوجيه النزيهين ستنزل أكبر عقاب، أو جزاء لتجار الفكر والعاطفة الإنسانية إذ ترزأهم بالخسارة المادية وتضيع عليهم أكبر ما يحرصون عليه وهو الربح المادي الآثم.
لقد أصبحت الصحافة العربية تتولى في هذه الأيام مهمة كبيرة في توجيه الثقافة والأدب والفن، وهي لا تزال تواجه في أداء هذه المهمة عدة مشاكل لا بد أن تبت فيها برأي، ثم توجه الأمة نحوه، وتأتي هذه المشاكل من عدم تحديد موقف ثقافي واضح بين الشرق والغرب، وبين الحديث والقديم، وبين الترجمة والإنتاج الذهني، ولكن لا بد لكل صحيفة أن تختار لها منهجا قويما ترتضيه، وفقا لما تراه خيرا لها وللعالم العربي. وفي كل ذلك لا ينبغي أن يكون حكم الصحافة حكما جزافيا نزقا، بل ينبغي أن يكون حكما واضحا قائما على التعليل وقابلا لشرح والتفسير، ومبنيا على الحجج والبراهين، وهكذا يكون التوجيه والنقد إرهاصا بفن المستقبل المرتجى.
وفضلا عن ذلك فإن الصحافة الحديثة قد أصبحت تقوم بتوجيه الطفل والمرأة وخاصة بعد أن تركت المرأة البيت إلى العمل في المصنع والحقل والمدرسة والمستشفى والجامعة وفي كل مكان. إن الصحافة -والإعلام بوجه عام- يقدم للطفل من الأخبار والمعلومات والقصص والتسلية ما كانت تقدمه ربة البيت أو الجدة حتى الأمس القريب، بل إن فنون تربية الطفل، وإعداد المائدة، وحتى طهو الطعام، وتنسيق الأثاث، وزخرفة المنزل، وفنون التجميل، وتفصيل الأزياء وحياكتها، أصبحت موضوعات شيقة في صحافة اليوم.
وهكذا نرى أن المجتمع الحديث المعقد قد ترك للصحافة وظائف جديدة، كان يقوم بها آخرون من قبل، عندما كان المجتمع بسيطا متماسكا ساذجا.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)